في سوريا… طلبة طب يبحثون عن جثامين والجثث ملقاة في الطرق
نشرت صحف ومواقع تهتم بالشأن السوري خبرين متزامنين يبدوان منفصلين، إلا أنهما معًا، يصلحان تعليقاً يجمل وصف الحال الذي صارت إليه الدولة السورية.
في السادس من يوليو/ تموز الجاري، نشر موقع عنب بلدي في باب التعليم تصريحاً للطبيب رايد أبو حرب، عميد كلية الطب بجامعة دمشق، يقول فيه إن طلاب الطب مهددون بفقد فرصة التدريب على التشريح بسبب “مقص واضح في الجثث المستخدمة في قاعات التدريبات”. وأوضح أبو حرب في تصريحاته أن كلية الطب بجامعة دمشق تحصل على جثة أو اثنتين فقط سنويًا لاستخدامها في التدريبات العملية.
على الجانب المقابل، نشرت صحيفة الوطن السورية تعليقاً من زاهر حجو، رئيس هيئة الطب الشرعي في حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، يعرب فيه عن استعداد الهيئة توريد الجثامين المجهولة الهوية التي ترد إليها لتدريب طلاب الطب. الخبران التعليميان اتحدا ليقدما صورة عن بلد تندر فيه الجثامين، في وقت تشهد صفحات الحوادث والتقارير الدولية والصور والأخبار المحلية على شبكات التواصل الاجتماعي، بأن الموت فيه موزع على رؤوس الشوارع ويجد الناس فيه الجثث في الطرق، كما يحدث في جنوب سوريا وشمال غربيها.
في كل ركن واتجاه
تمتد الاغتيالات على كامل الجغرافيا السوريّة، وإن بدرجات متفاوتة، ففي الوقت الذي يعتمد فيه النظام السوري في مناطق سيطرته على الخطف والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب في أقبية المخابرات والسجون المنتشرة في كلّ مكان، فإنّ عمليات الاغتيال العلنيّة تبدو قليلة في المقابل، رغم التاريخ الطويل للاغتيالات السياسيّة في عهدي الأسد، الأب والابن.
كذلك الأمر في مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة وقوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، إذ تظهر عمليات اغتيال في كلّ حين، منذرة بسوء الوضع الأمني في منطقة تعد من المناطق الأكثر أمانًا في سوريا، ولو بشكل نسبي.
في هذا السياق، تظهر معاناة محافظة درعا، التي يسيطر عليها النظام السوري بشكل غير مباشر حيث تتقاسم القوات الروسيّة والإيرانيّة السيطرة على مناطق مختلفة في المحافظة، من الاغتيالات، إذ تقوم مجموعات معارضة باغتيال شخصيات أمنيّة أو أشخاص ثبت تعاملهم مع النظام، مقابل عمليات تقوم بها قوّات النظام وتستهدف فيها “قياديين وعناصر من المعارضة السابقة، وهي عمليات انتقاميّة للنظام ردًا على العمليات الأمنيّة التي تطال حافلاته ومقراته والشخصيّات العسكريّة والأمنيّة المحسوبة عليه” بحسب تقرير لصحيفة عنب بلدي.
ورصد رصيف22 في تقرير منشور في أبريل/ نيسان الفائت، استهداف مدنيين في درعا وسط حالة فوضى أمنية وتنازع سيطرة بين فريقين يفترض كونهما حليفين، وهما روسيا التي رعت اتفاق التسوية في درعا قبل ثلاثة أعوام، وإيران التي تحكم مساحة من المحافظة بيد حزب الله.
جثث في الطرق
في الشمال، عثر أهالي قرية الدويلة في منطقة العجمي، الواقعة بين مدينة سلقين وكفرتخاريم في ريف محافظة إدلب، الواقعة في معظمها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، في التاسع والعشرين من مارس/ آذار الفائت على جثة شاب مجهول الهويّة مقتول بطلق ناري، مرميّة على حافة الطريق في منطقة جبليّة.
ليست هذه الحادثة فريدة من نوعها في مناطق شمال غربي سوريا، ففي اليوم الذي سبقه، وُجدت جثة محترقة لشاب في إحدى المزارع المحيطة ببلدة ترمانين شمال إدلب، وقد أفادت تقارير صحفيّة بأنّ الجثة قد أحرقت بعد أن قُتل صاحبها بالرصاص.
اغتيالات سياسيّة؟
عمليات القتل هذه لا تستهدف فقط أشخاصًا مجهولي الهويّة، بل أيضًا شخصيات عسكريّة ومدنيّة ناشطة في المنطقة، ممّا يُمكن أن يدفعنا إلى اعتبار بعضها عمليات اغتيال سياسي، فيما تتبادل الفصائل المسلحة الاتهامات من دون وجود أدلّة، ومن دون محاكمة أي شخص بأيّة عملية في ظل الانفلات الأمني الكبير المترافق مع قصف جوي سوري روسي لا يهدأ.
بعض الاغتيالات لها نمط يبدو معاديًا للنفوذ التركي في المنطقة، ففي نهاية أبريل/ نيسان الفائت قام مجهولون بقتل “أبو ياسمين الكازخستاني” في قرية عبريتا بالقرب من مدينة كفرتخاريم، وهو جهادي إسلامي، اعتقلته هيئة تحرير الشام لفترة قصيرة قبل مقتله بحوالي ستة شهور، وكان الكازاخستاني قد قاتل سابقًا إلى جانب ميليشيات “الحزب الإسلامي التركستاني” و”تنظيم حرّاس الدين”.
وفي مايو/ أيار الماضي اغتال مجهولون إبراهيم الحامد الأنصاري، القيادي ضمن اللواء 123 في فصيل “أحرار الشرقيّة”، أحد مكونات “الجيش الوطني” المدعوم تركيا.
لكن الاغتيالات موجهة كذلك ضد أشخاص غير محسوبين على تركيا، إذ حاول مسلحون مجهولو الهويّة اغتيال طبيب الأسنان “محمد الخطيب” الناشط التطوعي في المجال الطبي في مخيمات النازحين، في ديسمبر/ كانون الأول الفائت، في وسط مدينة إدلب التي ينتشر فيها عناصر هيئة تحرير الشام بكثافة، ولم يلق القبض على الفاعلين.
في الوقت الذي تتهم فيه هيئة تحرير الشام، “خلايا نائمة تنتمي إلى تنظيم داعش” بالوقوف وراء هذه العمليات، فإنّ مقربين من الحزب الإسلامي التركستاني اتهموا هيئة تحرير الشام بالقيام بهذه الاغتيالات، فيما يرجّح فريق ثالث أن تكون هذه العمليات من تنفيذ عملاء فرع المخابرات الجويّة التابع للنظام السوري والذين ينتشرون بكثافة في مناطق ريف إدلب.
الاغتيال روتين يومي
منذ بدء الاقتتال الداخلي بين الفصائل والميليشيات المُسلّحة في مناطق شمال غربي سوريا في العام 2017، ولاحقًا بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على معظم المناطق بدءًا من العام 2018، شهدت المنطقة عمليات اغتيال متنوعة، ولم تتبن أي جهة هذه العمليات. ما أدى إلى مقتل مئات المدنيين أثناء تنفيذ هذه العمليات، بالتزامن مع تنامي مؤشرات التدهور العسكري في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة والفصائل الجهاديّة بحكم التدخل الروسي والتركي المباشر، و”إعادة تعريف معظم الفواعل الدوليّة والإقليميّة للموقف السياسي حيال المشهد السوري”.
ما بين أواخر أبريل/ نيسان وأواخر أغسطس/ آب من العام 2018 وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 270 شخصًا في شمال غربي سوريا، بينهم 55 مدنيًا، في عمليات اغتيال متنوعة، لم يتم تبني معظمها.
كذلك ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير نشره في مارس/ آذار الفائت أنّ عدد الذين قضوا في أرياف إدلب وحلب وحماة واللاذقيّة منذ السادس والعشرين من أبريل/ نيسان من العام 2018، “تاريخ بدء تصاعد الانفلات الأمني”، قد بلغ 755 شخصًا، من بينهم مقاتل تركستاني وعائلة مقاتل أوزبكي، ونائب في وزارة العدل التابعة لحكومة الإنقاذ، و228 مدنيًا بينهم 24 طفلًا و23 امرأة، و443 مقاتلًا سوريًا ينتمون لفصائل مختلفة، و80 مقاتلًا ينتمون لجنسيات مختلفة (صوماليّة وأوزبكيّة واسيويّة وقوقازيّة وخليجيّة وأردنيّة وتركيّة)، قُتلوا خلال تفجير مفخخات وعبوات ناسفة وإطلاق نار واختطاف وقتل ومن ثمّ إلقاء الجثث في مناطق منعزلة.
كما وثّقت “مجموعة التفكير الاستراتيجي” في النصف الأول من العام الماضي، 96 عملية اغتيال مخلّفة 271 ضحيّة، ذاكرة أنّ 39 عمليّة نُفذت عن طريق العبوات الناسفة، بينما استخدم الطلق الناري في 45 عمليّة، مقابل تنفيذ أربع عمليات عبر الطائرات المُسيّرة وست عمليات عن طريق اللغم الأرضي وعمليتين عن طريق القنبلة اليدويّة.
كذلك وثّق “مركز عمران للدراسات الاستراتيجيّة” في تقرير خاص له، عمليات الاغتيال في مناطق سيطرة الفصائل العسكريّة المعارضة في شمال سوريا خلال النصف الثاني من العام 2020، قائلًا إنّ “طبيعة العمليات تراوحت بين عمليات انتقائيّة استهدفت أشخاصًا بعينهم، وأخرى عشوائيّة استهدفت مجموعات عسكريّة وسط تجمعات مدنيين، وأخرى استهدفت تجمعات مدنيّة خالصة كالأسواق”.
التقرير نفسه رصد 74 عمليّة خلفت 471 ضحيّة، نُفذت 47 منها عن طريق العبوات الناسفة، بينما استُخدِم الطلق الناري في 24 عملية، في حين نُفذت ثلاث محاولات عبر القنبلة اليدويّة.
رصيف 22