ميراث التعذيب/ هوازن خداج
“لا يجوز إخضاعُ أحدٍ للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة”. المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ثلاثة وسبعون عامًا مضت على إقرار حقوق الإنسان واتفاق الدول “الأعضاء” على حظر التعذيب بشكل مطلق، وفي 12 كانون الأول/ ديسمبر 1997، أعلنت الجمعية العامة يوم 26 حزيران/ يونيو يومًا دوليًا للأمم المتحدة لمساندة ضحايا التعذيب. وعلى الرغم من مصادقة وتصويت سورية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهدَين الدوليين لحقوق الإنسان لعام 1966 واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، ما زلنا نطالع أرقام الموتى تحت التعذيب، وتصدمنا البربرية التي لم يكن أولها مقتل “أمين عيسى علي”، على يد “الإدارة الذاتية” ولن تكون آخرها؛ فوحشية التعذيب وإيقاع الأذى الجسدي، كأحد أشكال العقاب القديمة، تمثّل منهجًا متبعًا في حالات التوقيف لدى الأطراف المتحكمة على الأرض السورية كافة.
أجسادنا ملك للجلاد
بغض النظر عمّا صادقت عليه الدولة السورية من إعلانات الحقوق، وما أقرّته في دساتيرها بعدم جواز تعذيب أحد جسديًا أو معاملته معاملة مهينة، نجد أن ثقافة القِصاص، ومنظورها العقابي القديم عبر التاريخ وتوجّهها نحو الجسد، لا تلغيها المصادقة على الحقوق، والاكتفاء بالسجن، كعمل إجرائي إداري، والحرمان من الحرية والحقوق الأخرى هو الجزء الأكثر عقوبة في العملية الجزائية. فالتحول نحو رزانة وتلطيف العقوبة وعدم استهدافها للجسد، وتوجيهها إلى الروح، كما يشير إليها (ميشيل فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة)، لم يتحقق كنتيجة لجهود حقوقية، إنما هي تحولات في آلية السلطة وأبعادها السياسية والاقتصادية، التي محت مشهد القصاص الجسدي الكبير في بداية القرن التاسع عشر، واستبعدت مسرح العذاب عن العقاب، للدخول في عصر “الاعتدال التأديبي” الذي اعتُبر مكسبًا في السنوات ما بين 1830- 1848، لكنها لم تلغِ تمامًا الإضافات التأديبية للجسد في العقوبات الجنائية، كفقدان الملكية والحرمان من الحقوق، كالحق في الحرية.
التحولات نحو التأديب بالحرمان من التمتع بالحرية، في بلدان لم تحترم حقوق الناس “المواطنين”، لا تمثل وسيلة للضغط أو التأديب، فجُلّ الحقوق أساسًا لم ينلها السوريون يومًا، وبالتالي لا يشكل الحرمان منها عقوبة كافية، ففي الدول الدكتاتورية تنقلب “الحقوق” كلّها إلى “واجب” الخضوع، ليتم تجريد البشر من ممتلكاتهم الذاتية (أفكارهم، أجسادهم، مشاعرهم)، بحيث يبقى تعذيب الجسد، وما يشكّله من امتداد لمفاهيم العقاب القديمة، باعتبار الجسد هدفًا للقمع وملكًا للجلاد، متبعًا منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الموقوف إلى “السجن”، خصوصًا في حالة الاعتقال التعسفي السائدة، فالأذى الجسدي هو إعادة ترويض وتأهيل، وجزء من متطلبات السيطرة، إن كان في التراتبيات القديمة المنغرسة في الثقافة الشعبية (سيطرة السيد على العبد، وعلى من دونه مرتبة)، أو في تطور الوسائل العقابية (سيطرة الجلاد على الضحية، وسلوك القويّ وسلطته الذي يجب أن يفهم كطقس سياسي، له وظيفته في إقرار السيادة على أجساد المحكومين، ووسيلة لتحطيم إنسانيتهم، إن نجوا من الموت تحت التعذيب.
ميراث التعذيب: الضحايا ليسوا أرقامًا
في الواقع السوري وتشظياته المختلفة، استمرت سلسلة التعذيب، فميراث “السيطرة-السلطة” لسلب الكرامة الإنسانية والإذلال، وعدم احترام حرمة جسد الإنسان من الانتهاك، تقاسمته سلطات الأمر الواقع، بنسب مختلفة، فهناك أكثر من (14500) سوري قُتلوا تحت التعذيب، خلال عشر سنوات، بحسب ما تقوله الأرقام التي قدّمها (التقرير العاشر لـ “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بمناسبة اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب)، وإن كانت نسبتها الأكبر تتجه نحو النظام، باعتباره مسؤولًا عن مقتل 14 ألفًا و338 شخصًا، ما يعادل 98.63% من معظم ضحايا التعذيب، كسياسة منهجية، دون النظر إلى الجرم المرتكب ومقدار استدعائه لهذا القصاص الانتقامي، إلا أن هذا لا يعفي بقية الأطراف السورية، فالاعتقال والاختفاء القسري ومراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، مورس من قبل الجميع، حيث قُتل تحت التعذيب لدى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) 67 شخصًا، ولدى فصائل المعارضة المسلحة (متمثلة سابقًا بالجيش الحر وحاليًا بالجيش الوطني) 47 شخصًا، و “هيئة تحرير الشام”، مسؤولة عن مقتل 28 شخصًا. لقد شكّل هؤلاء ضحايا القصاص، وسادية موتهم جانبٌ من حقيقة واقعنا، حيث تنكّرت كلّ القوى الموجودة لمطالب العدالة وشفافية الحكم على “الضحايا”، والأكثر من هذا أنها اتبعت الأساليب نفسها في التعذيب والإنكار وصياغة التبريرات المزيفة.
وهو ما حدث في مقتل الشاب “أمين عيسى علي”، في مدينة الحسكة، عقب شهر من اعتقاله على يد حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، بربرية الموت تحت التعذيب، التي حاولت “الإدارة الذاتية” التنكُّر لها ونفيها في تاريخ 29 من حزيران/ يونيو تعرّضه للعنف، لكونه يعاني أمراضًا سابقة، أسقطتها تغريدة نشرتها “السفارة الأميركية في دمشق”، عبر صفحتها في “فيسبوك”، في السادس من الشهر الحالي، حيث دعت السفارة إلى “تحقيق فوري وشفاف”، وإلى ضرورة “محاسبة أي شخص تثبت مسؤوليته عن الاعتداء أو إساءة معاملة المحتجزين”.
ليكون السؤال: ماذا عن مطلب التحقيق الفوري والشفاف تجاه كلّ الضحايا وضمان العدالة لهم؟ وماذا عن المعتقلين والمختفين قسرًا؟ سؤالًا محقًا، بعد أن تحوّلت كلّ القضايا العادلة في سورية إلى أوراق ضغط في المفاوضات بين الدول الفاعلة، وصار السوريون عرضة لكل أنواع الانتهاكات.
الأمر الذي يعزّز انعدام الثقة بالسلطات الموجودة كافة هو أنها استكملت ميراث الظلم الذي عاشه السوريون، واستكمال قيم القهر محمول على مفارقة تحوّل ضحية الأمس إلى جلاد، وإقدام الإدارة الذاتية على انتهاك حقوق المواطنين الخاضعين لإدارتها، سواء أكانوا عربًا أم كردًا؛ فعلى مدار عشر سنوات “جحيمية”، صار السوريون شهودًا وضحايا لفظاعات أسوأ من “الموت” -كونه جزءًا من حقوق الخالق- تتعلق بالتأقلم مع الفظائع، بوصفها حالة طبيعية وضرورة لها مبرراتها في الحفاظ على الأمن والحماية، وهو ما اتبعه النظام السوري وكل إدارات الأمر الواقع، لتكوين نظام يقوم على عماء “الثقة” أو التكيّف مع ما يشاع حول ضرورة قتل المخالفين، أو منتهكي القوننة التي فرضتها السلطات المزعومة لفرض هيمنتها على الناس، بعد أن تحولت سورية إلى أماكن احتجاز مختلفة، شكلتها الحرب، ورسختها الأعمال العدائية وخطوط الترسيم والقصف والخطف، والتشريد والاضطرابات والإذلال، فهذه المناطق -فضلًا عن كونها طورت بشكل مفرط هويات مجتمعية- لم تولد سلطاتها لتكون مع المحكومين من قبلهم، أو لتضمن فضاءات الحرية والحقوق الإنسانية.
خاتمة
عقب عشر سنوات، تستمر المأساة حيث إن المطالبة بالحقوق الإنسانية والعدالة والكرامة قضية بعيدة المنال، وإن أحلامنا ورغباتنا في دولة الحقوق والقانون ستبقى توقًا لنظام آخر ولواقع مختلف، ما دام ميراث الانتهاكات مستمرًا، وما دام هناك من يُقتل تحت التعذيب، أو يختفي في زنازين القهر، وسيبقى السوريون ضحايا لإدارات مختلفة لم تقدّم بديلًا يُعوّل عليه، ولم تكن ممارستها أفضل في صيانة حقوق السوريين.
مركز حرمون