الجوع في سوريا… أسواق فقيرة وجيوب خاوية وموائد تحكي عن أمان مضى
يعود سامر عطا الله بعد يوم عمل طويل إلى منزله في حي برزة شرق دمشق، وقد ملأه الحزن، إذ لم يتمكن من إحضار المكونات اللازمة لإعداد طبق “فتة الدجاج”، الذي يشتهيه والده السبعيني ويطلبه منذ عدة أيام.
سامر (35 عاماً) هو عامل باليومية في سوق الهال، حيث تباع مختلف أنواع الخضر والبضائع الغذائية. يستمر دوامه اليومي من السابعة صباحاً حتى وقت متأخر من النهار. لا يحصل على دخل ثابت، وقد يراوح أجره اليومي بين 13 آلاف ليرة سورية (دولار إلى ثلاثة دولارات) وهي لا تكفي – إلى جانب راتب زوجته المعلمة بإحدى المدارس الحكومية- لتغطية مصاريف عائلته المكونة من زوجة وطفلين، وأب وأم كبيرين في السن.
يقول سامر لرصيف22: “منذ أكثر من عام نسينا طعم الدجاج واللحم، وبعدها اختصرنا من قائمة طعامنا اليومية معظم أنواع الفاكهة ومشتقات الحليب والألبان، ومن ثم ما عدنا نستعمل زيت الزيتون وحتى الزيت النباتي لقلي الطعام. بتنا نعتمد على البقول والطعام المسلوق، ونادراً ما نحصل على وجبة مغذية من الحليب أو البيض أو حتى الخضر المطبوخة بشكل مغذٍ”.
لم تكن هذه حالة سامر وأسرته قبل عشرة أعوام. فبرغم أن الفقر والحاجة إلى الغذاء ليسا جديدين على سوريا، فإن الوضع الحالي الذي باتت فيه سوريا، وفقًا للتقارير الدولية، على حافة الجوع، هو وضع غير مسبوق.
“الشعب السوري مو جوعان”
في مؤتمر صحافي عُقد في الرابع والعشرين من أغسطس/ آب سنة 2011، بعد أقل من عشرة أيام على انطلاق الثورة السوريّة، خرجت المستشارة السياسيّة والإعلاميّة للرئيس السوري بشار الأسد، قائلة إنّ القيادة القطريّة قد قرّرت زيادة رواتب العاملين في الدولة، من بين جملة من القرارات الأخرى، وذلك بعد اندلاع الاحتجاجات في مدن مختلفة في البلاد. تلت إعلان هذه القرارات تظاهرات عديدة رفعت شعار “يا بثينة ويا شعبان، الشعب السوري مو جوعان”، ردًا على مستشارة الرئيس.
لم يكن الشعار المرفوع في التظاهرات دقيقًا بسبب وجود مئات الآلاف من السوريين الذين عاشوا تحت خط الفقر قبل العام 2011، وخاصة بعد اعتماد السياسات الاقتصاديّة الجديدة في عهد الأسد الابن، إضافة إلى الجفاف الذي ضرب مناطق شرق سوريا، ممّا دفع بمئات الآلاف من سكان تلك المناطق للنزوح إلى المدن الكبيرة والعيش في مخيمات وبيوت صفيح في محيط هذه المدن.
لكن الوضع قد تفاقم الآن، يظهر في عين سامر وصوته وهو يشير إلى ابنه الأكبر النحيل الذي لم يتجاوز العاشرة، ويقول: “لا يتذوق أحمد وأخوه الحليب والبيض وأياً من المكونات الغذائية الضرورية لنموهما إلا مرات معدودة كل عدة أشهر. لا ألم يضاهي عدم قدرة الأب على توفير أدنى مستلزمات الحياة لأولاده، لكن ما باليد حيلة. كثيراً ما نكتفي بوجبتين فقط في اليوم، وهما الفطور والغداء المتأخر، لأن تناول ثلاث وجبات يعني المزيد من التكاليف التي لا قدرة لنا عليها”.
ويؤكد سامر أن الوضع ازداد صعوبة في العام الأخير، مع ارتفاع الأسعار في الأسواق السورية بشكل كبير، وعدم وجود زيادة موازية في الأجور التي بقي متوسطها لا يجاوز مئة ألف ليرة سورية (30 دولاراً)، في حين تتجاوز التكاليف الشهرية لعائلة من خمسة أشخاص مليون ليرة (حوالي 300 دولار) شهرياً، نصفها يذهب للغذاء الضروري فقط.
حال سامر ينسحب على نحو 12.4 مليون سوري، يكافحون للعثور على ما يكفيهم من طعام بحسب بيان لبرنامج الغذاء العالمي، الذي يضيف أنّ “60% من السكّان السوريين يعانون الآن من انعدام الأمن الغذائي”. وكانت ممثلة منظمة الصحة العالميّة في سوريا، أكجمال ماجتيموفا، قد ذكرت خلال العام 2020 أنّ 90٪ من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر. وكذلك قال منسق منظمة الإغاثة في سوريا، كونستانتين فيتشل، في تصريحات صحافيّة إنّ ما يزيد على 12 مليون سوري/ة ليس لديهم ما يكفي من الطعام، بنسبة حوالي 60% من إجمالي السكّان. كذلك الأمر بالنسبة للمتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في جنيف، إليزابيث بيرز، التي قالت في العام الفائت إنّ “السوريين يواجهون اليوم أزمة جوع لم يسبق لها مثيل”.
خارج العاصمة
الأزمة الاقتصاديّة الأخيرة، التي يرجع الكثيرون من مؤيدي النظام أسبابها إلى العقوبات الأمريكيّة والأوروبيّة على شخصيّات ومؤسسات تابعة للنظام السوري، ليست السبب الوحيد في ما وصل إليه الحال المعيشي للسوريين، إذ لا يُمكن ذكر الفقر والحالة المعيشيّة والحصار، دون ذكر الحصار الذي فرضه النظام السوري على مناطق خرجت عن سيطرته، دون أن تسمح قواته للمواد الغذائيّة وللمساعدات الإنسانيّة بالدخول إلى هذه المناطق.
أبرز هذه الحالات كان حصار حمص الذي استمر لثلاث سنوات وثلاثة أيام، وحصار الغوطة الشرقيّة الذي استمر لحوالي خمس سنوات ليكون أحد أطول فترات الحصار في العصر الحديث، وحصار مخيّم اليرموك والذي استمر لنفس الفترة تقريبًا، وحصار بلدة داريا الذي استمر لأكثر من ثلاث سنوات وتسعة شهور. كانت نتيجة هذه الحصارات أعداد كبيرة من الأشخاص الذي ماتوا جوعًا، فمثلًا لا حصرًا، تقدّر أعداد الذين ماتوا جوعًا في مخيم اليرموك لوحده بـ 204 شخص، فضلًا عن مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعانون من أمراض مستدامة، إضافة إلى الأمراض النفسيّة التي حملها السوريون معهم، بعد سنوات طويلة من العذاب.
تحيا أم عامر وأولادها الأربعة في إحدى قرى الغوطة الشرقية. وحيدة بعد فقدان زوجها خلال الحرب، صارت مسؤولة وحدها عن إعالة أبنائها وتوفير تكلفة الطعام والرعاية الصحية والدراسية لهم. ورغم محاولاتها الجاهدة، لم تحصل حتى الآن على عمل ثابت، وتعتمد على أعمال يومية أو موسمية، أو بعض المساعدات “من أهل الخير” كي تؤمن مصاريف عائلتها.
ضربت الأزمة بيت أم عامر بعنف، تقول لرصيف22 إن مطبخها خلا هذا العام، لأول مرة ربما، من أبسط مكونات الفطور والعشاء التي اعتادت أي أسرة سورية اقتناءها، مثل الزيت والصعتر واللبن والمربيات.
الظرف المعيشي الصعب فرض على أم أحمد واقعاً لم تكن تتخيل أن تعيشه هي وأبناؤها: “لا يعرف أولادي طعم الكثير من الأمور، مثل زيت الزيتون والأجبان الدسمة، فهم لم يتذوقوها في حياتهم. ليس هذا حالنا فقط، بل حال معظم سكان المنطقة الذين اختصروا الكثير من قائمة طعامهم اليومية، وحتى الأطعمة الشعبية اختلفت، فمثلاً بتنا نأكل الفول بالزيت من دون زيت، ونسينا البطاطس المقلية، وإن رغبنا بشراء الأجبان أو الألبان نلجأ لتلك الأسوأ من حيث النوعية، وبالتالي شبه الخالية من الدسم ومن أي قيمة غذائية”.
في قلب العاصمة
فايز وزوجته من النازحين، اضطرا إلى العيش بدمشق بعد تدمير منزلهما في الغوطة الشرقية، ما ساعدهما هوأنهما يعملان في القطاع الخاص، ويبلغ مجموع رواتبهما الشهرية ثمانمئة ألف ليرة سورية (250 دولاراً). ورغم أنها تعتبر من الرواتب الجيدة في سوريا مقارنة بشريحة واسعة تعمل في القطاع العام أو بالمياومة أو حتى تعجز عن الحصول على فرص عمل ملائمة، لا تكاد تكفي لمستوى معيشي مقبول لعائلة من أربعة أفراد.
الأزمة الاقتصادية التي باتت تضرب سوريا طالت جميع الأسر حتى تلك ذات المدخول الجيد لتجبرها على تغيير نمط عيشها وغذائها بدرجات كبيرة.
في بحث ميداني مبنيّ على عينة من ثلاثة أحياء في العاصمة دمشق أجراه “مركز السياسات وبحوث العمليات” تحت عنوان “العيش في دمشق بعد عقد من الحرب: العمل، الدخل، تلاستهلاك”، صرَّح 25% من أفراد العينة محلِّ الدراسة بأنَّ حوالات الأصدقاء والأقارب خارج سوريا هي أحد المصادر الرئيسيّة للدَّخل. فيما وصلتْ نسبة مَن أشاروا إلى أنَّ المساعدات العَينية والنقدية المُقدَّمة من المنظمات الإغاثية هي أحد مصادر دخلهم، إلى 41.8%”، كما ذكر البحث أنّ “94.08% من عائلات المستجيبين المُصرِّحين عن انفاقهم تعيش تحت خطِّ الفقر الدولي.
لا تلجأ أسرة فايز لتلقي المساعدات، إلا أن هذا لا يعني أن قدرتها على توفير الغذاء الجيد باقية على حالها. يقول فايز لرصيف22: “ندفع 300 ألف ليرة أجرة المنزل الصغير الذي نسكن فيه، بعد أن دُمر منزلنا في منطقة المليحة بغوطة دمشق الشرقية. من الصعب بل ربما من المستحيل اليوم العثور على منزل ببدل إيجار أقل في دمشق، مع ارتفاع الإيجارات بشكل مرعب في العام الأخير”.
لم تعد عائلة فايز قادرة على تناول ثلاث وجبات مكتملة غذائياً، وكثيراً ما تختصر قائمة المأكولات بصنف واحد كل وجبة، وربما اختصار وجبة ما. وغالباً ما تستبعد مواد مغذية أساسية كاللحوم والحليب والبيض والفواكه من القائمة.
في الأسواق
“تغير العادات الغذائية طال معظم السوريين اليوم، وهو ما ألاحظه من عملي اليومي”، يقول محمد الرواس، صاحب محل للمواد الغذائية في حي القصور شرق دمشق، ويشرح لرصيف22 بأن البضائع الأكثر طلباً اليوم هي الأرز والسكر والزيت النباتي، إضافة إلى مرقة الدجاج المصنعة، واللحم المصنوع من الصويا، وهي بدائل مناسبة عن الدجاج واللحم اللذين حُذفا من قائمة طعام معظم العائلات.
أما الألبان والأجبان، فباتت بضائع مكلفة للغاية، فأقل كيلوغرام من الجبن يكلف 6000 ليرة سورية “وهو بدون طعم على الإطلاق” كما يقول الرواس، وهناك أنواع أسوأ يصل سعر الكيلوغرام الواحد منها إلى 4500 ليرة، لكنها لا تملك أية قيمة غذائية، فهي خالية من الدسم تماماً، ولا تنفع إلا “لحشو البطن” على حد تعبيره. وبالنسبة للحليب، يندر أن يشتري سوريون كثر اليوم الحليب المجفف، وسعر الكيلوغرام منه حوالي 15 ألف ليرة، إلا إذا اضطروا لذلك بناء على وصفة طبية معينة، فيما تنخفض جودة الحليب السائل في معظم الأسواق نتيجة خلطه بالماء وبالتالي فقدان قيمته الغذائية.
يضيف الرواس أن السوريين لم يعرفوا من قبل فكرة شراء الطعام بكميات قليلة، “لكننا اليوم نبيع عبوات صغيرة من زيت الزيتون وعصير البندورة والمرتديلا والمربى وغيرها من المواد. لم نعتد يوماً شراء ربع ليتر من زيت الزيتون مثلاً، لكنه اليوم حل اقتصادي مع وصول سعر الليتر لحوالي 14 ألف ليرة، ما يعادل ثلث راتب موظف حكومي. الأمر ذاته بالنسبة إلى مواد كثيرة، صارت تصنع منها عبوات أصغر، أو بات الناس يطلبون منها كميات أقل”.
يتحدث عدنان الحلبي وهو صاحب محل للفاكهة في سوق مساكن برزة عن شراء بعض الزبائن “موزة واحدة”، مع وصول سعر كيلو الموز لأكثر من عشرة آلاف ليرة سورية، أو ثلاث حبات من الدراق أو المشمش.
“سعر أرخص كيلوغرام من الفاكهة اليوم 1500 ليرة، وتكون عادة ذات جودة منخفضة للغاية”، يقول الحلبي لرصيف22، ويضيف أن أطفالاً كثراً اليوم لا يعرفون طعم أنواع الفاكهة، وهو أمر يثير في قلبه الكثير من الحزن والأسى، مع كون سوريا تشتهر بإنتاج أصناف شهية وممتازة من مختلف أنواع الفاكهة، لكنها لم تعد بمتناول أبناء البلد أنفسهم.
المشهد الأكثر تعبيراً عن حال السوريين اليوم، هو حال تلك السيدة الجالسة في منتصف سوق برزة، وقد وضعت كرسياً صغيراً، وأمامها عبوات من زيت الزيتون والزيت النباتي والمعكرونة، وقد كُتب عليها “برنامج الأغذية العالمي، غير مخصص للبيع”. تقول السيدة التي رفضت الإفصاح عن اسمها، بأنها منذ أكثر من عام تبيع عبوات الزيت التي تتلقاها كمعونة دورية من إحدى الجمعيات الخيرية، كي تشتري أموراً أكثر أهمية لأطفالها، وفي الوقت ذاته، ومع طلبها لسعر أقل مما تباع به نفس العبوة في الأسواق، لا يصعب عليها إيجاد زبائن راغبين بشرائها وتوفير بعض النقود. تقول: “زيت الزيتون رفاهية كبيرة اليوم. إن بعت العبوة بعشرة آلاف ليرة سورية، يمكنني شراء بعض الخضر والمواد الأقل سعراً وإعداد وجبات لعدة أيام. هكذا نمضي حياتنا ونحن غير واثقين من قدرتنا على تأمين طعامنا لليوم التالي”.
رصيث 22