مفارقة فولبرايت: الجمع بين قيم أميركية متباينة داخليا وخارجيا/ تشارلز كينغ
كان عملاً سياسياً شجاعاً ترددت أصداؤه في جميع أنحاء واشنطن، إن لم نقل العالم. مع قدوم يناير (كانون الثاني) 1954، كانت اللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات في مجلس الشيوخ الأميركي، برئاسة السيناتور جوزيف مكارثي، قد قلبت حياة الكثيرين رأساً على عقب، ودمرت مسيراتهم المهنية، في محاولة للكشف عن مؤامرة خيالية تحاك داخل الحكومة والمجتمع الأميركيين. وحل ذلك الشهر ميعاد تجديد تفويضها. وعند استدعاء أعضاء مجلس الشيوخ بالإسم لكي يوافقوا على اقتراح استمرار اللجنة بعملها، علت في القاعة كلمة “كلا” واحدة مصدرها السيناتور الديمقراطي المبتدئ عن ولاية أركنساس، جاي. ويليام فولبرايت. وقال فولبرايت لاحقاً عن مكارثي “أدركت أن لا حدود لما قد يقوله ويلمح له ويضمره. ومع استمرار جلسات الاستماع خطر لي فجأة أن هذا الشخص قد يقوم بأي شيء لكي يخدعك في سبيل تحقيق غايته”. وفي سنة واحدة، ساهم فولبرايت بإقناع 66 سيناتوراً آخر بالانضمام إليه في حظر مكارثي وإنهاء مسيرته الغوغائية. ومع حلول ربيع عام 1957، كان مكارثي قد رحل، إذ توفي بالتهاب الكبد، الذي فاقمه شرب الكحول.
نعت الرئيس هاري ترومان فولبرايت في إحدى المرات بـ”حقير أكسفورد بالغ التعليم [مفرط في التحصيل العلمي]”، وربما شعر السيناتور بأنه محق في رأيه. فباعتباره حائزاً منحة رودس الدراسية، ومروجاً ومؤيداً للأمم المتحدة، ومعادياً للمكارثية، ورئيس جلسات الاستماع التي ساهمت في فضح فظائع حرب فيتنام، ومؤسس برنامج التبادل الأكاديمي الذي يحمل اسمه – والذي دخل الآن عامه الخامس والسبعين – كان مؤهلاً لوصفه بأنه أكثر الأميركيين الأمميين [المنفتحين على العالم] تأثيراً على نطاق واسع في القرن العشرين. ومنذ أول ترشح له لمنصب فيدرالي في عام 1942، وحتى وفاته في عام 1995، قدم نفسه على أنه مصلح سياسي يجوب أميركا المنقسمة: رجل إنقاذ يسعى إلى تخليص ما استطاع من بلاد مزقتها قضايا العرق والطبقة الاجتماعية [التفاوت الاجتماعي] والجغرافيا معظم حياته المهنية.
تشكلت أفكار فولبرايت في حقبة من الاستقطاب الحزبي والغوغائية الحادة التي لم يعرف لها مثيل إلا بعد بروز نجم دونالد ترمب. وتعتبر حياته بالتالي درساً عملياً حول التفكير [البصيرة] العالمي [المنفتح على شؤون العالم] في حقبة من الحقد وفقدان الثقة على الصعيد السياسي – إنما ليس على نحو ما قد يخال المرء.
وبالإضافة إلى تمتعه ببعد نظر على صعيد السياسة الخارجية، كان فولبرايت كما وصفه كاتب سيرته الذاتية، راندال وودز، قبل 26 عاماً، “عنصرياً”. وقد جاهر بمعارضته الدمج العرقي في المدارس الحكومية كما نص عليه حكم المحكمة العليا في عام 1954 في قضية براون ضد مجلس التعليم. وخلال ستينيات القرن الماضي، سعى إلى تعطيل إقرار تشريع الحقوق المدنية التاريخية في تلك الحقبة، أو إلى نقضه [التصويت ضده وإجهاض إقراره]، ثم زعم في فترة لاحقة من حياته، أن هذا الموقف كان تكتيكياً، إذ اعتمدت إمكانية الفوز بالانتخابات في ولايته أركنساس على الدفاع عن حقوق الولايات وتبني مقاربة تدريجية لتحقيق المساواة للأميركيين السود، كما قال، ولكن برأي من عرفوه، لم تصدق هذه الحجة سوى جزئياً. وكتب وودز “بنظره، لم يتساو الأشخاص السود الذين عرفهم مع البيض ولم يكن بإمكان مرسوم تشريعي أن يحقق هذه المساواة”.
يفصل أقل من جيل واحد فقط بين المواطنين الأميركيين اليوم ونظام الفصل العنصري الذي دافع عنه فولبرايت. ولم يمر على الولايات المتحدة سوى رئيس واحد بلغ سن الرشد خلال الفترة التي سادت فيها المساواة الكلية بين الأعراق في البلاد. وفي المقابل، ولد 81 سيناتوراً من بين 100 سيناتور حالي في أميركا في زمن كان من الممكن فيه اعتقال الناس لزواجهم بأشخاص من عرق آخر. إن الأميركيين أكثر تسلحاً، وأكثر تساهلاً مع عمليات الإعدام في معزل عن الإطار القضائي، وأكثر تقبلاً من مواطني أي بلد آخر في العالم الحر لفكرة سجن الدولة وإعدامها [مشتبه فيهم]. ويعتبر قسم أكثر تشدداً من السكان أن التمكين الاجتماعي [دمج الأقليات أكثر] الواسع النطاق يشكل خطراً وجودياً، وقد تبين أن مؤسسات البلاد هشة في مواجهة مسؤولين عازمين على تخربيها. لو كنا بصدد تحليل دولة أخرى ذات مكانة مماثلة تاريخياً، لكان ناقوس الخطر في شأن مصير الديمقراطية يدق.
في لحظات الأزمات، يمثل فولبرايت حالة توضيحية، إذ كان شخصية سخرت حياتها لفهم العالم، إنما تعذر عليها مع ذلك تطبيق القيم نفسها داخل بلادها، لكن ما قد يبدو تناقضاً في نظرة فولبرايت ما هو إلا مرآة نظرة الأميركيين أنفسهم. فالجمع بين الانفتاح الذهني في الخارج والتزمت في الداخل لا يقتصر عليه وحده، إذ تناسقت آراؤه مع قناعة أعمق في فن الحكم الأميركي بأنه من الأفضل أن تسعى القوة العظمى لتحقيق مصالحها عبر الفصل بين السياستين الداخلية والخارجية، لكن في عصر الاستبداد الذكي، بات المنافسون الأجانب يتمتعون بنظرة أوضح إلى المجتمع الأميركي من أي وقت مضى في التاريخ الحديث. وغالباً ما يكون فهمهم للدراسات الأميركية فطناً بدرجة مذهلة، ويرافقه فهم للانقسامات حسب الطبقة الاجتماعية والعرق والموقع – وقدرة غير مسبوقة على استغلالها.
سوف تفرض إعادة صوغ السياسة الخارجية الأميركية على الأميركيين أن يردموا الهوة القديمة بين أنصار العولمة الملتزمين من جهة والمهتمين بالشأن المحلي من جهة أخرى. وهذه المهمة أكثر تعقيداً من القيادة عبر “قوة المثال الذي نقدمه للآخرين”، كما ردد الرئيس جو بايدن غير مرة، ولا سيما عندما يتضمن ذلك المثال جهداً منظماً من أجل قلب [تقويض] الديمقراطية الانتخابية. في سبيل التصدي للقوميين غير الليبراليين والشوفينيين الصاخبين من بينهم، على الأميركيين التحلي بالوعي الذاتي المتزن الذي زعم فولبرايت أنه أساسي للغاية من أجل العيش بذكاء في العالم. ترسم بصيرة فولبرايت وقصر نظره على حد سواء وجوه رواية صعود بلاده في القرن العشرين. ومع فرض قيود جديدة على قدرة الوصول للانتخاب [تقييد حق الناخبين] وتحضر المزيد من مرشحي “أميركا أولاً” للمنافسات الانتخابية، ما زال السؤال الجوهري في حياته مناسب جداً اليوم: ما الثمن الذي يدفعه كيان سياسي قائم على النظام العرقي مقابل دوره العالمي؟
رجل من هذا العالم
كان فولبرايت خير مثال على نوع من السياسيين المنفتحين على العالم في حقبة منتصف القرن الماضي: أبيض البشرة، رجلاً، أرستقراطياً في أسلوبه، وإن لم يتحدر من مثل هذه البيئة، تلقن دروساً عن تفوق الحضارة الأنغلو-ساكسونية وأحكام النبل على حد سواء. نشأ في شمال غربي أركنساس خلال الذروة الاجتماعية لمنطقة مرتفعات جنوبية ريفية أغلبية سكانها من البيض. وكانت والدته، روبرتا، سيدة أعمال محلية تمتعت بشبكة علاقات واسعة وبموهبة الإقناع. وحققت طموحاتها عبر بيل، كما كان يدعى، الذي ساعدته على شق طريقه إلى الحصول على منحة رودس الدراسية، ومنصب المحاضر الجامعي، ورئاسة جامعة أركنساس، وكل ذلك قبل بلوغه عامه الخامس والثلاثين.
بدأت مسيرة فولبرايت السياسية بولاية في مجلس النواب الأميركي، تبعها ترشيح على منصب في مجلس الشيوخ. وامتدت ولايته في مجلس الشيوخ من فترة حكم الرئيس فرانكلين روزفلت إلى حكم الرئيس جيرالد فورد، وما زال صاحب الرقم القياسي لأطول خدمة متواصلة في منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. وبسبب برنامج المنح الدراسية الذي أسسه بموجب قانون من الكونغرس بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، أصبح اسم فولبرايت متداولاً قبل أن يتبين الناس سبب ذلك بالتحديد. أتى التمويل الأولى لبرنامج فولبرايت من تدبير بارع للميزانية وعلاقات دولية وراء الأبواب المغلقة: بيع الأصول الحربية التي تركتها الولايات المتحدة وراءها في بلدان أخرى، وكان من الصعب إعادتها إلى البلاد وقد تصبح عديمة القيمة إن حولت إلى دولار، من أجل دفع مصاريف الأميركيين الذين يدرسون ويجرون أبحاثاً هناك. وقد تحول مع الوقت إلى أكبر برنامج منح أجنبي، يحظى بدعم ثنائي من واشنطن والحكومات الشريكة. وفي خمسينيات القرن الماضي، وضع البرنامج فولبرايت نفسه تحت مجهر مكارثي، إذ إن متلقي المنح هم كارهون لأميركا يروجون للشيوعية، كما زعم مكارثي. وبنظر فولبرايت، كان ذلك سخافة. وقال لمكارثي خلال إحدى جلسات الاستماع “حتى إن جمعت عدداً من الأصفار، لن تصبح حصيلتها واحداً”.
خلال العقدين التاليين، أدى فولبرايت دوراً بارزاً في بعض أكثر حوادث الحياة المدنية أهمية في ذلك العصر. مع تحول حرب فيتنام إلى مستنقع للسياسة الخارجية وأزمة وطنية على حد سواء، عقد فولبرايت سلسلة من جلسات الاستماع داخل مجلس الشيوخ شككت في أسباب الحرب، وتكلفتها من حيث الأرواح والمكانة، وسبل وضع حد لها. وقد أدخلت جلسات الاستماع المتلفزة، التي امتدت من 1966 إلى 1971، النقاش الرفيع المستوى حول النزاع إلى غرف جلوس الأميركيين. خلال حكم إدارتي ليندون جونسون وريتشارد نيكسون، استدعي كل أصحاب القرار في مجالي العلاقات الخارجية والدفاع من أجل تقديم شهادتهم. وأكد الدبلوماسي والمخطط الاستراتيجي جورج كينان أن عديداً من الشيوعيين المعلنين، مثل الزعيم الفيتنامي الشمالي هو تشي منه، قوميون بالحقيقة. وأوصى كينان بـ”تصفية حاسمة وشجاعة للمواقف غير السليمة” – أي بعبارات أخرى، إيقاف الحرب. وقبل أن يصبح نفسه سيناتوراً أميركياً بوقت طويل، طرح جون كيري البالغ من العمر حينها 27 عاماً، وهو يرتدي الزي العسكري ويضع أشرطة التكريم لقاء خدمته العسكرية ويمثل حركة قدامى مقاتلي فيتنام ضد الحرب، أكثر سؤال لافت في ذلك الوقت “كيف تطلب من أحدهم أن يكون آخر الرجال الذين يموتون في سبيل خطأ [قرار خاطئ]؟”. وحين دافع وزير الخارجية دين راسك عن سياسات إدارة جونسون، رد عليه فولبرايت بلكنته الجنوبية المشككة، كأنه محامٍ جنوبي ينقض على شاهد مراوغ.
إن كان من لحظة بدأ فيها البيت الأبيض بخسارة [تأييد] الطبقات الوسطى الأميركية، فهي لحظة جلسات استماع فولبرايت. ومنذ البداية، كان جونسون قلقاً من تأثيرها لدرجة أنه ضغط على إحدى شبكات التلفزة من أجل إعادة عرض مسلسل “أحب لوسي” عوضاً عن التغطية المباشرة. وخلال الشهر الأول فقط، تراجعت نسبة تأييد الرئيس في قرار الحرب من 63 إلى 49 في المئة. وما زاد من قوة دور فولبرايت دعمه السابق لقرار خليج تونكين الصادر في عام 1964، الذي مهد للهجوم الأميركي الشامل على الفيتناميين الشماليين، لكن مع تنصيب نيكسون في عام 1969، كان فولبرايت قد تحول إلى ما لم يتوقعه ولم يكن في حسبانه – ناشط مناهض للحرب. كان الشارع في قبضة الثقافة المضادة، لكن ما كان في قبضة فولبرايت هو القدرة الدستورية على أن يسائل مجلس الشيوخ الرئاسة، حتى عندما يسيطر الحزب نفسه على المؤسستين. وشكل ذلك تجسيداً لرؤية الآباء المؤسسين لم يتكرر مذاك.
ظهرت الفلسفة السياسية التي آمن بها فولبرايت بكامل تفاصيلها في تلك اللحظات أمام عدسات الكاميرات. عندما كان طالباً في جامعة أكسفورد في عشرينيات القرن الماضي، تبنى إيماناً فضفافاً بالتقدم وتوقعاً بالتعاون بين الدول، خففه بعض التشاؤم إزاء قدرة البشر على حسن التصرف. ومن موقعه كمشرع، بدا غالباً كأنه انعكاس لرجل الدولة البريطاني المحافظ إدموند بورك. واعتقد بورك أن الهيئات التشريعية تقدم أفضل أداء لها عندما تتألف من أفضل الأفراد [النخب]: المتعلمين، الذين لديهم فضول في شأن العالم، وأصحاب الكفاءة والبراعة. لم يقتصر دورهم على سن القوانين، بل على نشر المعرفة في صفوف ناخبيهم – “تعليم الأمة ما لا تعلم”، كما قال المنظر الدستوري الإنجليزي من القرن التاسع عشر والتر باجيت.
إن العالم متعدد الأقطاب، مما يتطلب تسامحاً مع اختلاف الآراء والثقافات، بالإضافة إلى مؤسسات دولية تعمل بشكل سليم وتعزز الاعتماد المتبادل بين الدول. ضغط فولبرايت من أجل التفاعل مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وعندما بدأ النظام الشيوعي بالتعثر في فترة لاحقة من حياته، أوصى بضبط النفس والتواصل بدل القيام برقصة النصر [الشماتة والاحتفال بهزيمة الخصم]. بحسب اعتقاده، يجب أن يحدث التغيير تدريجياً. فبالنسبة لأعداء الأمة كما لناخبي المشرع، لا يفيد إرغام الناس على ما ليسوا مستعدين له. والحكومات، سواء داخلياً أم خارجياً، تقدم أفضل أداء لها حين تمارس النهج العملي وتتبع القانون.
ومع أن بعض هذه الأفكار تطرح اليوم على أنها مرتبطة بنهج ويلسون، فشطر كبير منها – مثل التعددية، والتسامح، وأولوية سيادة القانون – رفع لواءها شخصيات من البيض المناهضين للمساواة العرقية. وتقاطعت نظرة فولبرايت في هذه النقاط مع غيره من مناصري الفصل العنصري، مثل الرئيس وودرو ويلسون نفسه. في عام 1956، وقع فولبرايت إعلان المبادئ الدستورية، الذي يعرف كذلك باسم البيان الجنوبي، إلى جانب 100 عضو آخرين في مجلس الشيوخ. وقد قننت الوثيقة المقاومة الجنوبية للدمج العرقي باعتبارها حقاً من حقوق الولايات. ودانت “المحرضين ومثيري الشغب” الخارجيين وتعهدت باستخدام “كافة السبل المشروعة” من أجل مقاومة القانون الفيدرالي.
كان من الممكن أن تخرج الوثيقة بصيغة أكثر تطرفاً وتشدداً بعد لو لم يعمل فولبرايت في الكواليس على التخفيف من حدتها. وقد تكون كلمة “المشروعة” إحدى الكلمات التي أدخلها هو على الوثيقة. ومع ذلك، اختار ديمقراطيون جنوبيون آخرون، مثل آل غور الأب وجونسون الذي كان حينئذٍ رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ، عدم التوقيع على البيان. خلال باقي الخمسينيات ووصولاً إلى ستينيات القرن الماضي، حين وصلت تشريعات الحقوق المدنية إلى مجلس الشيوخ، تمسك فولبرايت بموقفه مجدداً. وزعم خلال إحدى محاولات عرقلة إقرار القانون أن “الزنوج في ولايتي يصوتون بحرية ومن دون إكراه”. وكرر بأن الدفاع عن امتيازات الجنوب هو موقف يدعم القيود الدستورية. ففرض التغيير عن طريق التفويض الفيدرالي يضر بخصوصيات الجنوب التي ورثها عن عهد العبودية، بما فيها مجرد عيش أغلبية من البيض إلى جانب أقليات كبيرة من الأميركيين الأفارقة.
حين استرجع فولبرايت تلك اللحظات، حتى خلال الثمانينيات من عمره، ذكر القيود التي فرضتها عليه رغبات ناخبيه. فقد اعتقد عندها أنهم بحاجة للوقت من أجل تغيير موقفهم من المساواة، لكن الناخبين الذين كان من اليسير عليه رؤيتهم هم الناخبون البيض. أما جماعات الأميركيين من أصل أفريقي في دلتا الميسيسيبي في أركنساس، الذين مثلهم كذلك، فكانوا غير مرئيين [لم يحسب لهم الحساب] إجمالاً. وزعم فولبرايت أن المشكلة هي في أنهم لم يدلوا بأصواتهم، ولكن لا بد أنه علم لماذا كان ذلك صحيحاً جزئياً. فنظام الحرمان من الحقوق والإرغام والإرهاب المطبق بشكل واسع في الجنوب كان لا يزال موجوداً بقوة خلال ولايته في كابيتول هيل.
غالباً ما يروي الأميركيون قصة حركة الحقوق المدنية باعتبارها صراعاً بين مناصري الرق ومناصري التحرر، لا شك في أنها كانت كذلك، لكن فولبرايت احتل كذلك مساحة شغلها كثير من القادة البيض في تلك الحقبة، ولا سيما المهتمين منهم بالشؤون الدولية. وكان ذلك موقفاً كمنت مساوئه في تفاهته المجردة [ضمر موقفه شراً تافهاً].
ففي ظل وجود قضايا الحرب والسلم العظيمة التي تسترعي الانتباه، شعروا بأن حصول الأميركيين السود على حقوق المواطنة كاملةً ليست مسألة مهمة يعتد بها.
حياة الجنوب
ليست التناقضات في نظرة فولبرايت محيرة سوى من زاوية محددة. غالباً ما تنسب السياسة الخارجية الأميركية إلى نيو إنجلاند – “المدينة القابعة فوق التلة” على ما وصفها جون وينثروب، المستوطن في خليج ماساتشوستس، ورجال هارفرد وييل الذين صمموا المؤسسات الدولية وأداروا شؤون الحرب الباردة، وغيرهم – لكنها نشأت في الجنوب.
كانت خصائص منطقة الرق ركيزة أساسية في نشأة العلاقات الخارجية الأميركية، ولاحقاً التوسع نحو الغرب، كما أظهر مؤرخون مثل سفين بيكرت وماثيو كارب وهيذر كوكس ريتشاردسون وغيرهم. فالثروة التي أنتجتها زراعة القطن والتبغ وغيرها من السلع – وهي ثمار العمل بالسخرة لأكثر من أربعة ملايين امرأة ورجل في مزارع تمتد من خليج تشيسابيك إلى خليج المكسيك – شكلت دافعاً للالتزام بالتجارة الحرة. لم يدافع القادة القوميون في الولايات الجنوبية عن العبودية باعتبارها مؤسسة وطنية فحسب، بل دافعوا عنها من منطلق كونها ركيزة الأحلاف والنظام العالمي. وقد كان الخط الثابت في فكر السياسة الخارجية في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية هو نهج الجيفيرسونية المحلية الأخرى في الجنوب – ليس في إشارة إلى توماس جيفرسون بل إلى السيناتور جيفرسون ديفيس، رئيس الولايات الكونفيدرالية المقبل. وفي خطاب ألقاه في عام 1858، قال ديفيس، “نرى بين جيراننا في أميركا الوسطى والجنوبية العرق القوقازي، وقد اختلط بالهندي والأفريقي. لديهم شكل الحكومة الحرة لأنهم قلدوه، لكنهم لم يبلغوا فوائده لأن ذلك المستوى من الحضارة يفوق عرقهم”. لم يعتقد ديفيس وغيره من الجنوبيين أن رسالة الولايات المتحدة تكمن بنشر مبادئ الحرية العالمية والنهج الجمهوري، بل بتشكيل نموذج عن تفوق الاقتصاد السياسي القائم على تراتبية الأعراق المفترضة.
بعد انتهاء حقبة إعادة الإعمار في أعقاب الحرب الأهلية، تعاظم تأثير أصوات الجنوبيين وأفكارهم محلياً ووطنياً. لم يخسر الجنوب الحرب الأهلية بقدر ما صدرها، فانتشرت نظريات وتقنيات جديدة من الفصل العنصري وتخطت حدود المنطقة نفسها. وعلى الصعيد الداخلي، رسخ نظام جيم كرو نفوذ البيض في القانون والاقتصاد والسياسة، كما فعلت مكافحة التمرد العنيفة الموجهة ضد الأميركيين الأصليين، التي قام بها الجيش النظامي في السهول الغربية. وسارعت المناطق التي لم تكن مرتبطة قبلاً بالكونفيدرالية القديمة، بدءاً من إنديانا ووصولاً إلى كاليفورنيا، إلى وضع نسخها الخاصة من الفصل العنصري، التي شملت منع الزواج المختلط بين الأعراق وتقييد حقوق التصويت.
أما على الصعيد الدولي، فقد برر تدخل الولايات المتحدة في هاواي والفيليبين وكوبا وهاييتي باستخدام الصور نفسها التي اعتبر جنوبيون كثر قبل الحرب أنها تمثلهم: الرجولة وتفوق العرق الأبيض والإيمان بنبل النوايا الشخصية، حتى عندما يراها الآخرون رعباً [إرهاباً]. رأى الخبراء الاستراتيجيون خريطة العالم من منظور التآلف الطبيعي – الأوروبيون مع سلالتهم، والأفارقة مع سلالتهم – الذي جعل الأجانب أقرباء والشركاء في الوطن غرباء. كانت السياسة فن إدارة الأثر الجانبي المؤسف للاستعباد، والهجرة والإمبراطورية، أي واقع اختلاط الأعراق. لم يختلف مبدأ السياسة الأساسي الراسخ بين داخل حدود الولايات المتحدة وخارجها “صراع وجودي قاسٍ ومؤلم… بين الأعراق المتفوقة والشعوب الأصلية العنيدة”، كما جاء في كتاب السياسات العالمية في نهاية القرن التاسع عشر، والصادر في عام 1900 لكاتبه بول راينش، خبير العلوم السياسية والدبلوماسي من ويسكونسن.
ظل المنطق نفسه سائداً خلال الحرب العالمية الثانية، مما أتاح احتجاز المواطنين اليابانيين الأميركيين داخل معسكرات اعتقال في الولايات المتحدة، وطبع رؤيتين مختلفتين للصراعات في أوروبا والمحيط الهادي. وكتب المراسل الصحافي إيرني بايل من جبهة المحيط الهادي “في أوروبا، شعرنا بأن أعداءنا، مهماً كانوا مريعين وفتاكين، هم مع ذلك بشراً، لكنني فهمت سريعاً هنا بأن اليابانيين ينظر إليهم باعتبارهم دون البشر ومقززين، كما يشعر بعض الناس تجاه الصراصير أو الفئران”. وشكلت الآليات التي ساهمت في تغذية وانتشار هذه الأفكار، كما كتب الباحث وزعيم الحقوق المدنية دبليو إي بي دوبوا في المجلة الأميركية لعلم النفس في عام 1944، جزءاً من هيكلية السياسة الأميركية “يستمد الجنوبيون نفوذهم من قمع حقوق الزنوج والفقراء من البيض في التصويت، مما يضاعف النفوذ السياسي لدائرة ميسيسيبي الانتخابية النتنة أربع مرات مقارنة بنفوذ ماساتشوستس ويمكن الجنوب من خلال قانون الأقدمية من ملء لجان مجلس الشيوخ والهيمنة عليه”.
لكن، تبين أنه من الصعب استمرار الحفاظ على التناغم بين النظام الداخلي والسياسة الخارجية. خلال خمسينيات القرن الماضي، بدأت المعارضة النامية للتمييز على أساس العرق، التي تابعت مسارها داخل قاعات المحاكم وعبر الأعمال البطولية التي قام بها الأميركيون السود، شيئاً فشيئاً بإضعاف النظام الذي أممه البيض الجنوبيون فعلياً بعد سبعينيات القرن التاسع عشر. فقد سعى منافس عالمي جديد هو الاتحاد السوفياتي، جاهداً من أجل تسليط الضوء على النفاق في صلب المزاعم الأميركية شأن الحرية والديمقراطية. من المغري إعادة النظر في تلك المقاربة السوفياتية باعتبارها عنصراً ثانوياً في مناورات الحرب الباردة، لكنها في ذلك الوقت، أثارت قلقاً حقيقياً في أوساط الدبلوماسيين الأميركيين، والمحللين الاستخباراتيين وغيرهم من الأشخاص الذين أدركوا نقاط الضعف التي تولدها العنصرية الأميركية. وفي المذكرة الودية (amicus brief) التي رفعتها للمحكمة العليا في شأن قضية براون ضد مجلس التعليم، قالت وزارة العدل الأميركية “يغذي التمييز العنصري الدعاية الشيوعية، وهو يثير الشكوك حتى في أوساط الدول الصديقة في شأن مدى تفانينا في سبيل الديمقراطية”.
أصاب الشيوعيون في وجهة نظرهم طبعاً، وإن كانت مزعجة. سأل الرئيس جون إف. كينيدي أحد مساعديه مرة من المرات بعد أن أثار مطعم في ماريلاند مشكلة دولية برفضه تقديم الخدمة لممثل تشاد لدى الأمم المتحدة “ألا يمكنكم أن تقولوا للأفريقيين ألا يقودوا سياراتهم على الشارع 40 ببساطة؟”. بالنسبة للسياسيين والمثقفين البيض، كان أسهل الأمور القبول بانفصال العالمين المحلي والخارجي في الأساس، وبأنهما يقتضيان منطقاً أخلاقياً مختلفاً ونماذجاً تحليلية معينة. وكتب الباحث هانز مورغنثاو في كتابه “السياسة بين الأمم” الذي نشر للمرة الأولى في عام 1948 “تشكل السياسة الداخلية والدولية على حد سواء صراعاً على السلطة”، ومع ذلك “تسود في كل من المضمارين شروط أخلاقية وسياسية واجتماعية عامة مختلفة”. كانت الدول وحدات أو ذرات [متفرقة] تفتقر إلى التزام الأخلاق ضمن النظام العالمي، تسعى كل واحدة منها وراء هدف يسمى المصلحة الوطنية. وعمدت الولاية إلى استخدام لعبة الاستراتيجية الكبرى في سبيل تحقيق أهدافها، آخذةً بعين الاعتبار الموارد المتوفرة لها وتصرفات حلفائها وأعدائها. قد تشير قراءة نصوص مختارة من اليوناني ثوسيديديس [ثوقيديدس] والإيطالي مكيافيلي إلى أن هذه كانت طريقة التفكير المعهودة في الشؤون العالمية طيلة قرون. ومع مرور الوقت وحتى عندما بدأ الباحثون بفتح الصندوق الأسود لطريقة عمل الدولة، كانت بواعث سلوكها التي ظهرت إما شخصانية أو هيكلية صرف، على غرار المنافسة بين المؤسسات أو المجمع الصناعي العسكري، أو سياسات مجموعات أصحاب المصالح.
وأدى ذلك إلى استبعاد أهم القضايا الداخلية الأكثر إلحاحاً عن مشاغل [مدار تفكير] المنفتحين على الآفاق العالمية. خلال فترة تشابكت فيها السياسة الأميركية والقضايا الدولية أكثر من أي وقت سابق – حيث كانت القضايا متواشجة تغذي بعضها بدءاً من ماهاتما غاندي إلى مارتن لوثر كينغ الابن، ثم تصب في الصراعات المناهضة للاستعمار والمناصرة لحقوق الإنسان حول العالم – بدا نفي هذه الصلات حيوياً في صياغة مفهوم متناسق [متماسك] للمصلحة الوطنية. ففي النهاية، تظل الإرادة الجماعية ثابتة طالما ظل المرء قادراً على تقرير من يمكن احتسابهم ضمن هذه الجماعة. وبهذه الطريقة، أتيح لكل صانع سياسات أبيض رائد وكل خبير في الشأن العالمي تقريباً في تلك الحقبة أن يهمش العنصرية والحرمان من الحقوق والاستعمار، كما حاججت الباحثتان كيليبوغيلي زفوغبو وميريديث لوكين في مقالة نقدية أساسية. ولحظتا في مجلة فورين بوليسي العام الماضي، أنه بين عامي 1945 و1993، لم تظهر كلمة “عرق” سوى مرة واحدة فقط في عناوين المقالات التي نشرتها أهم خمس مجلات تتناول العلاقات الدولية. وفي براعة لافتة بإخفاء الأمور، توقف الباحثون عن الاعتراف بالصلات بين القوة الداخلية والطموح العالمي، وهو ما كان وجوده واضحاً في نسخته المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، لأشخاص مثل ديفيس، بالأخص حين كانت تلك الصلة تكتسب أهمية قصوى: في مرحلة تعاظم النفوذ الأميركي.
على الرغم من كل أوجه الاختلاف بينها، تشاركت رموز مؤسسة الحكم التي شكلت دور الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الإيمان بمفهوم الساحة [الدائرة] الدولية باعتبارها مكاناً آمناً منفصلاً عن القضايا التي تعني الداخل، يشغلها إجمالاً رجال من طينتهم (لا شك طبعاً في أن جنس [الشخص] كان مهماً). ومن هذه النواحي، كان فولبرايت مثالاً عن طاقمه من مفكري السياسة الخارجية – كينان ومورغنثاو، ودين آتشسون، وجون فوستر، وآلن دالاس، وهنري كيسينجر – التي شكلت سلسلات سيرهم الذاتية في مرحلة من المراحل معيار كتابة تاريخ العلاقات الخارجية الأميركية.
وشأنهم، رفض الانعزالية التي نادى بها تشارلز ليندبرغ الطيار ونجم لجنة الضغط “أميركا أولاً”، وأسلوب مكارثي الرنان في معاداة الشيوعية، والخوف المرضي لجورج والاس السياسي من ألاباما من التزاوج بين الأجناس. كان كل واحد من هؤلاء بنظره، دون المستوى الاجتماعي المطلوب، وما هو أسوأ بعد بالنسبة لشخص نصب نفسه نبيلاً، حماسياً ومندفعاً.
وفي المقابل، ما احتاجت إليه إدارة قضايا الدولة العظيمة في الحقيقة هو رجاحة العقل والبصيرة السليمة. وكتب فولبرايت على هذه الصفحات [صفحات فورين أفيرز] في عام 1979 “إن الحس السليم للقيم والقدرة على التمييز بين الأمور ذات الأهمية الحيوية وتلك السطحية [الثانوية] من المؤهلات التي لا غنى عنها بالنسبة للمشرع الجيد”. ومن الأمور ذات الأهمية الحيوية بالنسبة له تعزيز دعم الأمم المتحدة. أما السطحية كما قال فهي ضريبة الانتخاب، التي علم أنها تستخدم من أجل إقصاء المواطنين السود عن صناديق الاقتراع. وكتب “بصرف النظر عن مدى قدرة زملائي أو الصحافة الوطنية على الإقناع في مسألة مساوئ ضريبة الاقتراع، فلا أرى أي أهمية حيوية للمسألة”.
سيعتبر معظم القراء اليوم أن لفظه حقوق التصويت صادم، لكن هذا التمييز كان كان شائعاً ويحمل دلالات عن ذلك الوقت. فقد شكل مثالاً على صياغة المصالح الوطنية بطريقة تتفادى العقد: بالنسبة لمن؟ ولأي غاية؟ ولمصلحة من فعلياً؟ صاغ فولبرايت نفسه مرة عبارة تصف ما يعنيه التهرب من قضايا كهذه. وظهرت على غلاف أحد كتبه العديدة، وإن لم يخطر له أبداً أن يجعل نفسه موضع التحليل. أما عنوان الكتاب فهو غطرسة السلطة.
والآن، يتعامل جيل جديد من المؤرخين وخبراء العلوم السياسية بجدية مع مشاكل الديمقراطية الأميركية، ويضعونها في الإطار المقارن المناسب. وهم يعيدون تحديد دور العنصرية ومناهضة العنصرية في التاريخ الأميركي، كما يحييون ذكر مفكرين، بدءاً من دوبوا ووصولاً إلى الناشطة الرائدة في حركة الحقوق المدنية بولي موري، التي ربطت بوضوح بين السياسات الداخلية والسياسة الخارجية. وترافقت هذه العملية مع إعادة تفكير ضرورية في الاستعلاء العنصري المتضمن في مناهج الجامعات وقوائم إصدارات الناشرين، وسيناريوهات الأفلام، والمعارض الفنية والمراجع السمفونية، وغيرها من المجالات. فإن يدرس طلاب الجامعات الأميركية الدبلوماسية من دون التعرف إلى رالف بونش، وعلم الأنثروبولوجيا من دون كتابات زورا نيل هورستون، والتاريخ من دون كارتر جي وودسون لمؤشر على الدرب [الطويل] المتبقي الذي يجب قطعه من أجل إلغاء التمييز العنصري من المخيلة. ليست إعادة اكتشاف أصوات السود من أمثال هؤلاء مسألة “بوليتيكل كوريكت” (الصواب السياسي) أو “الوعي بالقضايا الاجتماعية” – فمن الذي يتحلى بإدراك ذاتي ويستخدم هذه العبارات؟ – أو حتى قضية عدالة، مع أنها قد تصب في ذلك الاتجاه، بل تقوم في أساسها على كون المرء أقل غباءً.
يمكن أن تستند سياسة دولية أميركية جديدة منفتحة على العالم [غير منكفئة] إلى هذه القاعدة الجديدة. ويجب أن تنطلق من الواقع المتداخل لبلد قام على خليط من الرق وقيم عصر التنوير – فيضع المرء في اعتباره في الآن ذاته عام 1619، حين أحضر الأفارقة الأوائل قسراً إلى المستعمرات، وعام 1776، حين صدر إعلان الاستقلال. كما تتضمن التخلي عن بقايا فكرة الاستثنائية التي ما زالت تفرق الباحثين والصحافيين في الولايات المتحدة عن نظرائهم في أي مكان آخر من العالم، والتي تحدد بدورها ما الذي يعتقد الطلاب والرأي العام أنه من المهم معرفته. يميل الليبراليون والمحافظون المنتمون إلى التيار السائد، إلى التقليل من أهمية المصائب التي تسببت بها الولايات المتحدة في الخارج، بينما يصورون الشوائب الأقرب إلى الداخل – مثل نظام السجون الأميركي، والتباينات في خدمات الرعاية الصحية، وقمع أصوات الناخبين – على أنها غير مهمة في سبيل فهم القضايا العالمية. وفي الإمكان تغيير ما درجت عليه الأمور.
وحري بالولايات المتحدة أن تكون مختبراً لبحث القضايا التي غالباً ما تلصق بالعالم الخارجي الواسع فقط. فالتطورات العالمية مهمة أيضاً بالنسبة لديلتا الميسيسيبي، ومرتفعات أبالشيا، ومحمية الهنود الأصليين في ستاندينغ روك. ويحمل الاستبداد الأميركي – بدءاً من جيم كرو ووصولاً إلى ترمب – أوجه تشابه شديدة مع أنظمة العنف والديكتاتوريات الشخصانية في مناطق أخرى من العالم.أما الفساد فمنابعه هي نفسها في كل العالم وتغذيه شبكات متعددة الجنسيات. كما أن الشعبوية والقومية العرقية والتطرف وسياسات العدمية واليأس لديها جميعاً نسخ أميركية، أصبحت اليوم أكثر ترابطاً من أي وقت مضى، من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بالحركات الشبيهة لها في جميع أنحاء العالم. طورت الولايات المتحدة صناعة تصديرية متقدمة من انعدام الحرية، بدءاً بمستشاري الحملات المتشددين القساة إلى الشركات الأمنية الخاصة التي ستستمر خبراتها المدفوعة بالتأثير على النتائج السياسية والأمن العام داخل مجتمعات العالم. من أجل استرداد الساحتين الداخلية والدولية، يجب الاعتراف بهذه الحقائق، وأول خطوة سهلة الذكر وإن لم يكن تحقيقها سهلاً. وهي تتلخص بجملة اقتبسها فولبرايت يوماً من رسالة وجهها الرئيس أبراهام لينكولن في عام 1862 للكونغرس. وكتب لينكولن، “علينا تحرير أنفسنا، وإذ ذاك يمكننا إنقاذ بلادنا”.
فولبرايت ذو الوجهين
عاش فولبرايت حياة متنوعة الأوجه، كما معظم الناس. صحيح أنه قبل بالفظائع، لكنه كان رائداً في مجالات اقتضت شجاعة سياسية وأخلاقية. وكان قصوره من قصور بلاده، ومنطقته بشكل خاص. أما إنجازاته فكان الفضل فيها يعود إليه وحده. كان شجاعاً وضعيفاً، مقنعاً ومزعجاً، ذا بصيرة ثاقبة وقصر نظر، يحمل رؤية مستقبلية وعالقاً في الماضي في آنٍ معاً. لو اتبعت الولايات المتحدة المسار الداخلي الذي دعمه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لارتكبت ظلماً هائلاً وخيانة ذاتية. ولو تبنت السياسات الخارجية التي روج لها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لزهقت أرواح أقل في تلك الحقبة على الأرجح.
في عام 1982، عقدت جامعة أركنساس التي ارتادها فولبرايت (وأنا)، حفلاً من أجل إعادة تسمية كلية الفنون والعلوم باسمه، أدلى خلاله خبير الاقتصاد جون كينيث غالبرايث بخطاب. وكان السيناتور السابق نفسه يبتسم من على المنصة. بعد مرور أربعة عقود على ذلك التاريخ تقريباً، في أغسطس (آب) 2020، أسست الجامعة لجنة خاصة كلفت طرح توصيات في شأن مستقبل اسم الكلية وتمثال بارز لفولبرايت في حرم الجامعة. فبحلول ذلك الوقت، كان اسم وودرو ويلسون قد أزيل عن كلية العلاقات العامة والدولية في جامعة برينستون. وأسقطت نصب لرموز الانفصال والعنصرية في كل أرجاء البلاد. وأقر الكونغرس بعدها بقليل تشريعاً أزال أسماء جنرالات كونفيدراليين عن قواعد عسكرية أميركية. في أبريل (نيسان) الماضي، أوصت اللجنة بإزالة اسم وتمثال فولبرايت.
تشكل إعادة النظر في [إرث] فولبرايت جزءاً من التحول الأوسع في خطاب الأميركيين حول ماضيهم. والنصب، كما الأمم، راسخة في إطار تاريخي. ويرافق تحول المجتمعات تغيراً في الأمور [النصب] التي يشيدونها من أجل تعليم أولادهم طريقة سردهم المفضلة لهذا التاريخ. ولا يعدو معنى تكريم الأموات طريقة تعامل الأحياء معه. كما يمكن لأي زائر إلى العاصمة واشنطن أن يؤكد، أصبح النصب التذكاري لضحايا الشيوعية – الذي أزاح الرئيس جورج دبليو بوش الستار عنه في عام 2007، وبات الآن مكاناً يتجمع فيه رواد مأوى المشردين القريب – للمفارقة، نصباً لضحايا الرأسمالية. تكمن فائدة النصب التذكارية في تمكينها الإنجاز البشري أو قمعها له في المكان والزمان الحاليين. وإن كان أثرها هو التقييد [الحظر] بدل التمكين، فالأفضل التخلي عنها. لا تهتم الأشباح بهذا الموضوع على أي حال.
قد يأتي وقت لا تعود المجتمعات تشعر فيه بضرورة إلصاق أسماء أشخاص على المباني أو بأن الأفراد البارزين يستحقون تشييد تماثيل لهم. وإلى أن يحل ذلك الزمن، تكثر سبل تذكر الأشخاص الذين تخطت رؤاهم العالمية حدود سيرهم الذاتية [إرثهم الشخصي]. ومن إحدى هذه الطرق تجربة الحصول على منحة فولبرايت التي تغير الحياة. منذ عام 1946، استفاد أكثر من 400 ألف شخص (وأنا منهم) من أكثر من 160 بلداً من برامج فولبرايت المتعددة، وفي الوقت الحالي، يستفيد منها نحو 3 آلاف طالبة وطالبة وأستاذ وأستاذة وباحث وباحثة في الولايات المتحدة. ومن بين الحائزين المنحة 39 رئيس دولة أو حكومة، و60 فائزاً بجائزة نوبل، و88 فائزاً بجائزة بوليتزر. وما زال لقب فولبرايت علامة على الإنجازات العالمية البارعة. سأل الموسيقي بول سايمون في ألبوم أغانيه غرايسلاند الذي حصد عدة أسطوانات بلاتينية “ألست السيدة التي حازت أخيراً على فولبرايت؟”. من الصعب تخيل استثمار مربح أكثر في بناء عالم أكثر سلاماً، وأكثر ميلاً للنظر إلى الولايات المتحدة على أنها قوة للخير بشكل عام.
يعتبر هذا الإرث نصباً لافتاً ليس لرجل بل لفكرة، تجسدت بصورة غير مثالية خلال حياة واحد، وخانتها البلاد التي أطلقتها مراراً وتكراراً. وفي سيرة فولبرايت الذاتية برهان على أنه لا يمكن الفصل بين أفضل وأسوأ ما أنتجته الولايات المتحدة خلال القرن الماضي – وهو واقع معقد وناضج يجب أن يحدد مقاربة الأميركيين لكل الأمور من التعليم في العلاقات الدولية إلى صناعة السياسة الخارجية. وبالنسبة لأجيال من الناس في أفريقيا وآسيا وأوروبا والأميركيتين، فإن أكثر مساهمات فولبرايت استمرارية هي مسألة أمام الولايات المتحدة الآن الفرصة لفهمها بشكل أفضل: وهي الفكرة المذهلة والمحررة بأن الحكومات يقع على عاتقها واجب مساعدة الشعوب على التخلص من خوفها من الاختلاف.
*أستاذ الشؤون الدولية والحكومية بجامعة جورجتاون ومؤلف كتاب “آلهة السماء العليا: كيف أعادت حلقة من علماء الأنثروبولوجيا المتمردين تعريف العرق والجنس والنوع الاجتماعي في القرن العشرين”
@ مترجم من فورين أفيرز، يوليو/ أغسطس (تموز- آب) 2021