عن خطاب القسم الأخير لبشار الأسد
الأسد يحظر المستقبل على السوريين/ غازي دحمان
عزّ على بشار الأسد أن يقدم لمحكوميه، في خطاب قسم رئاسته الرابعة، ولو حتى بصيص أمل يعينهم على تحمّل ما لم يعانِه بشر في العصر الحديث من جوع وعطش وخوف، لكنه كان سخياً في شرح مفاهيم الشفافية والعقائد والقيم والوطنية والقومية. وبالطبع، بالقدر الذي يمكنه من توظيف هذه المصطلحات في خدمة روايته عن حربه على السوريين.
بالنسبة له، الشعب هم النخبة المنتقاة لحضور خطاب القسم، فهؤلاء إما أصحاب مناصب عليا في جمهوريته صاروا على تلك الحال نتيجة قدراتهم الفائقة على المشاركة في قتل السوريين، أو أصحاب ثرواتٍ صنعهم هو بنفسه في أثناء فترة الحرب. ويشكّل هؤلاء متن المشهد الذي يحتاج ديكورا يزينه من الممثلين وبعض مصابي الحرب وشخصيات عامة.
أما من هم خارج القاعة، فلم يكونوا في ذهن الأسد أو اعتباره. كانوا ينتظرون حلولا عاجلة لحل مشكلاتٍ من نوع تأمين العشاء لأولادهم، وتأمين وصول التيار الكهربائي بما يكفي لتشغيل مروحة تخفّف عنهم وهج الحر في بيوت غير مصمّّمة أصلاً للسكن الآدمي. وكان ملايين منهم، النازحون في الداخل، ينتظرون ولو وعدا بإمكانية رجوعهم إلى مناطقهم المدمّرة، والخلاص من سكن الجوامع والمدارس والحدائق العامة.
من أين يجد هؤلاء مكانة لهم في عقل “رئيس” همومه بحجم مواجهة حربٍ كونية، وطموحاته لا تقبل بأقل من تعديل ميزان القوى العالمي، ولا يقبل النزول إلى مستوى تفاصيل صغيرة لا تليق إلا بالصغار، هؤلاء هم الذين ذكرهم بخطابه على أنهم لا لون ولا طعم لهم، من السهل على القوى الإمبريالية اختراقهم وحرفهم.
فالسوريون إذاً حسب بشار الأسد طبقات، ليس بالمعنى الماركسي الكلاسيكي، بل يمكن القول إنهم طوابق، وأغلب هذه الطوابق هم مجرّد فوائض، ضررهم أكثر من نفعهم، لأنهم بلا أساسات، ولا يمتلكون المناعة الوطنية الأسدية، وهم مرشّحون للسقوط دائماً في بئر الخيانة، حينما تتهيأ الفرصة لذلك.
وحدهم، النخبة المختارة، هم الناجون، هؤلاء من يتوجّه بخطابه إليهم، ومن يحدّثهم عن الاستثمارات والقوانين والتسهيلات التي يؤمنها لهم، وهؤلاء أصلاً من يفهمون معاني المصطلحات الثقيلة واللغة الرخيمة، ومن لديهم القدرة على تذوّق السيمفونية التي تم عزفها على مدخل القاعة، وهم من يقدّرون الصورة المبهرة لمراسم استقبال الأسد، وقبلها سيارته الفارهة والسجاد الأحمر والأروقة الأسطورية لقصر الشعب. أما الباحثون عن الخبز والكهرباء والسكن وكل هذه التفاصيل التافهة، فلسان الرئيس لن يخاطبهم، وعواطف ماري أنطوانيت العصر لن تشملهم.
أين المستقبل في خطاب بشار الذي يدشّن سبع سنوات مقبلة لحكم هذه البلاد التي عاش شعبها أقسى ما يمكن أن يعرفه البشر من ألم في العصر الحديث، وكأنه تمت إعارتهم إلى أزمان غابرة، لترى البشرية كيف كانت الحياة في تلك الأزمان، وتستوعب ماذا يعني الموت جوعاً وعطشاً وغرقاً في البحار وتحت ردم البيوت؟ هل ما حصل للسوريين، على يد بشار وحلفائه، كان مجرّد فاصل ترى عبره الشعوب أفلام سينما الرعب تتجسّد في الواقع؟
المستقبل الذي قدّمه بشار لهؤلاء المنكوبين يتمثل بفكرة إصلاح البنية المركزية للدولة، التي لديها قطاع عام واسع، لكنه اشترط عليهم أن يكونوا صبورين بحجم تعقيدات القطاع العام واتساعه. وهنا لا بد لهؤلاء أن يسألوا، إذا كنت، يا قائد الحرب الكونية، بعد أكثر من عشرين عاماً في الحكم، لم تستطع إصلاح البنية المركزية، وهي من أولى أولويات أي نظام سياسي لتسيير شؤون المجتمع الذي يحكمه، ومن المسلمات التي استفضت بشرحها في خطابك العرمرمي، فكم مطلوبٌ منا أن ننتظر حتى تنجز هذه المهمة، ونحن الذين نحتاج لحلول إسعافية لأوضاعنا الكارثية؟
الحل بسيط عند بشار، المشكلة في الشعب، ذلك أن الخلل في قيمه بعد انزياحه عن قيم الدولة الأسدية ودستورها، وبحثه عن معاني الحرية في قواميس الغرب. المشكلة في الشعب الذي وقف على الحياد، ولم يشارك في قتل من تجرّأوا وطالبوا بالعدل. والمشكلة في هؤلاء لأنهم شكّكوا برواية النظام عن الأحداث، أو ربما لم يستطيعوا أن يكذبوا عيونهم وآذانهم. وما يحصل من مصاعب وأزمات أمر طبيعي لهؤلاء، ولا توجد لدى بشار حلول سحرية لهؤلاء. عليهم أولاً تسليم عقولهم وضمائرهم لسدنة الدولة الأسدية وحماتها، وأن يفعلوا ذلك وهم مقتنعون، ومن ثم يبدأون في تطبيق الوصفة التي تشتمل على احترام الكبير قدراً وسناً، بمعنى لا يلعنوا روح حافظ الأسد ولا يستهترون بوريثه بشار، بالإضافة إلى احترام القوانين التي يسنّها الأسد، بما فيها الدستور الذي ينصّبه حاكماً بأمر الله.
طار المستقبل في خطاب بشار، تاه بين زواريب البنى المركزية للدولة، وتبدّد في مشروع البحث عن معان لمصطلحات ولادة لبدائل عديدة. والخلاصة أن المستقبل صار من المحظورات في سورية، أو على الأقل، بات محصوراً ضمن شعب الرئيس والرئيس نفسه. ولهؤلاء تتم صناعة أدوات المستقبل من قوانين تشجّع على الاستثمار، وصولاً إلى طبقة عاملة لها فم يأكل، إن وجد الطعام، ولا يعترض أو يطلب. أما البقية، فلا داعي للحديث عن مستقبلهم الذي بات محصوراً ضمن خيارين: النزوح عن سورية أو الموت جوعاً وعطشاً.
العربي الجديد
————————
عن أوهام الحل السوري وغنيمة الأسد/ سميرة المسالمة
قطع بشار الأسد، في خطاب القسم للولاية الرابعة لحكم سورية، يوم السبت الماضي 17 يوليو/ تموز، أي ارتباط لنظامه مع كل عمليات التسوية السياسية للصراع في سورية، سواء تحت مظلة أستانة أو هيئة الأمم المتحدة، ووضع حدّا لكل الأوهام التي تسوقها الفعاليات الدولية، أو دول مسار أستانة (روسيا – إيران – تركيا) أو كيانات المعارضة، بأن العودة إلى مباحثات اللجنة الدستورية قد تبلور حلاً سياسياً، من خلال صياغة دستورٍ بالتوافق بين المعارضة والنظام، يضمن انتقالاً سياسياً حسب قرار مجلس الأمن 2254، وهو الأمر الذي تتحدّث عنه روسيا، نوعا من الترغيب الدولي لحل معضلة تمويل إعادة الإعمار في سورية.
ونفى خطاب الأسد مزاعم موسكو في أن النظام قد يقبل حلا سياسيا، يبدأ من القبول بزعزعة مكانة الدستور الحالي الذي أخذ بيد الأسد إلى ولايته الرابعة التي قد تكون إلى الأبد فعلياً، فعدم الاعتراف منه بوجود معارضة إلا من سمّاهم أو وصفهم بـ”الخونة والمأجورين”، أو المغرّر بهم في أحسن الأحوال، يعني ضمنياً عدم قبول ما يطرحه القرار الدولي من مشاركة معهم في صياغة دستور جديد لسورية، كخطوة نحو انتقال سياسي، كما تصفه اللجنة الدستورية الشريكة أو المتشاركة مع النظام في مباحثات جنيف، فالمنتصر لا يمكنه أن يترك الخاسر يقاسمه الغنيمة.
ويضعنا هذا الحال الآن أمام حقائق غالباً ما نودّ الهروب منها، وهي أنه لا يوجد في معطيات الوضع السوري، أو حتى بين رموز النظام الذين اجتمعوا على التصفيق لكل ما كان يقوله الأسد مدحاً أو ذماً، ما يؤكّد رأي مسؤولين روس في شأن توقع قرب الوصول إلى تسوية سياسية في سورية، على خلفية التوافق مع الولايات المتحدة في القرار الصادر عن مجلس الأمن أخيرا، والقاضي بتمديد آلية دخول المساعدات الإنسانية إلى سورية، فالتسوية المنشودة تتطلب، إضافة إلى الإرادة الدولية “الغائبة حالياً”، وجود إرادة التسوية لدى الأطراف السورية المتنازعة، وهو الأمر الجلي أن النظام لا يملكها، كما أن كيانات المعارضة الموجودة، باعتبارها طرفا مقابلا له، لم تعد تملك التمثيل الشعبي للثورة، ما يعني أنها طرفٌ غير مؤثر سورياً على الأقل.
بيد أن رفع مستوى توقعات بعض المسؤولين الروس ينطوي على مسألتين: أن روسيا تعتقد أن الولايات المتحدة باتت تتعاطى معها بوصفها دولة عظمى، على قدم المساواة، وأنها تسلم تماما برؤية موسكو وقدرتها على حل الصراع السوري. وأن روسيا استطاعت تحويل الصراع السوري من صراع سياسي إلى مجرد مسألة إنسانية، أي التحوّل من مدخل الحل السياسي القاضي بإيجاد مرحلة سياسية انتقالية إلى المدخل المتعلق بحل المسائل الإنسانية، بدءا من إدخال مواد تموينية وطبية، وصولا إلى إعادة الإعمار لاحقا، وربما عودة بعض من اللاجئين، سيما من دول الجوار.
في وسع روسيا أن تنتشي لشعورها بأنها نجحت في ما سعت إليه، سيما منذ تدخلها العسكري المباشر في الصراع السوري (سبتمبر/ أيلول 2015)، أي استمرار بقاء النظام، واستعادة مساحات شاسعة من الأرض السورية من المعارضة المسلحة. ولكن، عدا ذلك ثمّة مشكلات كبيرة تحول دون استقرار الوضع السوري، وتاليا دون استقرار الآمال الروسية المعقودة عليه.
ليس القصد هنا التحدث فقط عن الجانب الميداني/ العسكري، حيث ما يقرب من ثلث سورية هو عمليا تحت سيطرة الولايات المتحدة، وذراعها قوات سوريا الديمقراطية (قسد، شرقي الفرات)، ووجود تركيا عسكريا في الشمال والشمال الغربي على نحو 11% من سورية (سيما إدلب ومحافظتها)، ويأتي ضمن ذلك الوجود الإيراني المنافس لروسيا، واليد الطويلة لإسرائيل المنسقة مع روسيا.
فإضافة إلى تعقيدات الخريطة السورية في بعدها العسكري، ثمّة الضعف الكبير الذي بات يعتري واقع النظام، في الشرعية، والمؤسسات، والاقتصاد، والمؤسسة الأمنية، وهو ما حاول الأسد القفز فوقه في حديثه عن سورية الواقعة تحت حكمه أمنياً بقوة النظامين، الروسي والإيراني، وهو وضعٌ لا يوجد لروسيا ما تقدّمه في هذا الشأن، وهذا ما تدركه الولايات المتحدة جيدا، وتراهن عليه، سواء في سعيها إلى مزيد من توريط روسيا في الصراع السوري، أو في استنزافها وإرهاقها لها، كي تفهم بالطريقة الصعبة استحالة فرض حلٍّ على طريقتها، مع تمكينها بترك الأمور من دون حسم لمصلحة أي طرف.
نعرف هنا أن الولايات المتحدة تتصرف من كونها لا تتأثر بالصراع السوري، ولا بأي شكل، وأنها تملك الوقت لفرض ما تريد من دون أن تُتعب نفسها، أو من دون أن تبذل شيئا يُذكر. وهذا على عكس روسيا التي لا تملك سوى القصف، والتفجير، والتخريب، في حين أنها لا تملك كل الوقت للاستمرار بهذه السياسة، من دون أن تحصد شيئا يذكر، أقله حتى الآن.
في عودة إلى ما مضى، مؤكد أن روسيا استطاعت أخذ الملف السوري بيدها، لكن ذلك ما كان ليتم، لولا رضا الولايات المتحدة، بغض النظر عن اسم الرئيس الحاكم فيها وحزبه، هذا حصل في ما يتعلق بإزاحة بيان جنيف 1 (2012)، وحصل في تفسير منطوق قرار مجلس الأمن 2245 (2015)، وفي جولات التفاوض في جنيف، وجولات التفاوض الثلاثي في أستانة، وفي مداولات اللجنة الدستورية، وهو ما حصل، أيضا، في الصراعات الميدانية/ العسكرية، ومع كل ما تخلل ذلك من أهوال ومعاناة للشعب السوري.
لقد سلمت الولايات المتحدة لروسيا خلال السنوات الست الماضية إدارة الصراع السوري، إلا أن المسألة الأهم أنها حتى اليوم لم تسمح لها بحلّه، وهذا أمر على غاية في الأهمية، وينبغي تمييزه، وهذا هو المعنى الحقيقي لممانعة واشنطن التطبيع مع النظام السوري، وممانعتها إعادة الإعمار، وممانعتها عودة اللاجئين، ويخطئ كثيرا من لا يميز بين هاتين المسألتين. هذا يفترض التأكيد أن موقف الولايات المتحدة ليس بعيدا عن موقف إسرائيل التي لا تجد، حتى الآن، مصلحة لها في حل الصراع السوري.
بل لا بد هنا من ملاحظة الخبث الكبير الذي بدا في موقف الولايات المتحدة بخصوص فتح معبر للمساعدات الإنسانية الأممية، والتي ظهرت وكأنها تستجدي موافقة روسية على فتح معبر، مع وجودها الكبير في حوالي ثلث الجغرافية السورية، وإدخالها الأسلحة لـ”قسد” متى شاءت، ومع وجود تركيا في كامل الحدود الشمالية، ومع هذا الوضع الذي فرضته في شرقي الفرات ببضع مئات فقط من جنود أميركيين. كان حريا بهذا الخبث أن يلفت انتباه الخبراء أو المسؤولين الروس، بدل أن ينشغلوا بالحديث عن “نجاحاتٍ” حققوها إزاء الولايات المتحدة، أو بدل أن ينشغلوا بالأوهام بشأن التعاون المشترك معها، بقرب إيجاد تسوية للصراع السوري.
العربي الجديد
——————————-
بشار الأسد يُريد أصول الدولة اللبنانية/ مهند الحاج علي
في كلمته بعد أداء اليمين الدستورية لولايته الرابعة، ذكر الرئيس السوري بشار الأسد أن “العائق الأكبر حالياً” أمام عودة الحياة الى الاقتصاد، هو الأموال السورية المجمدة في لبنان، والتي تتراوح بين 40 و60 مليار دولار أميركي، مشدداً على أن أياً من الرقمين (الأدنى والأقصى) هو كاف “لإحباط اقتصاد بحجم اقتصادنا”. هذا التجميد (اللبناني) يحرم دورة الاقتصاد السوري من الحركة، وتهريبها يضغط على الليرة السورية ويخفض قيمتها. “هذا العنصر يُشكل عائقاً كبيراً وتحدياً عسيراً وحله مرتبط بتغير الظروف في لبنان”، كما جاء في خطاب الأسد.
ليست هذه المرة الأولى التي يذكر فيها الأسد الأموال السورية “المجمدة” في لبنان، بل سبق له الإشارة اليها سريعاً، لكن هذا الخطاب يكتسي أهمية إضافية لسببين. أولاً، هذا الخطاب رمزي يحمل عناوين عامة مهمة ويُحدد التوجهات العامة في كل ولاية رئاسية (هو نظير خطاب القسم في لبنان، مع فارق أن الرئيس في سوريا مُؤبد). بعض الخطاب شعبوي ومكرر كالحديث عن القضية الفلسطينية، إلا أن الكلام عن لبنان جاء في سياق نقاط اقتصادية محددة ومرحلية.
ثانياً، يأتي الخطاب هنا في سياق سوري واقليمي مختلف عن السنوات السابقة، سيما أن هناك لقاءات سورية مع دول عربية معنية بالملف اللبناني، وأيضاً نرى دوراً روسياً أكثر فاعلية (حتى لا نقول أكثر تأثيراً من دون دليل حسي على ذلك).
والخطاب يُؤسس لسردية مفادها أن الأموال السورية المُجمدة في لبنان، مسؤولة عن احباط الاقتصاد السوري الذي لا يُمكنه النهوض سوى بفك أسر الودائع. عملياً، المطلب السوري الصريح هنا هو الإفراج عن هذه الودائع (أو بعضها العائد للموالين أو لمن يتفق مع الأسد) لضخ الأموال في الاقتصاد السوري.
في السياسة، هذا الخطاب يرسم مسارين، الأول على ارتباط بالمصارف ورؤيتها للحل في لبنان، والثاني متصل بها، وهو يُحدد اعادة تموضع أقطاب السلطة في هذا السياق.
ذاك أن النظام، مع هذا المطلب (الافراج عن الودائع السورية)، يصطف الى جانب تكتل المصارف (بينها مصارف كبرى فتحت فروعاً في سوريا وبنت علاقات مالية مع أركان النظام)، إذ ترفض الأخيرة أي عملية قص للودائع الكبرى، وما زالت تُطالب بالاستحواذ على أصول الدولة اللبنانية من ذهب وعقارات ووزارات (الاتصالات والطاقة) ومطار ومرافئ. من خلال عملية الاستحواذ والتصرف بالأصول، بحسب رؤيتها للحل، بإمكان المصارف فك الودائع الكبرى تباعاً، ووفقاً للمصلحة والأولويات. في غضون ذلك، تتولى المصارف تدمير (لا قص) الودائع الصغيرة والمتوسطة من خلال تعاميم مصرف لبنان ودفع ودائع الدولار بالليرة اللبنانية بعد ابتلاع 90 بالمئة منها. عبر الاستحواذ على أصول الدولة، تكون المصارف قد أكملت الانقضاض على الفقراء عبر تصفير قدرة أي حكومة لبنانية على توفير خدمات لذوي الدخل المحدود، وهم الغالبية الساحقة من السكان.
ومن يدري، إذا نجحت المصارف في تمرير خطتها أو بعضها، قد تتعاون مع النظام السوري في هذا المجال، حتى لو بالخفاء لتجنب سيف العقوبات. أليس بين المدافعين الكبار عن المصارف، حلفاء للنظام السوري (ايلي الفرزلي نائب رئيس مجلس النواب مثالاً)؟ وفي حال الاستحواذ على الأصول اللبنانية، سيكون النظام السوري شريكاً في إدارتها والتصرف بها.
وخطاب الأسد يصنع من دمشق لاعباً من خلال الحلفاء المحليين، بدءاً بـ”حزب الله” و”الوطني الحر”، في تقرير مسار الحلول المقترحة للأزمة في لبنان. نتيجة ربطه الاقتصادين السوري واللبناني، قد يتحول موقف “حزب الله” باتجاه السماح للمصارف بالاستحواذ على أصول الدولة، بما يتيح اقتسامها بين المودعين الكبار وبينهم النظام السوري (ممثلاً لقسم من المودعين السوريين).
ولدى النظام السوري أوراق ضغط على الجانب اللبناني، أهمها طبعاً إيران و”حزب الله”، والحدود، وأزلامه بالسياسة اللبنانية، علاوة على أسلحة أخرى لا يتورع عن استخدامها، مثل الاغتيال السياسي والتلاعب بالأمن.
في نهاية المطاف، هذا سلاح ذهبي جديد في يد لوبي المصارف اللبنانية أيضاً. في جعبة هؤلاء، وسائل الاعلام الكبرى، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبعض السياسيين اللبنانيين الكبار، والى حد ما سفيرة الولايات المتحدة (من خلال دعمها سلامة)، والآن النظام السوري وحلفائه.
هذه كتلة صلبة سنرى قدراتها في أي حكومة مقبلة، أكانت من لون واحد (يعني موالية للنظام السوري و”حزب الله”) أو حريرية الهوى، وكلاهما سيّان في النتيجة اليوم.
المدن
——————–
عن السينما السورية وحفل القسم الرئاسي/ ساطع نور الدين
كأنه فيلم وثائقي قديم، صُوِّر منذ نحو عشرين أو ثلاثين أو حتى خمسين عاماً، أُدخلت عليه تعديلات تقنية طفيفة، شملت الاضاءة والألوان والصوت، بما يستجيب للحاجة الى التحديث والتنافس في سوق إعلامي هائل، لا مكان فيه لتلك المشاهد المحفوظة بالاسود والابيض.
إنها سوريا التي لم تتغير ولم تتبدل: مقدمة الفيلم لا تدع مجالا للشك أبداً. القاعة إختلفت بعض الشيء. إتسعت وإنيرت وخلت من القبة ومن المشغولات والمنمنمات الخشبية التي كانت تميز القاعة التاريخية المعروفة، وكانت تردد صدى الهتافات، التي لا تنسى، مثل هدير يسمع في معظم أرجاء دمشق.
إنه الشعب السوري نفسه الذي لم يمر عليه الزمن، المشاهد الاولى لا تحتمل الخطأ: لم يبذل المشاركون في العمل الوثائقي الراهن أي جهد، للتميز عن الشعب الكوري الشمالي العظيم، الذي كان ولا يزال يهتف ويصفق ويضحك ويبكي في وقت واحد، عندما يظهر البطل ليقسم اليمين وليتحدث بلغة لا لبس فيها، ولا ضحكة، إلا تلك التي يستدعيها الخروج عن النص.
أبطال الفيلم ما زالوا على حالهم أيضاً ، كأنهم خرجوا للتو من مخزن الوثائق الرسمية، للمناسبة المستعادة، التي زاد عدد حضورها هذه المرة، ما ضاعف حجم السؤال عن هوياتهم وأدوارهم ووظائفهم وإنتماءاتهم القومية والدينية والجغرافية. كان واضحاً أنهم يمثلون معظم محافظات سوريا و مختلف الباقين من أبنائها، بمن فيهم أولئك الذين وقعوا على المصالحات.
هي سوريا نفسها التي ينكر الكثيرون وجودها، والتي يرفض الكثيرون الاعتراف بأنها لم تتقدم قيد أنملة. ربما كانت الحرب مبرراً لبقائها في المكان والزمان نفسه. للنظام طقوسه وتقاليده وجمهوره الذي لا يمكن نفيه، ولا طبعا إدانته. والعينة التي وجدت في القاعة لم تكن سوى طليعة، باتت تمثل نصف السوريين على أقل تقدير سياسي. هؤلاء ليسوا مكرهين أو مجلوبين أو حتى حاقدين. هم مع الدولة التي لم يقم لها بديل، أو نظير، هم مع الرئيس الذي لا يعرفون سواه، ولا يطمئنون الى سواه.. ولا يقبلون التشكيك في قدراته السياسية والامنية ولا التبخيس من مواهبه الخطابية. والارجح أنهم لم يأتوا الى الاحتفال ولم يتابعوا البث التلفزيوني لكي يستمعوا الى الخطاب ويدققوا في المواقف والبرامج الوعود.
فيلم محزن جداً، لكنه واقعي جداً، كأي وثائقي يسجل ويعرض ويحدّث وقائع خمسين سنة مرت من عمر سوريا، بأقل من ساعتين، يتلبس بالمُشاهد شعور باليأس من أن قدرة سوريا على أن تخطو خطوة واحدة الى الإمام، حتى في الشكل، فكيف بالمحتوى الذي يرجع بالسوريين خطوات الى الوراء، ويجعل الحرب قدراً لا فكاك منه، سواء بالنسبة الى المقيمين او المنفيين، الذين أعيتهم الحيلة، ولم يجدوا في الفيلم سوى فرصة للردح المكرر والمضجر للنظام، والتذكير بعناصر تكوينه التي لا تقتصر على طائفة أو مذهب أو حزب، وعوامل سلوكه التي لا تعزى فقط إلى المحتل الروسي او الايراني.. متجاهلين جمهوره الذي لم يهتز يوماً، أمام صور الموت والخراب، والذي يحافظ على ثقته بالنظام، حتى ولو بلغت الرئاسة الحفيد نفسه.
لم تكن الدواعي السينمائية هي التي أملت هذا الاخراج والانتاج للفيلم. ثمة حرص على التاريخ، على الأعراف، كان يمكن تلمسه في جميع المشاهد. ربما كان أداء الرئيس ضعيفاً بعض الشيء، وخطابه كان مبهما قليلاً. لكن المشاركين في العمل، والناقدين له، الذين لا تزال تفصل بينهم مسافات شاسعة، كانوا هذه المرة هم، وليس الرئيس، الصناع الحقيقيون للتجربة السينمائية السورية الخالدة.
لا أمل في تطوير تلك التجربة، طالما ان السينمائيين السوريين، المقيمين والمنفيين على سوية واحدة، وطالما أن تلك الطقوس يمكن ان تكرر مرة كل سبع سنوات وبنجاح منقطع النظير.
المدن
———————————
الأسد ونموذج الديكتاتور/ رضوان زيادة
عرضت نتفلكس على مدى ستة حلقات وثائقية مسلسلا بعنوان “كيف تصبح ديكتاتورا” انطلاقا من مقولة صحيحة أن الديكتاتوريات تتعلم من بعضها تماما كما الديمقراطيات. ركز المسلسل على ست شخصيات رئيسية كتبوا بأفعالهم ما أطلق عليه المسلسل “كتاب الديكتاتورية” وهم هتلر وستالين وصدام حسين وعيدي أمين من أوغندا والقذافي وسلالة كيم أون سونغ في كوريا الشمالية، طبعا مع إشارات إلى تصرفات وعبارات من غيرهم من الديكتاتوريين الذين مروا على التاريخ.
في الحقيقة كان يجب إدراج الأسد في السلسلة إذ تنطبق على الأب والابن كلاهما كل الصفات والأفعال التي أشار لها المسلسل، بدءا من طريقة الوصول إلى الحكم ومن ثم تصفية المعارضين بطرق مختلفة كما فعل حافظ الأسد مع صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، ثم زرع الخوف داخل الشعب عبر ممارسات الأجهزة الأمنية في التعذيب والقتل، وتحطيم فكرة القانون تماما في الحياة السياسية والاجتماعية فالأسد هو القانون وهو الحاكم بأمره.
لكن ما يدعو للتشاؤم في المقارنة أنه على طول فترات هؤلاء الدكتاتوريين فإن سنواتهم انتهت بكارثة على أوطانهم، وفي النهاية يقدم المسلسل تجربة كوريا الشمالية على الخلود الديكتاتوري حيث صنع التسلطية الجد ثم ورثها إلى الابن كيم إيل جون ومن ثم ورثها الحفيد كيم جونغ إيل، وذكر عددا من السمات التي مكنت هذه الأسرة من الحكم لفترة طويلة في كوريا الشمالية تكاد تتكرر ذاتها مع الأسد من حيث وراثة السلاسة الأسدية للدولة السورية عبر السيطرة الكلية ومن ثم الكذب والبروباغاندا الإعلامية ثم شيوع الخوف المطلق وتحريض السوريين ضد بعضهم البعض وتطبيق عزلة كاملة على الدولة من حيث الانخراط السياسي أو الاقتصادي من المجتمع الدولي وأخيرا تحويل الفقر المدقع الذي يعيشه الشعب إلى حالة ضعف معممة يعيشها الشعب من حيث عدم قدرته على التماسك أو التضامن في وجه الديكتاتورية.
فضلا عن ذلك تحلّت عائلة كيم كما عائلة الأسد بعدد من الصفات الفردية والشخصية التي مكنت كلتا العائلتين على الاستهتار الكامل بأرواح المدنيين ومصيرهم، فشعور المرء بالخجل أو الارتباك بعد ارتكاب فعل خاطئ أو العار الذي جلبه على نفسه وأسرته أو وطنه هو شعور طبيعي، وهو يترافق عادة مع ما يسمى الإحساس بالمسؤولية أو الشرعية الأخلاقية وبالتالي عند فقدانها نتيجة ارتكابه لخطأ ما فيشعر المرء أنه غدر بالمسؤولية وأنه فقد الشرعية التي أعطيت له على أمل أن يفعل ما كان يتوقع منه وهو الأفضل لنفسه وللناس، كل هذه المفاهيم تقريبا أصبحت جزءا رئيسياً مما يسمى اليوم تأثير الرأي العام ومحاسبة المسؤولين السياسيين الذين تبوؤا مقاعد رئيسية في الحياة العامة وبالتالي هم عرضة للنقد أكثر من غيرهم كما أن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي تتوقع منهم وتنتظر منهم غالباً ما تكون أعلى وأكبر.
ولذلك نسمع باستمرار عن استقالة هذا المسؤول أو الوزير في الديمقراطيات الغربية بعد تصريحه بعبارة ما يشتم منها رائحة العنصرية أو أنه قام بفعل ما مناف لحقوق الإنسان أو حتى الأخلاق العامة أو ما دون التوقعات العامة مما يجب على هذا المسؤول القيام به، لقد تطورت هذه الثقافة وأصبحت جزءا رئيسيا من حملات الشفافية العامة والمحاسبة للمسؤوليين خاصة مع نمو وثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي مكنت المواطنين أن يبدو رأيهم في كل صغيرة وكبيرة، أن يوثقوا المواقف والتصريحات ويعلقوا عليها، وبالتالي أصبحت مسألة المحاسبة العلنية أكثر سهولة وهي طورت بالمقابل الشعور بالمسؤولية والقيام بالاستقالة أكثر شيوعا ودورية كما وجدنا في بريطانيا مؤخراً وإسبانيا وحتى داخل بعض الدول العربية على مستوى الوزراء لكن ليس على مستوى قادة الدول.
أعتقد أن هذه الطريقة من أكثر الوسائل تأثيراً في الرأي العام وتشجيعاً لبناء ثقافة المحاسبة والمسؤولية ويجب تنميتها بإطراد وتعزيزها في الحياة العامة، لأنها تلعب دور برلمان الشارع، وفي الديمقراطيات الغربية أصبحت وسيلة مهمة لقياس الشعبية وبالتالي مؤشرا على الانتخابات المقبلة لا سيما أن فيس بوك وتويتر أصبحا جزءا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للمواطنين وترتفع مع ارتفاع نسبة التعليم في كل البلدان.
إذا أخذنا كل ذلك وقمنا بتطبيقه على سوريا اليوم، بكل تأكيد سوريا لم تكن منذ تسلّم حزب البعث السلطة عام 1963 بلداً ديمقراطيا وتحولت مع الأسد الأب والابن إلى ديكتاتورية شمولية شبيهة إلى حد ما بنموذج كوريا الشمالية اقتصادياً وسياسياً، ولذلك لن نتوقع أبداً أن يكون ردة فعل السياسيين السوريين كما هي في الديمقراطيات العريقة، ولكن، مع بدء الثورة السورية بدأت الفيديوهات من سوريا تتزايد وبعضها يحكي قصصا إنسانية ليست مسيسة بأي حال من الأحوال لكن بغاية التأثير على كل سوري مهما كان موقفه السياسي مؤيداً للنظام أم معارضاً له، خاصة إذا كانت هذه الفيديوهات تتعرض لقصص أطفال سوريين يدفعون ثمن حرب لم يكن لهم قرار في اتخاذها أو إعلانها.
خطاب الأسد الأخير في القسم يكرر العبارات نفسها التي ما فتئ يرددها على مدار العشر سنوات “إرهابيون”، “عملاء”، “السيادة الوطنية” كما بدت ملامح وجهه هي ذاتها، مزيج من البلاهة والإنكار وترديد الأكاذيب رغم معرفته بأنها ليست سوى ذلك، وهو تقريبا يدفعنا إلى سؤال يتعلق بعلم النفس السياسي لماذا لا يشعر الأسد بالعار من قراراته التي اتخذها والتي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم؟
ربما تكون هناك تفسيرات كثيرة في علم النفس الاجتماعي أو السياسي، لكن القدرة على إنكار الحقيقة وإخفائها لسنوات طويلة يحتاج إلى مهارة من نوع خاص، ربما أخبره أحد مستشاريه أنه يجب أن يظهر قوة دائمة أن يتجنب لحظات الضعف البشرية الطبيعية والتي هي جزء من كل إنسان، ربما هذا المظهر يظهره بقوة أكبر أمام أنصاره ومحازبيه، ربما يدفع به إلى أن يكون مثالا عن النصر المرتجى وما إلى ذلك.
لكن بكل تأكيد الدمعة والألم باتا جزءا من بيت كل سوري حيث قتيل أو معتقل أو لاجئ أو فقير أو يتيم إلى ما لا نهاية، وبالتالي ربما يرغب السوريون في رؤية الدمعة أو الألم في عيون وبكلمات مسؤوليهم، لكن الأسد ربما يفضل الرأي الأول وهو بكل الأحوال متماش أكثر مع شخصيته.
تلفزيون سوريا
—————————
تنصيب الأسد: معنى خروج العواصم من التاريخ/ منير الربيع
في دخوله إلى احتفالية تنصيبه، ظنّ رئيس النظام السوري بشار الأسد نفسه يدخل التاريخ مجدداً من أبوابه العريضة، مدجّجاً بسنوات من الركام والرماد والجثث والدماء. لا تاريخ يدخله الأسد الابن من غير هذا الباب، والذي ينفتح على تدمير سياسي وجغرافي وبشري لسوريا وعاصمتها دمشق أقدم عاصمة في التاريخ. جلّ ما نجح فيه الأسد هو إخراج سوريا من التاريخ ومن الحاضر، ومما يرمز إلى التقدم أو المعاصرة. وتلك سمة طبعت مسيرة البعث، لا سيما الحقبة الأسدية منه بالتحديد.
في تلك التجربة يستحيل التاريخ وهماً مبنياً على وهم، خارج أي إطار زمني أو علمي. يكفي للرجل أن يتباهى بالانتصار، ليتأكد المرء من أن ما ينتصر هو مرض الوهم فقط ومريضه.
لم تعد المشكلة بالشخص ولا بالنظام على الرغم من فداحتها. بل أصبحت نموذجاً متعمماً يمكن لكل سكان دول “طوق العمامة الممانعة” تلمّسه واستشعاره ومعايشته. دمشق التي كانت أقدم عاصمة في التاريخ، ها هي تلفظه، بعد سنوات من تركيز النظام على لفظها منه. وعلى قاعدة نقيضة لما قيل في السابق مثلاً حول عواصم تجاور دمشق، كالقاهرة، وبغداد وبيروت، ثمة عواصم تحفظ نفسها ومجتمعها وأخرى أصبحت في غربة بعيدة. علّمنا التاريخ مقولته الشهيرة في امتداح العواصم أن القاهرة تكتب، بيروت تطبع وبغداد تقرأ. لم يعد في بيروت حبر، ولا آلة الطباعة، وهي سلكت طريق الخروج من تاريخها ومن حاضرها أيضاً، أما بغداد فلا قراءة فيها سوى مجالس العزاء أو أدعية النحر وتبريره، فيما القاهرة نجحت في أن تصون نفسها ولو بدون الروحية السياسية والفكرية والثقافية المعهودة، لكنها لا تزال تسعى لتحفظ نفسها على طريق المعاصرة.
أخرجت بغداد وبيروت مفكرين وأنتجتا حقبات من التقدمية في مواجهة الرجعية، فغرقت قواها فيما هو أسوأ من الرجعية وما حققته. فانضمتا إلى دول الهلال، التي تعصف فيها الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، وتدبّ فيها الخلافات الأهلية، أو نزاعات الجوع والفقر والعوز. في أبرز تعبير عن نموذج الانهيار المعمم في دول الطوق. إنها متلازمة المسار والمصير، من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت، تأتي الانهيارات على وقع تعرجات مفاوضات الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران. والغريب أكثر أن انسحاب هذه الدول من دورة التاريخ، تتزامن مع الانسحاب الأميركي من المنطقة والذي سيشكل عنصر إرباك لكل من يدّعي المواجهة معه.
فإعادة التموضع الأميركية، تفترض أن تشمل الاهتمام الأساسي بحلفاء الولايات المتحدة الأميركية الأساسيين أو المهمين، كإسرائيل ومصر والأردن، والخليج طبعاً يأتي في سلّم الأولويات، بالإضافة إلى العمل على تنامي خط جديد هو مصر الأردن والعراق. فالخط الأول يعتبر هو أساس الهدوء والاستقرار في الشرق الأوسط، خصوصاً أن الدولتين لهما حدود مع إسرائيل وتقيمان معاهدات سلام معها، بالإضافة إلى علاقتهما الجيدة مع الفصائل الفلسطينية، وكذلك لا يمكن إسقاط مسألة إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي توقفت سنة 2013.
أما بالنسبة إلى الخط الثاني والذي يتعلق بالعراق مصر الأردن، فيرتبط بإنشاء خط استراتيجي جديد قادر على بناء منظومة تحالف عربية تعتبر من دول الطوق في محيط إيران، وقد بدأ المسار من العراق وتحديداً منذ الاتفاق على مصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة العراقية، ومنع إيران من السيطرة الكاملة على العراق، فلا بد من ربطه بخط عربي مع مصر والأردن، انطلاقاً من العلاقات التاريخية بين العراق والأردن أولاً من خلال العلاقة مع الشريف حسين وثانياً ربط شبكات الكهرباء من مصر إلى الأردن فالعراق لإمداده بالطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى تعاون نفطي استراتيجي فلا يعود العراق يعتمد على مضيق هرمز للتصدير، وهذا يهدف إلى فتح خطّ العقبة أمام تصدير النفط العراقي، فلا يعود لإيران قدرة للضغط على العراق في إطار تصدير نفطه.
أما سوريا ولبنان معها في تلازم المسار والمصير، فمسألتهما مؤجلة إلى حين، وهي بلا شك مرتبطة بالتفاهم مع روسيا، خصوصاً أنه يتم الحديث في بعض الكواليس عن السعي للوصول إلى تسوية مرحلية بين واشنطن وموسكو في سوريا، تتعلق بالاتفاق على تشكيل حكومة جديدة، تكون حكومة تسوية بين النظام وقوى معارضة له، ولذلك يجري الحديث عن احتمال الاتفاق بالمرحلة المقبلة على اسم أيمن أصفري لتولي هذه الحكومة. وعند الوصول إلى مثل هذا الاتفاق يعني أنه حينها من الممكن البدء باستشراف أو تلمس بعض المقومات التي قد تحيي التسوية، بذلك فقط يمكن لسوريا أن تعود إلى سكة التاريخ، وليس من ردهة مقر احتفاء الأسد بنفسه.
تلفزيون سوريا
—————————
ثورة الموالي على أسده وعقدة2011/ عمر قدور
كأنما أتت إطلالة لونا الشبل التلفزيونية “المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية”، قبل أربعة أيام، لتصب الزيت على نار خطاب بشار الأسد بعد أدائه القسم لولاية جديدة. يتضح من مستهل الحوار أنه أتى بطلب من المستشارة، وأنها آتية بغرض شرح الخطاب للذين لم يفهموه، أو الذين يعزّ عليهم فهمه كما هو حقاً. من أولئك الذين يعزّ عليه الفهم شريحة من الموالين كانت تنتظر من رئيسها تقديم وعود ضرورية للخروج من الأزمة المعيشية الخانقة، إلا أن هذه الشريحة لم تحصل سوى على كلام عمومي عن الصمود وتجاوز الأزمة. للونا الشبل رأي أكثر جذرية وحسماً، فهي تساءلت في مستهل اللقاء: إذا كان من المنتظر أن الرئيس الأسد سيعِد.. سأسألك متى وعد الرئيس الأسد بشيء؟ الرئيس الأسد يقدّم رؤيا.. بحياته ما قدّم وعود.. منذ خطاب القسم الأول قال ليس لدي عصا سحرية.
لندع جانباً السخرية التي يثيرها وصف “رئيس” بأنه لم يقدّم وعوداً خلال أكثر من عقدين لأنه يقدّم رؤى، بينما يُفترض أن تقوم الممارسة السياسية على تقديم الوعود والبرامج المتصلة بتنفيذها. الفكرة الأساسية هي ألا ينتظر أحد وعوداً، ومن لم يفهمها من الخطاب أتت المستشارة لتفهمه إياها ببطء وتمهل. ويبدو أن إطلالة المستشارة على هذا النحو حرّضت نقمة بعض الموالين فأظهروا غضبهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بينهم حظي صحافي وسيناريست بانتباه خاص لأنه بدأ برسالة لونا الشبل التلفزيونية، ليصل إلى القول: “كنت خائفاً على الرئيس.. ولكنني الآن بتّ خائفاً منه”.
قبله كان شاعر معروف صدم الكثيرين بموالاته عندما انطلقت الثورة، بل بمغالاته وفظاظته بإظهار موالاته، قد كتب أيضاً على صفحته في فايسبوك مطالباً “المهاجرين” إلى بلاد البشر-البشر البشر بعدم التحامق والعودة إلى سوريا. الشاعر كتب بعمومية إذا شئنا المقارنة مع السيناريست، ولم يذهب إلى تحديد المسؤول عن كارثة البلاد “الجميلة فقط للتذكر والحنين”، وأقصى ما وصل إليه ذكر رؤساء ورئيسات بلديات مترعة بالأوبئة والنتانة. إنه على أية حال يخالف الخطاب الموالي التقليدي الذي إما أن يخوّن اللاجئين “اللاجئين لا المهاجرين بحسب الشاعر”، أو يشيد بالجزء الموالي المهاجر حقاً.
تلقف معارضون كتابتي الشاعر والسيناريست بحفاوة يمكن تأويلها على أكثر من وجه، فمن جهة هناك حفاوة بأن يصل بعض من الرموز الثقافية للموالاة إلى القناعة بأنهم خاضعون لسلطة لم يعد الدفاع عنها ممكناً، ومن جهة أخرى هناك الحفاوة الممزوجة بالشماتة بسبب وصول هؤلاء متأخرين سنوات إلى القناعة التي عبّر عنها ملايين السوريين الذين ثاروا على الأسد. ثمة من احتفى بهما لأنه يتحين أدنى اختراق في مقلب الموالين، وثمة من يأمل أن تكون هذه البداية فحسب لنشهد لاحقاً انقلاباً معلناً في مزاج من كانوا موالين أشداء، وثمة من رأى في الاسمين وكتابات أخرى غاضبة لأشخاص غير معروفين مؤشراً كافياً على أن النقمة تجاوزت فعلاً مرحلة البداية.
يصادف أن يكتب السيناريست، قبل يومين من إبداء خوفه من الأسد لا خوفه عليه، هذا البوست: “سألعن سلالاتكم يا ثوار الثورة السورية ما حييت.. أشعلتم الحرائق.. ونحن الذين انتهينا”. وفي مخاطبته ثوار الثورة السورية يظهر أكثر جذرية، فهو لا يقتصر على تحميلهم المسؤولية عن حال الموالين، بل يجزم بأنه سيلعنهم ما بقي حياً، بينما تبقى علاقته برئيسه ظرفية متقلبة، يخاف عليه ثم يخاف منه، وقد يعود عن خوفه الثاني إلى الأول وربما إلى ما يفوقه حميمية. المهم في هذا السياق ليست المقارنة بين رئيسه والثوار، بل اتهام الثوار وذلك الحنين الذي لا يخفى إلى زمن ما قبل الثورة، الزمن الجميل الذي خربه هؤلاء.
الجمع بين الخوف من الأسد ولعن الثوار وسلالالتهم نموذج يجدر التوقف عنده بصرف النظر عن صاحبه، فعقدة عام2011 تطل لتبقي الوعي الموالي أسير زمن جميل والرغبة في استعادته. وفق هذا المتخيَّل، انقض إرهابيون “أو أية تسمية أخرى” على الزمن الذي كان قبل آذار2011، وهو زمن كان مقبولاً في حده الأدنى وفق مقولة “لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم”، حتى لو فني عدد “مقبول” من الغنم قرباناً لبقاء الذئب. القضية ليست في تبرئة مسبقة للأسد وأبيه من قبله، بل في رمي المسؤولية بأكملها على أولئك “الثوار”، من دون الخروج ولو قليلاً من المنطق المراهق لتقاذف المسؤوليات، الخروج الذي يتيح رؤية الثورة كحدث تاريخي يعبّر بمجرد حدوثه عن انقضاء حقبة، وعن استنفاذ تلك الحقبة أسباب استمرارها.
وفهم أحقية الثورة كتعبير عن انسداد الأفق شأن مختلف عن الانحياز لها، أو عن الاتفاق مع مساراتها أو أخطاء ثوارها أو خطاياهم. الفهم إقرار بأن “الزمن الجميل” أكذوبة أفضت إلى الزلزال، وعليه لا يجب أن يكون استرجاعه هدفاً، وفي المقابل ليس مطلوباً من هذا الفهم تمجيد لحظة2011، بل البناء عليها كحدث قاسٍ يستحيل النكوص عنه. أيضاً من طبيعة هذا الفهم الاعترافُ بأن “الثورة” تعبير عن انقسام مجتمعي حاد، والمصيبة السورية هي في الانقسام بخلاف ما تفترضه نظرياً مصالح كافة الأطراف.
من الجهة الأخرى، هناك خطأ شائع بقراءة نقمة الموالين كالتحاق متأخر بعام2011، وعلى هذا المقلب هناك كثر ممن بقوا في تاريخ مضى عليه عشر سنوات لأنهم يرون فيه زمنهم الجميل. الأمل بأن يلتحق الموالي بذلك التاريخ أو اليأس من التحاقه به يستبعد بطبيعته اقتراحات أخرى، ويطوي مراحل قد لا تُطوى سريعاً في الواقع. من ذلك وصول شريحة واسعة من الموالين إلى اليأس المطلق، والذي سيتجلى بدايةً بأشكال متعددة تتراوح بين الهجرة أو محاولة الهجرة وصولاً إلى أنماط من الجرائم محرّكها المشترك البحث عن خلاص فردي. وهناك تأثير مثبِّط للزمن وللفعل لا ينبغي نكرانه، هو انتظار السوريين جميعاً ما ستقرره الدول الفاعلة والمحتلة.
لزمن قد يطول، إذا بقي تقاسم النفوذ الحالي، يصعب تصور حراك سوري جديد، هنا أو هناك، أو يجمع الهُنا والهُناك. يصعب أيضاً اتخاذ كتابات “نزقة” لسيناريست أو لشاعر كمؤشر على وضع الموالين، إلا باعتبار هذه الكتابات متأخرة عن الواقع لا أمامه كما يفترض التصور التقليدي عن “النخبة”. في مرحلة تقطيع الوقت هذه قد يكون المتاح الوحيد للسوريين هنا وهناك الانتباه جيداً إلى أين وصلت بهم الأحوال، فلا هم بأي معنى في عام2011 ولا قبله، ولا عزاء اليوم وفي المدى المنظور لأي طرف منهم.
المدن
——————————-
كيف تنتصر الهزيمة!/ ماهر مسعود
من ينظر إلى حال سورية اليوم، من الصعب أن يرى أيّ أمل من هذا البلد المهزوم والمحطّم والجائع والمُعاقب والخاضع لاحتلالات مركّبة داخلية وخارجية؛ فبقاء الأسد على رأس السلطة كان أعظم انتصار لهزيمةٍ في تاريخنا الحديث، إن لم يكن تتويجًا لكلّ الهزائم التي مرّت بها سورية منذ نشوئها ككيان، قبل مئة عام، وتجميعها في عهد رئاسي واحد. فكلما زاد حجم الموت والدمار والتوغل في الانحطاط؛ زاد انتصار الهزيمة، وتحوّلت من هزيمة مؤقتة وجزئية إلى هزيمة وجودية وشاملة للبشر والحجر والهواء والماء والتاريخ والجغرافيا والاجتماع السوري، وكلما شحّ الأمل وانقطعت سبل الحياة أكثر؛ أصبحت الهزيمة أكثر انتصارًا، وغرق البشر في التوحش أكثر.
ليس انتصار الهزيمة تناقضًا منطقيًا للكلمات، وما علينا إلا تغيير المعيار الإنساني العام لتوجّه البشرية من التوحّش إلى الحضارة، ومن الحيوانية إلى البشرية، ومن التاريخ إلى المستقبل، ومن الولادة إلى الموت.. إلخ، لكي نفهم كيف تنتصر الهزيمة! فعندما يصبح المعيار الأعلى هو عكس توجّه البشرية، يصبح انتصار الهزيمة هو الغرق أكثر في الموت والبربرية واليأس وانعدام الأمل، وكلما أوغلنا في تلك العناصر المضادة للحياة؛ انتصرت الهزيمة لذاتها، وعاشت نشوة انتصارها في تعميم الموت وثقافة الموت على نحو أوسع.
إن بقاء الأسد على رأس السلطة ليس بقاءَ شخص واحدٍ حلمُه أن يصبح دكتاتورًا، ولا بقاء نظام حاكم لسلطة في عالم تتوسع فيه الأنظمة الدكتاتورية، إنما هو رمز وطني وإنساني عام لانتصار الهزائم، وانتصار التفاهة، وانتصار الموت على الحياة؛ فالأسد لا يحكم سورية فعليًا، ولكنه حاكمها، ولا يحتل سورية فعليًا، بل ليس لديه أو لدى نظامه قوة على احتلال سورية كاملة، ولكن وجوده شرطٌ لكل احتلال، فكل الاحتلالات تحتاج إليه وتحتاج إلى وجوده لتبقى مشروعة، بغض النظر إن كانت شرعيّة أو غير شرعيّة، وليس لدى أي محتل هناك تصوّر خاص بسورية، بل هي مجرّد بلد لاختبار الموت ومنازعة الآخرين، حقلٌ لتجريب الأسلحة الروسية الفتّاكة على الأجساد الحيّة، مقبرة مغلقة الحدود على سكانها، ساحة للاستراتيجيات الأميركية الضائعة منذ أوباما، حديقة خلفية للمشروع الإيراني الأسود في المنطقة، مكبُّ زبالة نووية، مكان تجميع لعملاق الإرهاب “الأسطوري” الدولي في قمقم الصحراء السورية، والأهم من كل ذلك هو أنها رمزٌ تحتفي به جميع الأنظمة العربية، لمصير الثورات الشعبية التي انطلقت عام 2011، حيث بات على الشعوب العربية أن تشكر ربّها على نعمة الأنظمة التي لم تجعلها تصل إلى مصير الشعب السوري، وبات عليها أن تجلد ذاتها وتؤنب نفسها على الثورات التي أخطأت بالانجرار نحوها، وأصبحت ترى المشكلة في ثقافتها المتخلفة وغير المؤهلة للثورات الديمقراطية، وهذا كلّه بات يستخدم لإعطاء المصداقية لكلام شاعرٍ يجمع كل وضاعة المتعالي، مثل أدونيس، ويجعله صحيحًا عند بعض المثقفين الذين يشاركونه انحطاطه وتعاليه في رؤية المشكلة المركزية لشعوبنا، في ثقافتها.
ليس انتصار الهزيمة شيئًا جديدًا بالمطلق علينا، فمنذ الانتصار “الأسطوري” في حرب تشرين “التحريرية”، وصولًا إلى الانتصار “الإلهي” لحزب الله ومحور المقاومة عام 2006، ونحن نمضي قدمًا في ذلك الطريق المعبّد بالهزائم المنتصرة؛ حيث لم يكن هناك أسعد من أعدائنا في انتصاراتنا الصوتية وهزيمتنا الواقعية، ولكن الجديد هذه المرة هو تحوّل الهزيمة المنتصرة إلى نموذج أعلى، نموذج منفصل عن الواقع الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي للسكان بشكل مطلق، نموذج الكذبة الشاملة التي لا تطاق، والتي تريد أن تقنع الميت بأنه يتوهّم موته وبأنه حيّ، وتريد أن تقنع الجائع بأن جوعه كاذب، وتقنع المشرّد بأن له وطن، واللاجئ بالعودة لحضن الوطن.. وعندما تصبح الهزيمة المنتصرة نموذجًا أعلى، بهذا الشكل الشامل لكل مناحي الوجود، يصبح السعي نحو هذا النموذج قيمة وطنية عليا، وكلما غرق الناس الواقعيون في هوّة وظلام الهزيمة أكثر؛ انتصرت كذبة الانتصار لنفسها وأصبحت حقيقة.
المشكلة الكبرى الناتجة عن كل ما سبق هي أنه لم يعد لسورية كبلد، أو للشعب السوري، أو القضية السورية، أو الثورة، أو الحرب الأهلية -سمّها ما شئت- أيّ معنى أو تأثير إيجابي وفاعل، على الصعيد العالمي، لقد تحوّلنا من غير مرئيين سابقًا، إلى رؤيا مزعجة للجميع اليوم، وهذا ليس على مستوى سياسات الدول فقط، بل على مستوى مجتمعاتها وشعوبها، لا يطيقنا اليسار ولا اليمين هناك، بل إن أعداءنا من اليسار باتوا أكثر من رفاقهم في اليمين، ضمن تلك المجتمعات، ولم تعد تلك الشعوب ترى في سورية ومأساتها وقضيتها سوى مصدر إزعاج مركب ومعقد ولا طائل منه لأحد. ليس هناك معنى تحرري لكفاحنا، بعدما اصطدم بحائط الإرهاب، وكان أفضل إنتاجاتنا في “المناطق المحررة” جبهة النصرة، بعد (داعش)، وحكومة مؤقتة تابعة لتركيا. وليس هناك معنى إنساني لكفاحنا، بعدما أصبح الاسم المعتمد لصراعنا هو “حرب أهلية” يحارب فيها الجميع ضد الجميع. وليس هناك معنى وطني لكفاحنا، ما دام المحتل الأساسي لوطننا هو نظامه “الوطني” ذاته، بينما حاميه الدولي الأكبر، بوتين، هو الآخر “وطني” ومغرم بالسيادة الوطنية، ولا همَّ له في الحياة، ولا في مجلس الأمن، إلا الدفاع عن “السيادة الوطنية” للدول والمناطق التي يحتلها.
إنّ ما يكمل الهزيمة المنتصرة داخل سورية هو خسارتنا لمعنى القضية السورية في الخارج، وهذا ما يميّزنا عن الفلسطينيين الذين سبقونا، والذين لم تستطع (حماس) ابتلاع التعاطف مع قضيتهم، أو ابتلاع قضيتهم ذاتها، ويميزنا عن الأكراد الذين استطاعوا ربط قضيتهم السورية بقضيتهم الكردية، واستخدام التعاطف مع الثانية لتعزيز الأولى، بالإضافة إلى فصل أنفسهم عن الإرهاب الذي لزق بنا، بجهود الإسلاميين وحكمتهم العظيمة في استعداء العالم، وكفاحهم المرير ضد العصر.
وصف حازم صاغية، في مقال له، الحاصل في لبنان بأنه “نكبة”، ويحاجّ بأنّ ميزة الاسم “نكبة” هي بجعل المصيبة تبدو كحدث طبيعي، لا صانع لها، ولا قوى سياسية مسؤولة عنها. ومن جهتنا، لا نرى أن هناك داعيًا لتسمية الحاصل في سورية بأي من تلك المسميات “العقلانية”، أو ربما يمكننا استدعاء شعار ممانع وقديم، للقول إن سورية ولبنان هما شعبان بنكبة واحدة، أو شعب واحد بنكبتين، أو للقول إن النكبة اللبنانية هي خاصرة النكبة السورية، لكن الفارق الأكبر، ضمن ذلك التسابق الشرق أوسطي نحو الهاوية، أو نحو من نَكبتُه أكبر، ومن نكبته أكثر شبهًا بالنكبة الأصلية الفلسطينية، هو أنه لا الشعب ولا القوى السياسية عندهم يُنكرون نكبتهم، أو لا يحتفلون بها على الأقلّ، بينما تصبح النكبة عبارة عن درجة متوسطة من درجات التفوق في الامتحان النهائي للهزيمة عندنا، بل تصبح احتفالية، يحتفل فيها الرئيس المنتصر على ثمانين دولة وحده؛ ثم يخرج “ببراءة الأطفال” ليأكل الشاورما، ويحتفل فيها الشعب بإعادة انتخاب رئيسه المنتصر إلى ما بعد الأبد “دستوريًا”، ويحتفل فيها العالم الذي استطاع إقناع روسيا أخيرًا بفتح المعبر الإنساني الوحيد في الشمال السوري.
من أين سنأتي بوصف أعمق للهزيمة، بعد ذلك، أكثر من إعلانها انتصارًا!
مركز حرمون
————————–
سوريا الأسد: حيث لا أمل ولا عمل/ حسام جزماتي
بخلاف المرات الثلاث السابقة التي ألقى فيها «خطاب القسم» قرر بشار الأسد، وفريقه من النساء، إضفاء طابع إمبراطوري على الاحتفال الذي بدا، هذه المرة، وكأنه حفل تتويج.
كانت أولى معالم التغيير هي استدعاء أعضاء «مجلس الشعب» إلى مقر إقامة الرئيس «المنتخب» في «قصر الشعب» بدل الذهاب إليهم في مبناهم وفق المعتاد. أما ثانيها فكان عدم اقتصار الحضور عليهم بل خلطهم بمجموعة من «الشخصيات الوطنية» المتنوعة بشدة، مما منح بضع المئات الحاضرين صفة «البلاط». ووفق التوزيع الاسمي لأماكن جلوس المدعوين توسط المشهدَ نوابُه الثلاثة؛ الوجه الشمعي لنجاح العطار نائبته في الدولة، وسِمات الأزعر على هلال هلال الرجل الثاني في الحزب، ومعالم الانذهال التي تتقن أسماء الأخرس رسمها على وجهها، زوجته ونائبته في القصر، وربما أكثر.
وقد عزز اختيار المدعوين من الإيحاء بأن الحفل تنصيب ملكي، وهو الأمر الذي أراده له منظِّموه كما يبدو، دون أن ينجحوا في ذلك ضمن الظروف الفقيرة لسوريا الأسد إثر «الحرب» التي تركت آثارها في دعوة عدد من الجرحى بكراسي متحركة، وبعض من فقد بصره، فضلاً عن عدد كبير من الضباط من رتب مختلفة وقطاعات سلاح عديدة. ناهيك عن الوزراء والمسؤولين الحكوميين؛ ورجال الدين الإسلامي والمسيحي بطوائفهم المتنوعة؛ وإعلاميين وممثلين ومطربين شعبيين؛ وكتّاب وتجار وزعماء عشائر ومؤلف موسيقي؛ شيوخ وشبان؛ رجال ونساء. كمية كبيرة من ربطات العنق والنظارات الطبية؛ حجابات وعگالات وبضع كمامات وبرنيطة واحدة.
في خطابه الطويل قال بشار الأسد كل ما يمكن أن يثير مللهم. فبدأ بالإنشاء المبتذل من نوع أن «قدر سوريا أن تمنح التاريخ ملاحم يقرأ صفحاتها كل من يريد أن يتزود بدروس الشرف والعزة والكرامة والحرية الحقيقية». ثم انتقل إلى وصف معارضيه بالعمالة، مشدداً على التمييز بين «الثورة والإرهاب»، وبين «الخيانة والوطنية»، وبين «إصلاح الداخل وتسليم الوطن للخارج».
ورغم ذلك لم يبدُ الأسد منشغلاً بخصومه، هذه المرة، بقدر ما أراد أن يصفّي حسابه مع التيار الثالث من مواطنيه. أولئك الذين قالوا إن ما جرى في البلاد «خلاف في الرأي»، ظانين أن في ذلك حكمة وأن في موقفهم حنكة. مؤكداً أن «لا مناطق رمادية»، فإما معه وإما ضده.
ولشرح الأسباب التي دفعت هذه الشريحة من الشعب إلى خيارهم الوسطي، فلم يكونوا الآن من الجالسين أمامه على الكراسي المتحركة؛ انزلق إلى التنظير كالعادة. فقال إن لدى هؤلاء خللاً في المسلّمات التي تتمثل في الأخلاق والعقائد والانتماء والقيم، يتوّجها الوطن. بعد أن أوضح أن المسلّمات بدائه متفق عليها بين أفراد الشعب، وأن البدائه هي البديهيات «باللغة المتداولة الشائعة»، هازّاً يده باستخفاف.
لم يكن هذا ما انتظره سكان سوريا الأسد، في الحقيقة، وهم يعيشون أزمة اقتصادية كارثية واختناقات في تأمين المواد الأساسية. لكن رئيسهم، «المنتصر إلا ربع» كما أوحى، لم ينشغل بذلك. وخصص من حديثه أقل الوقت لاستعراض رؤيته للحل، المتمثلة في رباعيةٍ هوامية حددها بزيادة الإنتاج واعتماد الطاقة البديلة والشفافية ومكافحة الفساد. ليعود إلى الإنشاء المريح، معتزاً بـ«العلاقة بيننا» كما قال لجمهوره، مؤكداً أنه يستمد من عيونهم «قبساً من ضياء ينير دربي».
انتهى الخطاب. خرج الأسد وزوجته من القاعة كمنتحلَي قصة نجاح زائفة. استلم الحاضرون «الهدايا التذكارية»، كما قال المذيع الذي حثهم على انتظارها بنبرة بعثية. غير أن أحداً من المتابعين لم يأخذ حقاً ولا باطلاً، مما دفع القناة الإخبارية السورية إلى استضافة لونا الشبل، المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية، للإيضاح.
في أثناء الخطاب كانت الشبل تسجل ملاحظات على دفتر صغير، وعند انتهائه كانت تصفق بحماس وانبهار كاذبين، لكنها حين دُعيت لتفسيره بدت كتارك الصلاة إذ جاءه الموت. فظهرت مرتبكة، تريد للقاء أن يمر بسرعة، تستعين على المقدور بأوراق أمامها.
قالت الشبل إن الأسد لم يعِد بشيء بل «قدّم رؤية». مبررة ذلك بأن من طبعه المباشرة بالعمل لا إزجاء الوعود، واتخاذ القرارات الصعبة لا ذات الشعبية. وأن على الناس أن لا ينتظروا القطاف الآن بل أن يبادروا إلى الزراعة. وأن الدعوة إلى إصلاحات سريعة قد تتقاطع مع «طروحات هدامة»، خاصة أن من تم التغرير بهم، حسب المستشارة، ليسوا فقط من حمل السلاح من «الإرهابيين» بل أيضاً من اكتفوا بالقول «الله يفرّج». من كان في الوسط «هم الأخطر»، لأن الوطنية لا تتجزأ و«المبدأ لا رمادية فيه»، مدافعة عن تقسيم «الأبيض والأسود». وعبثاً ذهبت محاولات المذيعَين للحصول على إجابة عن سؤال الشارع الموالي: «حسناً، لقد انتصرنا، ولكن كيف يُصرف هذا النصر؟».
أضافت الشبل عدة قطع من الثلج إلى سطل الماء البارد الذي دلقه الأسد فوق رؤوس من حضروا للاحتفال به كشاهنشاه كاريكاتيري. لكنهم، على الأقل، من شريحة تستطيع الحصول على ماء دافئ للاستحمام متى شاءت. أما جمهور مؤيديه الذين انتظروا الخطاب بلهفة، وجماعة «الله يفرّج» الصابرين على حكمه والذين التفت الآن للحفر في ضمائرهم؛ فيبدو أن أمامهم أياماً أصعب مما سبق.
الدكتاتورية ليست فقط أن تقصف جبل الزاوية قبل أن تخرج لاستعراضك البائس، لكنها تبدأ عندما تستطيع التفوه بترهات في مواجهة استحقاقات كبرى ولا يملك بلاطك إلا التصفيق.
تلفزيون سوريا
==========================
تحديث 27 تموز 2021
———————————
ما الذي قاله بايدن عن بشار لملك الأردن؟/ عمر قدور
لحديث ملك الأردن إلى محطة CNN عن الشأن السوري وقع مختلف، فهو أتى بعد لقائه بالرئيس بايدن، وبدا في جزء منه تقريراً لتوجهات الإدارة الأمريكية، وفي الجزء المتمم مناقشةً لتلك التوجهات، وربما انتقاداً لتراخي الإدارة في وضعها موضع التنفيذ. النظام “بشار” باقٍ في السلطة؛ يقولها الملك كمن يكرر ما هو مفروغ منه، ليتابع بالقول أن الإبقاء على الوضع الحالي يعني استمرار العنف الذي يدفع ثمنه الشعب السوري، وأن الحل بالحوار وبحث ما يمكن فعله في ما يخص إعادة الإعمار والإصلاح السياسي. وربطاً بقضية اللاجئين يركز الملك عملياً على إعادة الإعمار، بالإشارة إلى عدم إمكانية عودتهم بسبب الدمار، لا بسبب وجود بشار في الحكم وتبعات بقائه.
بيت القصيد في ما سبق ما أكدته للملك لقاءاتُه في واشنطن، وخلاصته بقاء بشار من دون عجلة في التطبيع معه دولياً، الأمر الذي ينتقده الملك ضمناً بسبب عبء اللاجئين السوريين، وخوفاً من التداعيات الأمنية على بلاده في حال بقي الوضع السوري غير مستقر. وكان الملك، بناء على هذا الفهم المسبق، قد حثّ إدارة بايدن بحسب صحيفة “واشنطن بوست” على تشكيل مجموعة دولية بهدف الاتفاق على خريطة طريق للحل في سوريا، بحيث يضمن الحل استعادة سيادتها ووحدتها “مرة أخرى من دون التطرق إلى تغيير سياسي”.
شكلياً، لا جديد في حديث الملك، فمسؤولو إدارة بايدن “وقبلها إدارة ترامب” تولوا بأنفسهم القول أنهم يريدون تغييراً في سلوك النظام لا تغييره. إعلان الموقف في حد ذاته لا يشرح السياسة الفعلية، فهو لا يمنع الإدارة الأمريكية من السعي إلى تغيير بشار وهي تعلن خلاف ذلك، والإعلان يبرر في المقابل الحد الأقصى من الليونة والتساهل الأمريكيين مع بشار وحلفائه. لذا تكتسب قراءة الملك أهمية بعد لقاءاته مع دوائر صنع القرار في واشنطن، فهو يدحض أوهام المتمسكين بوجود مكر أمريكي لم تظهر علائمه خلال السنوات الماضية!
والحقّ أن تصريحات الملك تؤكد ما بدأنا نرى مؤخراً مؤشرات عليه لجهة تأويل الموقف الأمريكي عملياً، بمعنى أن الغموض الذي يلف موقف إدارة بايدن من الشأن السوري راح يتبدد بشروحات يتولى تقديمها آخرون لا تنقصهم الثقة بفهمهم الموقف على حقيقته. لا نخطئ إذا اعتبرنا تعاطي إدارة بايدن مع التمديد لإدخال المساعدات الإنسانية عبر باب الهوى محطة رئيسية في شرح الموقف الأمريكي، فأوساط الإدارة احتفت بتمرير قرار محدود بمعبر واحد ولزمن قصير على أنه إنجاز لديبلوماسيتها، الاحتفاء الذي لا يمكن فهمه سوى كإشارة إيجابية إلى “الشريك” الروسي الذي التقطها على طريقته.
قبل عشرة أيام دشن مظلوم عبدي قائد قوات قسد حملة على وسائل التواصل عبر هاشتاغ يدعو إلى اعتراف دولي بالإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا، والحملة أتت كأنما بناء على تخوفات من تخلي الإدارة الأمريكية عن التزاماتها إزاء الإدارة. كذلك فُهم سعي الإدارة تجاه باريس، واستقبال ماكرون ممثلين عنها. وكان مظلوم عبدي قبل شهرين من إطلاق الحملة قد صرح واثقاً بأن قوات التحالف باقية لتحقيق النصر على داعش ودعم الاستقرار وتمكين الإدارة الذاتية، غداة لقائه حينها مع وفد من وزارة الخارجية الأمريكية ضم ممثلة عن مجلس الأمن القومي.
إذاً، ثمة تغير أمريكي تتخوف منه الإدارة الذاتية، ولا يبدد مخاوفها موقف إدارة بايدن السلبي من الخصم التركي، فمن غير المؤكد على طول الخط أن ما يضر بأحد الخصمين ينفع الآخر تلقائياً. آخر ما اختُبرت به أنقرة كان قبل ثلاثة أيام، بمقتل اثنين من جنودها في الهجوم على عربة مدرعة. لم تُعرف الجهة المهاجمة، وبيان وزارة الدفاع أعلن قيامها بالرد على مصدر الهجوم، لكن بطريقة تطوّق الحادث وتتحاشى التصعيد.
التصعيد هو بأمر عمليات روسي، وقد طال العديد من مواقع النفوذ التركي، من دون أن يصل إلى حد تفجير ما يمكن تسميته بـ”اللاتهدئة” المستمرة منذ الإعداد لقمة بوتين-بايدن، حيث نُظر حينها للتصعيد المحدود كتمهيد روسي لها. لعلها الأمانة الروسية لقراءة المصطلح العجيب “مناطق خفض التصعيد”، وقبل مهاجمة الجنود الأتراك كانت الصواريخ والطائرات قد ارتكبت أكثر من مجزرة في حق المدنيين، خاصة في جبل الزاوية-إدلب بلا رد من الضامن التركي.
يتسلل بوتين من الشقاق الأمريكي-التركي للضغط على أردوغان، ولتكريس عدم التهدئة كواقع مستمر يهدد النفوذ التركي، ويفاقم الأزمة الإنسانية على نحو متواصل، وينذر الإدارة الذاتية بأنها لن تكون خارج دائرة الاستهداف لاحقاً. لقد اختبرت موسكو “وأنقرة معها” وضعية مشابهة، غداة التدخل العسكري الروسي، عندما أخذت إدارة أوباما موقفاً منحازاً لموسكو على حساب أنقرة، وأدى ذلك إلى انعطافة تركية كبرى تجاه موسكو.
المفارقة هي في أن موسكو كانت تحسب حساباً لمزاجية ترامب في حين أنها مرتاحة الآن لسياسة بايدن التي تستطيع قراءتها جيداً، و”فرادة” الوضع السوري في أنها كانت مقيّدة عندما كان ساكن البيت الأبيض محسوباً كصديق لبوتين وهي مرتاحة مع الرئيس الحالي الذي طالما تعهد أثناء حملته الانتخابية بوضع حد للسلوك الروسي. ومن ضمن قراءتها لسياسة بايدن، تدرك موسكو عدم حماس واشنطن للغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، وهذا ربما ما سهّل على وزارة الدفاع الروسية إصدار بيان إثر الغارات الأخيرة، تقول فيه أن نظاماً للصواريخ حصلت عليه مؤخراً قوات بشار تمكن من تدمير كافة الصواريخ المهاجمة، مع تسريب مفاده قيام الخبراء الروس بتشغيل النظام الجديد، بمعنى تصدي موسكو المباشر للغارات الإسرائيلية. مثل هذا “الاشتباك” كان ليستدعي ذهاب نتنياهو إلى موسكو فوراً لعدم تكراره، حيث كان يُستقبل على نحو خاص كشخصية شديدة التأثير في واشنطن.
طوال شهور من تسلمه الرئاسة وُجهت انتقادات لإدارة بايدن بسبب عدم وضعها سياسة سورية، لكن ما قاله الملك عبدالله الثاني في حديثه إلى محطة CNN كان آخر ترجمة لما سمعه واستنتجه من لقائه ببايدن وسواه من مسؤولي الإدارة. رأينا من قبل الترجمة الحربية الروسية لسياسة بايدن في سوريا، ومن المحتمل جداً أن نرى الترجمة الفارسية إذا نجحت مفاوضات الملف النووي.
المدن
——————————–
سوريا الأسد وحدود الانتصار الجزئي/ د. حسن أبو طالب
في خطاب الرئيس بشار الأسد بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية بولاية رابعة مدتها سبع سنوات، فسر أزمة بلاده بسبب ما سماه غياب القيم، مشيراً إلى سقوط رهانات قوى العدوان لسقوط الدولة، وداعياً من سماهم بالمغرر بهم إلى العودة إلى الوطن. أما الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب البلاد فمردها حسب الرئيس الأسد إلى تجميد أموال السوريين ما بين 40 إلى 60 مليار دولار في المصارف اللبنانية. وبالنسبة للمهام المستقبلية، فهي – كما جاء في خطابه – استعادة سيادة سلطة الدولة عبر استكمال تحرير ما تبقى من الأرض السورية من الإرهابيين ورعاتهم الأتراك والأميركيين، وتلك أولوية قصوى تطلبت تحية من الأسد لكل سوري يقاوم القوات الأجنبية في المناطق المحتلة. أما الحلفاء الذين استحقوا التحية فهم روسيا وإيران، في حين لا يمكن لدمشق أن تنأى عن الهموم العربية وفي المقدمة قضية فلسطين.
الخطاب ملئ بالرسائل للداخل والخارج، ويقدم تصوراً لما مرت به سوريا في العقد المنصرم، وما يجب أن تقوم به مستقبلاً. ولعل أهم ما في الخطاب هو أن سوريا ليست معنية لا من قريب أو بعيد بالتسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة سعياً لتطبيق القرار 2254، وبيان جنيف 2012. وكلاهما حددا المطلوب لحل الأزمة السورية من خلال دستور جديد يشارك في صياغته كل السوريين، وتشكيل هيكلية حكم انتقالية تعقبها انتخابات رئاسية وبرلمانية يتشكل على أثرهما حكومة جديدة وفق المبادئ الديمقراطية. وهي الخطة المفترض أنها تُمثل المخرج الأشمل للأزمة السورية، ويفترض أيضاً أنها ستقود إلى سوريا جديدة متصالحة مع نفسها ومع العالم، وستؤدي إلى إسهامات دولية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
لكنها أيضاً الخطة الأممية التي لا تتعامل مع وجود القوات الأجنبية والمرتزقة بأنواعهم، وكيفية إنهاء وجودهم غير المشروع وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. وتلك بدورها ثغرة كبرى تخلط الأوراق، وتمنح نفوذاً لهؤلاء الأجانب، وفرض أمر واقع على مساحات كبرى من الأرض السورية، لا سيما أنهم مستبعدون من أي عملية تسوية سياسية، لكنهم يقررون مصيرها.
الانتخابات الرئاسية التي نظمتها الحكومة السورية وفاز فيها الرئيس بشار، كما كان متوقعاً بنسبة لا تقل عن 95 في المائة، لا علاقة لها بهذا التصور الأممي الذي تتمسك به دول مهمة على رأسها الولايات المتحدة، ولا ترفضها دول أخرى كالصين وروسيا وغيرهم الذين وافقوا على القرار الدولي 2254 لعام 2015. في حين أن واشنطن تضيف أيضاً شرطاً آخر إلى جانب الشروط الأممية، وهو محاسبة كل من اشترك في فعل يعد جريمة ضد الإنسانية وانتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وهو شرط موجه أساساً لمحاسبة الرئيس الأسد وبعض من حوله المتهمين باستخدام أسلحة كيماوية قضت على مدنيين كُثر في عدة مناسبات. وشرط المحاسبة أكد عليه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي في الشهرين الماضيين، حين قاد جهوداً دولية وإقليمية بشأن التمديد للقرار الأممي الخاص بمد التفويض لتمرير مساعدات إنسانية عبر معابر حدودية مع تركيا لا تخضع لسيطرة الحكومة السورية، وهو ما حدث بشأنه تفاهم بين الرئيسين بوتين وبايدن حين التقيا في جنيف في 16 يونيو (حزيران) الماضي.
السياسة السورية التي تجمع بين فرض أمر واقع يلغي عملياً عملية التسوية الأممية، وتكرس معنى الانتصار الجزئي بمساعدة حلفاء خارجيين، وتحدد الهدف في استكمال تحرير الأرض وطرد القوى الأجنبية، لا تشير صراحة أو حتى تلميحاً إلى التطلع لإنهاء تجميد العضوية في الجامعة العربية، وتترك الأمر عملياً لروسيا باعتبارها الحليف الأقوى الذي سعى بجدية شديدة لإنهاء هذا التجميد، كمقدمة لإضفاء شرعية عربية على سوريا نصف المنتصرة ورئيسها المنتخب، ولفتح الأبواب المغلقة أمام تقديم دعم اقتصادي للاقتصاد السوري المنهك، وفتح ثغرة تمر منها جهود إعادة إعمار سوريا ولو جزئياً.
التحرك الروسي بالتنسيق مع رأس دمشق لغرض استعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية يطرح ثلاث ملاحظات؛ أولاها أن الاستناد إلى فرضية أن تلك العودة ستؤدي إلى تقليص مساحات النفوذ الإيراني من جهة، وتدعم التحرك السوري المدعوم روسياً لإنهاء التدخلات التركية في الشمال السوري من جهة أخرى، يبدو صحيحاً نظرياً ولكنه لا يقدم دليلاً على أن نخبة دمشق الحاكمة تسعى بالفعل إلى تحجيم النفوذ الإيراني، ومن ثم فإن التطبيع العربي معها قد يكون إضافة فعلية تسهم في تحقيق هذا الهدف ولو تدريجياً. وتأتي تحية الرئيس بشار لإيران كحليف قوي أسهم في الانتصار السوري لتضع علامات استفهام حول صحة الفرضية وجدارة العمل على أساسها.
ثانياً أن التحرك الروسي المكثف في أكثر من مناسبة آخرها زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف في مارس (آذار) الماضي إلى مصر والإمارات وقطر، بدا وأنه يقفز عملياً على التوازنات القائمة في الجامعة العربية بشأن تلك المعضلة، والتي تجمع بين تأييد مبدأ استعادة سوريا لمقعدها استناداً لأهمية الأمر عربياً وسورياً، وهو ما عبرت عنه الدول العربية الثلاث ودول أخرى كالجزائر والعراق ولبنان والأردن، وفي الآن نفسه يربط بعضها إنهاء التجميد بشروط إجرائية وفقاً لميثاق الجامعة العربية، وأخرى سياسية وعملية أهمها أن تبدأ عملية تسوية سياسية جادة تنهي جذور الأزمة وتُنشئ سوريا جديدة لكل مواطنيها مقبولة عربياً ودولياً. وكلا الشرطين لم يتوفرا بعد. كما تقفز تلك الجهود الروسية على تأثيرات قانون قيصر الأميركي وما يتضمنه من قيود تجعل عملية إنهاء تجميد عضوية سوريا مرتبطة بتفاهمات وسياسات روسيا والولايات المتحدة مع مجمل الأزمة السورية، علاوة على علاقتها المباشرة والعضوية مع أزمات إقليمية أخرى، لا سيما مع إيران وبرنامجها النووي والصاروخي، وإنهاء الوضع الكارثي القائم في لبنان.
ثالثاً أن التحرك الروسي يتجاهل تأثيرات وجود القوات الأجنبية، لا سيما الأميركية والتركية والمنظمات المسلحة ذات الطابع الإرهابي على حقيقة محدودية السيادة السورية على الأرض السورية، ومن ثم تعقد عملية إعادة الإعمار حتى وإن رغب البعض في المساهمة الفعالة في تلك العملية. وفي السياق ذاته يبدو ثمة تناقض شاسع بين التأثير السلبى للوجود الأجنبي على الأرض السورية، وبين التنسيق المهم والمشهود بين روسيا وتركيا بشأن الوجود العسكري التركي في شمال شرقي سوريا، وأيضاً مع تل أبيب بشأن الهجمات الصاروخية والاعتداءات على مواقع عسكرية في العمق السوري من دون رد، في الوقت الذي تبدو فيه موسكو بمثابة ضامن رئيسي لبقاء الرئيس الأسد على قمة السلطة منعاً لفراغ السلطة، حسب الدعاية الروسية المتكررة.
التحرك الروسي على هذا النحو وإيمان الرئيس الأسد بالانتصار ولو كان جزئياً، وثقته بأنه لا حاجة إلى تسوية سياسية أممية أو غيرها، يرجح بقاء الأزمة لعدة سنوات مقبلة، ومعها معاناة السوريين في الداخل وفي الخارج.
الشرق الأوسط
————————–
قصة “الشيء” الذي أصبح رئيساً لسوريا/ علي حميدي
يمر كشيء في الحياة يمكن أن يقبل وجوده على مضض، سمج غير بارع إطلاقا باجتراح الفكاهة. شيء ثقيل المعشر وفارغ كأسطوانة يصفر فيها الريح، يتحدث من دون ثقة بالنفس ويجتهد دوماً باصطناعها، علمته السنوات بعضا من الحضور لكنه لم يكن حضوراً آسراً في أي موضع. شيء كهذا سنقبله كأشياء كثيرة تمر عرضاً في يومياتنا. الكارثة أن يكون هذا الشيء رئيساً لسوريا في زمن استثنائي وصعب.
زمن تكثف فيه الغضب العربي عموماً والسوري خصوصاً “الربيع العربي”، عندما انفجر الغضب ثورات مزلزلة أطاحت بعروش أشياء مثله، لكنها وللأسف دخلت أو أدخلت عنوة في سرداب مظلم، فتصدرت على الحواف أشياء كثيرة كبشار، السيسي، حفتر، الحوثي، قيس سعيد وسواهم..
ليس لكفاءة أو رفعة، بل فقط لأن العالم في الألفية الثانية تجاوز حقوق الشعوب وفضل تحنيط النماذج “الناجحة” حسب مصالحه ونواميسه، مبتعداً عن الهوامش المزعجة وهي هنا نحن الشعوب العربية الطامحة لأنظمة ديمقراطية تحترم الحريات وتتيحها، فنمت فينا وبيننا تلك الأشياء وعرّشت ونالت حظها من الوقت والتغاضي والغفران، واستمر معها قهرنا..
بشار حافظ الأسد الشيء الذي يصبح دائما رئيسا بانتظار شيء ما سيحصل، فكيف صار ذلك؟
مما هو معروف للجميع أن بشار لم يكن إلا ابن حافظ الأسد، وُلد وأبوه قائدٌ لسلاح الطيران السوري الذي سيسحق لاحقاً في حرب 1967.
تزامن ميلاده مع الفترة التي زار فيها حافظ الأسد لندن صيف 1965. قيل عن الزيارة إنها مشبوهة، يذكر أحمد أبو صالح عضو القيادة القطرية في حزب البعث في شهادة له أن قيادة الحزب حققت مع الأسد بعد عودته، والبعض اتهمه بالعمالة، فيما بدا أن تلك الإجازة اللندنية كانت تقديما لأوراق الاعتماد لدى الغرب وجاهزية لتنفيذ ما يطلب منه لنيل الرضا في مرحلة حساسة من تاريخ سوريا والمنطقة بأسرها.
تخرج بشار من كلية الطب – جامعة دمشق، عمل كطبيب في مشفى تشرين العسكري قبل أن يُرسل أوائل التسعينات إلى لندن ليتابع الدراسات العليا في طب العيون. من الواقعية بمكان القول إن إيفاده إلى بريطانيا لم يكن لغاية تحضيره كما حُضر أبوه من قبل أو كما يحضر الزعماء أبناءهم، إنما محاولة تحضر بها الأشياء أمثاله كي لا يستمرون أعباءً على عائلاتهم، يقول الأمير السعودي بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات السعودية السابق في حوار نشرته صحيفة إندبندنت عربية:
“أول مرة سمعت بشيء اسمه بشار.. كان لأتوسط لدى الحكومة البريطانية لقبوله للحصول على دورة تخصصية في لندن.. تحدثت فعلا مع المسؤولين البريطانيين في موضوعه.. وقلت لهم إن منحه الموافقة لن يضرهم، بل نصحتهم أن يتعرفوا عليه، فقد يصبح يوماً من الأيام شيئاً”.
هذا الذي أصبح شيئاً فعلاً لم يكن مستقبله يشغل بال أحد حينها، فلأبيه المتحكم تماما بالبلاد مآرب بدأ بتحقيقها من خلال تهيئة ابنه الأكبر باسل كرئيس يخلفه، إلا أن القدر لم يأت كما يشتهي الأب، مات باسل الأسد عام 1994، واستدعي بشار لدمشق.
الوقت القصير الذي قضاه في لندن سيضاف لرصيده الصفري، وسيضاف أيضا للرصيد زواجه من أسماء الأخرس البريطانية المولد والمنشأ ابنة فواز الأخرس الطبيب المقيم في بريطانيا والذي سيوصف لاحقا بأن له أدواراً في الاتصال بين الحكومتين السورية والبريطانية.
عاد بشار إلى سوريا، كان واضحا له ولجميع من هم في بلاط أبيه أن موت باسل أحدث فراغا كبيرا وعليه ملؤه، وسنكتشف لاحقا كم كان فاشلا في تلك المهمة لتصير السنوات الست التي مرت عليه لتحويله لشيء نافع، مادة للتندر لكل من عايشه فيها.
مهووس باللعب والعبث، سطحي التفكير، غير مبال.. لم تفلح مسيرته العسكرية المدفوع إليها دفعا في الكلية الحربية بصقله وتجهيزه كما يجب، رغم أن الطريق مُهدت له بالرتب والترقيات وإبعاد الضباط الكبار وتولي ضباط صغار موالين. مسيرة يمكن أن توسم بها كل مشاركاته في شؤون الحكم.
لم يستفد من البذل والفرص المسخرة، اختار معركته الأولى في الملف اللبناني ليفشل بها كثيرا في أثناء تجهيزه، ولاحقا كرئيس، ويسحب جيشه مذلولا بعد اغتيال رفيق الحريري 2005 الذي اتهم به.
في الداخل توجه إلى قطاع المعلوماتية وترأس الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية التي ما تزال البلاد تحصد نتائجها في القطاع التكنولوجي، حيث لم تحظ سوريا يوما بأي تصنيف في هذا القطاع سوى أنه الأسوأ.
الفراغ كبير.. والفراغ لا يُملأ بالفراغ
لأن نتائج تحضير الشيء لملء الفراغ لم تكن ترضي أباه، لم يقدمه في المجالس ولم يكلفه علنا بمهام، بل دفع المسؤولين ليحركوه ويحركوا من حوله وأوصى زواره وندماءه عرباً وعجماً بتخصيص وقت لتعليمه ووصله بالعالم الخارجي، بعيداً عن غرف اللعب والعبث المشغول بها.
وما كان من حافظ الأسد إلا أن يموت، كان يجب أن يموت ليفسح المجال للشيء الذي سيحمله المنتفعون والمتسلقون الانتهازيون ليصبح رئيسا لسوريا.
الرئيس
تولى المنصب إثر تغيير جراحي في الدستور السوري شمل عمر الرئيس، ومن على منصة القسم في قاعة مجلس الشعب السوري ظهر متعرقا مهزوزا لا يكاد يصدق أنه صار رئيساً لسوريا.
قرأ الشيء الرئيس نصا مكتوبا بعناية أمام حشد من النواب غالب الظن أنهم لم يفهموا مصطلحات الرئيس الجديد. تجول باللغة بين تحسين حالة حقوق الإنسان والحاجة إلى التفكير خارج الصندوق والنقد البنّاء وتعزيز الشفافية وترسيخ الديمقراطية، مفاهيم جديدة وغريبة على قاعة مجلس الشعب لكنها قدمت حينها بارقة أمل، وليكمل خطه رفع شعارا عريضا “التطوير والتحديث”. سيصبح لاحقا هذا الشعار محل تندر السوريين وأحد مصائبهم الكثيرة التي حاقت بهم مع تولي بشار الأسد الحكم.
سجلت السنوات الأولى لبشار دعما ملحوظا من قادة كبار في العالم والمنطقة لتسهيل مهمته والحفاظ على نمطية الاستقرار التي أسس لها أبوه وكانت مقبولة رغم أنها مجبولة دائما بدم السوريين. أغلب هؤلاء نعتوه بالولد والطائش وأكنفوه برعايتهم وغطوه سياسيا ودوليا لأنهم ببساطة كانوا مثل أبيه يهيئون أولادهم للحكم.
أما السوريون ممن صدقوا الوعود والظروف التي أنتجها الفراغ واستبشروا خيرا بالكلام وبإغلاق سجن المزة والإفراج عن كثير من السجناء السياسيين فقد خاضوا مغامرات سياسية – اجتماعية – اقتصادية ستعرف بربيع دمشق الذي وصل إلى نهاية مفاجئة في صيف 2001 عادت بعدها سجون آل الأسد لعاداتها كمكان يجمع السياسيين، والصحفيين وناشطي حقوق الإنسان ودخلت دمشق في خريف طويل.
وهنا يمكن بسهولة تذكر ما قاله وزير الإعلام الأول في عهد بشار عدنان عمران عام 2001 عن حركة المجتمع المدني:
“إنه مصطلح أميركي تم إضفاء معان إضافية إليه مؤخراً من قبل جماعات تسعى لأن تصبح أحزاباً”.
هذا التصريح الكارثي في الألفية الثانية لم يكن مفهوما لكثر في العالم ممن يرون أن السعي لتشكيل حزب فعل طبيعي ومشروع.. لكنه يؤشر بوضوح للعقلية الحاكمة في سوريا.
بالعودة إلى الرئيس الشيء فقد نكص كل الوعود الإصلاحية مبكرا، ليتبين أنها مجرد انتهازية حاول عبرها كسب الشعب والشرعية، غير آبهٍ بدروس التاريخ ودورة الظلم الطبيعية، ظل كما الوريث الذي امتلك فجأة لعبة كبيرة اسمها سوريا.. أكمل فيها عبثه.
الأشياء في سوريا تسير إلى الخلف أو تراوح مكانها إلا شيئاً واحداً يتقدم صاعداً
الحريات في أدنى مستوياتها والانفراج الذي استمر نحو عام انتهى كأنه لم يكن يوما وتم استبداله منذ ذاك الحين بسيل من التحليل الماورائي وشرح المصطلحات في خطب الرئيس المعقدة، دروس تنمية، فلسفة وأستاذية يحبها بشار ويتقنها، فلا ترون إلا ما يرى ولا تسمعون إلا ما يقول.
غزو العراق 2003، اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان وفرض العزلة على دمشق، الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006 وسلة من التحديات الخارجية رافقت الفترة الرئاسية الأولى للشيء. زاد فيها الفراغ ولم تتقدم البلاد في أي مجال، بل دخلت معادلاتٍ يخجل منها هواة السياسة الصغار.
خطاب شعبوي أمام الجماهير العربية وعزف على وتر مقاومة الاحتلال والانتصار للقضايا الكبرى، ومعاداة إسرائيل، الغرب وأميركا، خاصة بعد غزو العراق بينما كانت كل أجهزته الأمنية متفرغة لإسداء الخدمات للجميع في قضية منتسبي تنظيم القاعدة.
كشفت صحيفة The Washington Post، شباط 2013 عن الدول التي شاركت في برنامج الترحيل السري التابع لوكالة المخابرات المركزية CIA وكانت سوريا إحدى هذه الدول ومن أهمها.
“أعاقت ظروف عديدة بعض التطورات السياسية التي كنا نرغب في تحقيقها” من خطاب الولاية الثانية لبشار الأسد تموز 2007.
الفترة الرئاسية الإجبارية الثانية بدأت بحجة الظروف الخارجية غير المواتية، وطبعا بنسبة أصوات مؤيدة بلغت 98% من المستفتين السوريين. كانت آثار اغتيال رفيق الحريري والعزلة وتداعيات التخبط في السنوات الأولى بادية على ملامح البلاد ورمي عليها كما العادة كل إخفاقات الولاية الأولى.
حاولت السعودية ودول الخليج سحبه مجددا وإنقاذه اقتصاديا فاستفاد من فك العزلة عربيا وغض الغرب الطرف عن سيئاته وتناسى اتهامه باغتيال الحريري، مقابل بعض حسناته وخدماته التي يقدمها لهم في سياق تنامي الحرب على الإرهاب. أعاد الاتحاد الأوروبي المحادثات حول اتفاقية الشراكة الأوروبية، تلتها زيارة وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس لدمشق، ثم زيارة الأسد لباريس تموز 2008.
مجددا لم يستفد الشيء من ذلك، وكأي شخص ساذج يعتقد أن الفرص لا تنضب وأنه قادر على اللعب على الحبال، رأى بشار نفسه شيئا عظيما لا يستغنى عنه، مد الجسور مع الغرب واحتفظ بالميل تجاه نظام يعادي العالم ويعاديه، إيران وحزب الله ليكونوا شركاء استراتيجيين في وجه العرب الذين ساعدوه غير مرة. اقترب أيضا من تركيا ومنحها ميزات اقتصادية أثرت بشكل مباشر على معاش السوريين، وبدا كأنه يشعر بالاستقرار فتقبل الغزل الإسرائيلي وبادله بمثله.
سارية السواس عنوان المرحلة
شهدت البلاد فقاعات اقتصادية وحراكا تنمويا قشريا مزيفا على شكل تحولات في إمكانيات الطبقة الوسطى وافتتاح مشاريع استثمارية كبيرة وبنوك خاصة، ازدهر التهريب على الحدود وانتشرت وكالات الماركات العالمية وعاشت سوريا مواسم سياحية عامرة.. حياة ليلية، نجوم ونجمات، ومذهب فني جديد عرابوه مغنو الساحل السوري والنغم العراقي المحدث اللاجئ.. عناوين ساهم بها دخول عراقيين جدد بعد 2007 مختلفين عن اللاجئين الأوائل، وتدفقت الأموال وفاحت رائحة الغسيل النظيف.
سارية السواس المغنية الشاملة كانت عنوان مرحلة ازدهار السياحة موسمين أو ثلاثة شهدت زيارات المغتربين لبلدهم وتزامنت مع تعطل المرافق في لبنان الخارج من الحرب.
“لم تكن الصور وحدها تملأ فضاء سوريا.. بل كان سيادة الرئيس يتردد على المسامع منذ الصباح حتى المساء في نشرات الأخبار والأناشيد والأغاني.. تذكره الناس بأنه الخالق لسوريا الحديثة.. يتردد اسمه في بيوت الله. يقترن بالله. الخالق بالخالق” الروائي السوري فواز حداد يصف مرحلة تأليه الأسد الآب في روايته “السوريون الأعداء”.
التضييق على الحريات يتزايد وجفاف سياسي تام، ليس فقط بفعل تغول الأمن وسيطرته على كل شيء في البلاد، بل لأن الحياة السياسية عطلت تماما وأريد لها أن تموت وخاصة بعد موجة الاعتقالات والملاحقة والاضطهاد التي طالت الموقعين على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي 2005 وبعده إعلان دمشق – بيروت 2006، هذا والحال أصلا لم تكن جيدة.
كان على السوريين أن يكتفوا بهبة القائد الخالد الذي ترك لهم ولسوريا رئيسا ليس كمثله شيء أو أحد، وفي تكرار ممجوج لسيرة الأب أخذت خطة تأليه بشار الأسد تتصاعد وتنمو. الرجل الذي لا مثيل له، الشاب الوسيم المنفتح المتعلم والمقاوم الصلب الذي يكاد ينهي العشرية الأولى كحاكم مطلق لسوريا وهو في ريعان الشباب وعلى السوريين التعايش مع هذا الشيء الفريد عشرات السنوات الأخرى قبل أن يفكروا بخلفه.. شركات علاقات عامة تقدم الرئيس وزوجته للغرب على صفحات المجلات الشهيرة يمارسون حياة كنبلاء أوروبا. خطاب شعبوي يحرك مشاعر شباب العرب وشعارات عن الصمود والتصدي المقاومة، وآلة تعمل في الداخل. بشار في كل مكان صور ومقاطع فيديو وأغان عن بشار في الحفلات والأعراس، مشاهد لحركاته “البلهاء” تملأ الهواتف المحمولة.. بشار بين الناس، يأكل ويشرب ويقود سيارته بنفسه من دون حراسة، بشار يقرع الحكام المتخاذلين.. أسد العرب، حامي العرين، البشار.. ألقاب أنتجتها سنوات الدورة الثانية في الحكم.
العام 2010 الذي سيكون فارقا
الآثار المؤقتة لتطبيق نظام اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أقره مؤتمر حزب البعث السوري في عام 2005 بدت واضحة، والتطبيق المشوه المُسورن (اقتصاديا دون سياسي)، أفرز قشرة تنمو، وهوامش تزداد لتأكل البلد كله، وكانت سنوات قحط وجفاف، قلت الأمطار في تلك السنوات حيث ضربت موجة جفاف (2007-2010) من الأشد في تاريخ البلاد.
سياسة الفريق الاقتصادي الذي شكله الأسد وحده أنتجت ارتفاعا بالأسعار وزيادة في البطالة وتدنيا لمستوى التعليم والصحة واتساعاً في الهوة بين الأغنياء والفقراء، وكانت الحكومة ومؤسسات الدول وهيئاتها تمنح التسهيلات بشكل انتقائي وركزت على قطاعات معينة كالخدمات والسياحة والتجارة.. وطبعاً التسهيلات من نصيب أشخاص بعينهم نعرفهم جميعا، يملكون رؤوس أموال كبيرة وأصبحوا يملكون البلاد والعباد.. تغيرات سطحية لم يرد منه إلا خدمة السيد الرئيس وعائلته والمقربين.
وفي تقييم سريع للخطة الخمسية التي طرحت في المؤتمر القطري لحزب البعث 2005 وتبني اقتصاد السوق الاجتماعي، مع تجاهل المتغيرات الحقيقية كالجفاف والهجرة والأتمتة.. يتبين أن نسب النمو انخفضت واتسع نطاق الفقر، وبلغ العجز في الميزانية نحو 10% من الناتج المحلي.. سقطت إذن كل الدعاية عن (الإنجاز الاقتصادي) التي رافقت السنوات العشر حيث أريد للخنق السياسي أن يروج على أنه ضرورة للبناء والتنمية وتحريك عجلة الاقتصاد والقضاء على الفساد والنهوض بالمجتمع معيشيا ثم منحه الحرية والديمقراطية رويدا رويدا..
العام 2010 سيكون فارقا لأنه أيضا أنهى أكذوبة الحرس القديم الذي كانت ترمى عليه الإخفاقات وتعطيل عجلة الإصلاح. لم يعد في سوريا حرس قديم لأن عشر سنوات كافية لإحداث فرق في كل المجالات..
المفاجأة غير المحسوبة كانت نهاية 2010.. عندما سُمع صوت من تونس كان كجرس إنذار سيتردد صداه في المنطقة العربية بأسرها، ويبشر برياح التغيير. الذي يخشاه بشار الأسد.
الشيء لم يتغير وكل هذا لم يغير شيئا.. فاكتمل “العقد الضائع”
أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرا بعنوان “العقد الضائع” بعد عشر سنوات على حكم الأسد.
دخلت سوريا 2011 بكامل هشاشتها وقد طحنها الفساد والتأجيل والبطالة، وكل المؤشرات تدل على تدنٍ في قيمة المواطن السوري العادي وتغولٍ لأصحاب رؤوس الأموال وأصحاب النفوذ والسلطة، أما بشار الأسد فما زال يُهمس له ويعتقد في قرارة نفسه أنه الملهم المحبوب الذي يعبده شعبه.
لم يمض وقت طويل حتى أتت رياح التغيير على زين العابدين بن علي في تونس، حسني مبارك في مصر، وبدأت ارتدادتُ الحرية تهز عروش القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن.
وفي آذار 2011 اهتزت الأرض في سوريا من دمشق إلى درعا. لاحت الانتفاضة، وكانت فرصة الشيء ليجبر خاطر شعبه، ليأخذ بيده وليجنب سوريا الانهيار..
عدم الانهيار كان خياراً متاحاً لو أن بشار الأسد تحلى بالحكمة وقابل الشعب بغير القتل والمجازر.
الفرصة الأهم اقتربت أكثر من بشار الأسد ليصبح فعلا شيئا عظيما
ظهر الشيء نهاية آذار، في خطاب متلفز انتظره السوريون والعالم، وعوضاً عن اقتناص الفرصة، أعلن الحرب ولم يغير شيئا، سمع المنتظرون كلاماً مكروراً عن المؤامرة والمندسين والمواجهة الحتمية. سخرية من الاحتجاجات، نكات وضحك.. فعل سيتكرر كثيراً بوقاحة لا تعي خطورة الحدث، وكالعادة مع كل خطاب، تصفيق وابتهاج معلب.
تحولت الاحتجاجات إلى انتفاضة ثم ثورة فحرب فمأساة، بقي حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع بحكم الدستور، المادة الثامنة راسخة، قانون الطوارئ، وحالة الطوارئ سارية وبشدة، لا أحزاب ولا مجتمع مدني ولا إعلام وحرية التعبير حالها في الحضيض، السلطة مطلقة بيد الرئيس لا معارضة ولا حتى نقد محب ومجموعة منتفعين تستمر في امتيازاتها..
أضاع الشيء الفرصة ولم يخيب ظن العارفين به، وبعنجهية وسطحية أعلن الحرب ومواجهة الجميع.
مجددا أذكركم بعدنان عمران الذي قال يوما وهو يواجه الناشطين السوريين
“عندما تكون نتائج أي فعل المس بالوطن فهناك احتمالان: الأول أن يكون الفاعل عميلاً يخرب لصالح دولة ما، أو أن يكون جاهلاً ويخرب من دون علم”.
عشرة أعوام مضت على خطاب الحرب، وإلى اليوم سمع السوريون كثيراً من الخطابات. أصبحت سوريا الكارثة الإنسانية الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية بنحو مليون قتيل، و2.1 مليون مصاب منهم بإعاقات دائمة، وتهجير 13 مليون شخص إلى مناطق اللجوء والنزوح، الخسائر الاقتصادية حتى 2020 نحو 530 مليار دولار.
وما دون ذلك مرت في السنوات العشر تفاصيل كثيرة، مؤلمة لكنها هامشية أما المأساة، دمرت المدن والحواضر السورية وضاعت أجيال بلا تعليم وكثرت الاحتلالات والجيوش.
انهار كل شيء.. لأجل شيء واحد اسمه بشار الأسد الذي سيحظى بأسماء كذيل الكلب أو الحيوان.
وفي التفاصيل كثير من توافه الأمور مرت خلال السنوات العشر الماضية كأن يصدر الأسد قانونا لتشكيل الأحزاب ويلغي المادة الثامنة ويفوز بالانتخابات الرئاسية دورتين متتاليتين أخرها قبل أيام، وأن يقف خطيبا بين حاشيته.. يشرح المصطلحات ويلقي نكاته السمجة كالعادة.
تلفزيون سوريا
————————
الموالون السادة والموالون العبيد في خطاب لونا الشبل/ عبد القادر المنلا
ما إن انتهى بث حوارها على قناة الإخبارية أو (الاستخباراتية)السورية – إن توخينا الدقة- حتى اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي موجة استنكار كبيرة ضد “لونا الشبل” المستشارة الإعلامية لبشار الأسد.
موجة من التذمر والسخط والإحباط والشتائم المباشرة تركزت هذه المرة في أوساط المؤيدين الذين أحسوا بإهانة بالغة بسبب نظرة الشبل الدونية لهم واستهزائها بصمودهم و”تضحياتهم” و”شهدائهم”.
أكثر ما استوقف المؤيدين أن حديث الشبل تركز بشكل رئيسي حول تحليل خطاب القسم الذي ألقاه الأسد منذ أيام، فهي بشكل أو بآخر تتحدث باسم الأسد ولكنها تعبر عن رأيها الشخصي، تحتمي بالأسد وخطابه لتبث سمومها في أوساط المؤيدين وتفسد عليهم فرحة الاحتفال بالنصر وفرحة ترقب توزيع الغنائم.
الحصاد المرّ..
لا حصاد لما زرع المؤيدون، ولا مكافأة لعطاءاتهم وتضحياتهم إذاً، فيكفي أن جيشهم “الباسل” أعاد الأراضي التي استولى عليها الإرهابيون، فما بال الموالاة لا يدركون أهمية ذلك، ولا يحسون أن استرجاع الأراضي بحد ذاته أكبر الغنائم وأعظم الحصاد وأهم مكافأة لمن وقفوا مع الأسد.
ماذا لو أن الإرهابيين ما يزالون يهددون مواقع الموالاة؟ ماذا لو أن الجيش السوري وقائده الأسد لم يسحقوا الإرهاب؟
وربما كان السؤال المبطن والأهم الذي تريد الشبل توجيهه إلى الموالاة هو: ماذا لو أن الثورة انتصرت ففقدتم مكاسبكم ومنافعكم التي كنتم تحصلون عليها من خلال منظومة الفساد التي استمات الجيش الباسل للحفاظ عليها، منظومة الفساد الكبرى التي قسمت الكعكة وفق قوة اللصوص وقربهم من زعيم العصابة، لقد تعرضت تلك العصابة للاهتزاز مع أول صوت طالب برحيلها ومحاسبتها، ولكن ها نحن موجودون من جديد، فقدتم بعض مكاسبكم فاحمدوا السيد الرئيس لأنكم لم تفقدوا رؤوسكم، واحمدوه أيضاً على حرصه على منظومة الفساد التي يتعهد بإبقائها قوية وراسخة، وكل ما تسمعونه عن الضرب بيد من حديد ضد الفاسدين ما هو إلا كلام في كلام، بدليل أن الفساد لم يتراجع قيد أنملة، فاطمئنوا.
لقد دافع جيشنا الباسل عنكم وعن كراسيكم وعن غنائمكم التي تتقاسمونها منذ عشرات السنين، فأنتم إذاً لم تخسروا إلاّ بعض ما كنتم تكسبون مما لا تستحقون، فبماذا تطالبوننا؟
سادة وعبيد..
أما صغار المؤيدين ممن هتفوا وخرجوا في المسيرات المؤيدة وكتبوا التقارير، وساهموا في الترويج لرواية العصابة، فعليهم أيضاً أن يحمدوا السيد الرئيس على نعمة البقاء.
انظروا كم من المؤيدين قتل أو أصيب، فعلى كل من بقي على قيد الحياة وعلى كل من بقي سالماً أن يعلم أن هذه هي مكافأته، وأن عليه أن يخوض حرباً جديدة لاستعادة موقعه في خريطة الفساد الجديدة، وليبحث عن غنائمه بنفسه في قادمات الأيام، أما الآن فلا يستطيع السيد الرئيس اقتطاع جزء من حصته وحصة الدائرة الضيقة ليوزعها على كل الأتباع.
ولربما قالتها الشبل بشكل صريح: لقد ضحى الجيش بكل ما لديه، والآن جاء دور الشعب بالتضحية، إنها رسائل مبطنة ولكنها واضحة: ثمة سادة وعبيد، ولا يمكن لكل المؤيدين أن يكونوا سادة، فمن أين سنأتي إذن بالعبيد؟
لقد اعتقد المؤيدون، أنهم خاضوا الحرب جنباً إلى جنب مع الجيش والرئيس، ولكنهم فوجئوا بأن لونا الشبل لا تعترف بكل ما قدموه بل وترى أن معركتهم بدأت الآن، وأن عليهم أن يستعدوا للتضحية.
محافظ حمص مجددا..
لقد كان خطاب الأسد بحد ذاته استفزازياً بالنسبة للمؤيدين، ولكن هؤلاء يتقبلونه من الرئيس وحده باعتباره ينضوي -ولا شك- على حكمة ما وعلى بعد نظر، وأيضاً لأن أحداً لا يستطيع إبداء تذمره أو اعتراضه على الخطاب أو جزء منه، ولهذا يضطر المؤيدون لأن يفسروا ما يقوله الرئيس على نحو إيجابي، لأن يروا فيه ما يشتهون بصرف النظر عن تطابقه مع مضمون الخطاب وواقعه.
أما أن تظهر لونا الشبل وبصفتها الرسمية لتؤكد أن كل ما ورد في خطاب القسم من استفزاز واستهتار واستعلاء هو أمر مدروس ومقصود، فهنا لا بد للمؤيدين أن يصبوا جام غضبهم على الشبل لكونهم لا يستطيعون التجرؤ على الأسد، بل وربما يخطّئون لونا في تحليلها وتفسيرها للخطاب مكتفين بالصورة الإيجابية التي تشكلت لديهم من خطاب القسم، الصورة الإيجابية التي لا يستطيع المؤيد رؤية غيرها، أما أن تأتي لونا الشبل وتفرض فهماً واقعياً لا يتقاطع مع أمنيات المؤيدين فلا بد حينذاك من ثورة على الوسيط، ثورة تحمل ذات منطق الثورة على محافظ حمص لا أكثر.
مكانة وظيفية أم شخصية؟
لا تبدو الشبل من خلال لقائها التلفزيوني مجرد مستشارة إعلامية في قصر بشار الأسد، ولا مجرد موظفة من ذوات الوزن الثقيل وحسب، وإنما من عظام رقبة القصر ومن أساساته القوية.
كل تصرفات لونا توحي بذلك أيضاً: ثقتها المفرطة، رغم ضعف حججها وضعف حضورها وأدائها، ضحكاتها الصبيانية، لغتها الكيدية، وكذلك طريقة تعاملها مع مضيفيها، والتحكم بنوعية الأسئلة وزمنها، فضلاً عن الحفاوة الاستثنائية التي أحيطت بها سواء من قبل المذيعين، أو من قبل الإدارة، حيث كان عماد سارة وزير الإعلام حاضراً خلف الكاميرا، وسُربت أخبار عن تقديمه العصائر بنفسه لها، وامتداحه لحديثها وإظهار كل أشكال النفاق والتذلل لها، الأمر الذي يؤكد المكانة التي تحتلها الشبل في هيكلية النظام، ولكنها تبدو مكانة شخصية أكثر منها وظيفية.
بدت لونا وكأنها تعرف الأسرار العميقة لبشار الأسد والتي لا يحق للمستشار الإعلامي أن يعرفها لكي توحي بتلك العلاقة الخاصة مع الرئيس، ففي أثناء حديثها عن نتائج الدراسة الخاصة بأولاد الأسد، أوحت لونا بأنها أم أولاد الرئيس وأن العلاقة الشخصية التي تربطها به أهم بكثير من علاقة العمل، أما حديثها عن علاقة الأسد بحسن نصر الله، فهي الوحيدة التي تعرف مدى عمقها كما ادعت، رغم أن الطفل السوري يعرف تماماً عمق تلك العلاقة، ولكن يبدو أن الشبل تتحدث عن العلاقة الخاصة، الشخصية، وتريد أن توحي بأنها تحضر اللقاءات غير الرسمية للاثنين أيضاً (الأسد ونصر الله).
لماذا حسين مرتضى؟
ولربما جاء اختيارها للصحفي اللبناني حسين مرتضى ليتصدر الحوار تأكيداً على إهانة النخبة السورية التي ساندت الأسد لسنوات، ولربما رأى المؤيدون في ذلك الاختيار إجابة على تساؤلاتهم حول الغنائم وإلى من تذهب، فمن بين كل الصحفيين السوريين الذين وقفوا مع الأسد على مدار عشر سنوات، يتم الاعتماد على صحفي لبناني وتصديره في اللقاءات الهامة على حساب الصحفيين السوريين، هنا نعود لمنطق العبيد والسادة، صحيح أن المذيعة ربى الحجلي سورية، ولكنها لم تكن أساسية في إدارة الحوار.
ذلك أمر مستفز جداً، ولكن تسلط لونا الشبل وبلطجتها وتشبيحها على الشبيحة ذاتهم فاق كل احتمال، فكم من الصحفيين الذين تأذوا من لونا بفقدان مواقعهم ومناصبهم أو بتحجيمهم أو حتى بالتسبب بجلطات دماغية وإعاقات دائمة لهم كما حدث مع مدير تحرير جريدة الثورة سابقاً علي القاسم على سبيل المثال والذي يرقد منذ سنتين صريع الشلل من جراء جلطة دماغية تسببت بها الشبل بعد اضطهادها للقاسم وقمعها له وهو الذي سخّر نفسه لسنوات طويلة للدفاع عن الأسد وروايته وكاد أن يفقد حياته في سبيل ذلك.
فوق لغة الاستعلاء والاستهزاء بالمؤيدين أنفسهم، سادت أيضاً لغة تهديد خفية، فلونا تريد أن تصدر نفسها على أنها صاحبة قرار ليس فقط ضمن موقعها وإنما أيضاً في كل شيء، بدليل خطاب القسم الذي تفهمه أكثر من الأسد نفسه، فهي لا تحلل الخطاب في الواقع وإنما تفسره وتلمح من بعيد إلى أنها هي من كتب ذلك الخطاب، ولربما كانت السذاجة والمباشرة في أسئلة المضيفين تكشف أيضاً عن معرفتهما بأن الشبل هي من كتب الخطاب، وهي المرجع الأول والأهم الذي يفسر المقصود بكل كلمة قالها الرئيس فيه، فحسين مرتضى يسأل الشبل سؤال العارف والواثق بأن الإجابة الشافية ستكون لديها، أما الشبل فهي تجيب بلغة من يثق تماماً بأنها الوحيدة التي تعرف خفايا الخطاب، وبالطبع فإن كاتب خطاب الرئيس هو الوحيد الذي يقف أمامه الرئيس ضعيفاً، متسائلاً عن معاني وأهداف بعض الكلمات والجمل.
ربما ستكون مواقف المؤيدين ما بعد لقاء لونا الشبل مختلفة تماماً عما قبله، ولربما تشكل لغتها المتعالية على أتباع الأسد أنفسهم من بسطاء ونخب مفترق طرق يدفع بالمؤيدين إلى توخي الحذر وإعادة التفكير ولو لمرة واحدة بمواقفهم الخشبية التي استمرت سنين طويلة.
تلفزيون سوريا
———————–
الصداع السوري/ عدنان علي
بعد أكثر من عشر سنوات على انطلاق الثورة في سوريا ضد نظام الأسد، ووصول الحلول السياسية التي طرحت خلال ذلك إلى طريق مسدود، بسبب عدم رغبة النظام وحلفائه في الانخراط في أية حلول ذات معنى، فإن الأجواء في المنطقة باتت كما يبدو تميل إلى طرح مخارج من الوضع الراهن المستعصي، بأي ثمن، أو بدون ثمن، باعتبار ما يجري في سوريا تحول إلى صداع لدول المنطقة، حيث الجميع (باستثناء إسرائيل)، يريدون الخروج من هذا الوضع الذي تسبب لهم بالضرر الاقتصادي وكلفهم تحمل أعباء اللاجئين السوريين، كما حال الأردن ولبنان والعراق، فضلا عن المخاوف الأمنية من امتداد الشرر إلى بلدانهم، إضافة إلى شعورهم بـ”الإحراج” أمام شعوبهم بسبب تقصيرهم في مساعدة الشعب السوري أو الحد من معاناته طوال هذه السنين.
وفي هذا الإطار تأتي ما دعيت بمبادرة الملك عبد الله التي حملها إلى واشنطن وملخصها إعادة تعويم نظام الأسد عربيا ودوليا، بحكم أنه باق كأمر واقع ولا يمكن التخلص منه، ولا بد تاليا من إعادة التأقلم مع وجوده، بوصف ذلك “المخرج الوحيد” المتاح بعد أن تعذرت إزاحته بالقوة، بسبب الوقوف الحاسم معه من جانب حلفائه الروس والإيرانيين.
ومن دون التطرق إلى حقيقة أن القوى الكبرى التي تدخلت في الشأن السوري، بما فيها التي تناهضه علنا مثل الولايات المتحدة، لم تكن في أية لحظة جادة في العمل على إزاحة النظام، فإن ما حمله ملك الأردن إلى واشنطن، إنما يعكس تململ بعض دول المنطقة من الوضع الراهن للقضية السورية حيث لا تلوح في الأفق أية حلول سياسية، بينما نظام الأسد، وبرغم وضعه الداخلي المترهل، يعتبر نفسه منتصرا، ويطالب بالتعامل معه كذلك. وهذا بالضبط جوهر “مبادرة” الملك الأردني، أي التعامل مع الطرف المنتصر بوصفه الحل الوحيد المتاح، من دون التطرق، على الأقل في الشق المعلن من هذه المبادرة إلى مطالب الشعب السوري في الحرية والديمقراطية.
والواقع أن الأفكار التي طرحها الملك عبد الله لا يمكن اعتبارها مبادرة سياسية مكتملة، ذلك أن الأردن بحجمه الصغير، غير مؤهل لطرح مبادرة لحل قضية معقدة تنخرط فيها دول كبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، وليس لدى الأردن نفوذ يذكر بشأن ما يجري في سوريا، لا على النظام ولا المعارضة.
كما أن إدارة جو بايدن، كما الإدارة الأميركية السابقة، ليست معنية وفق ما صدر عن العديد من مسؤوليها بالانخراط الواسع في عملية سياسية معقدة في سوريا تتطلب كثيرا من الوقت والجهد، وهي قضية ليست أولوية لدى هذه الإدارة التي قالت إنها معنية فقط بالجوانب الإنسانية وبمحاربة تنظيم داعش. وفضلا عن ذلك، يستشف من التصريحات الأميركية، بما فيها تصريحات الرئيس بايدن، بأن هذه الإدارة لا يمكنها الانخراط في أية عملية سياسية تقوم على تعويم نظام الأسد، ومنحه الشرعية مجددا، وإن ظلت تقول إن سياستها لا تقوم على تغيير النظام، بل دفعه إلى تغيير سلوكه، لكن في الحالة السورية، فإن كلا الأمرين هما شيء واحد تقريبا، لأنه بمجرد أن يقوم النظام أو يدفع إلى تغيير سلوكه، سيكتب نهايته بيده، ذلك أنه نظام قائم على القمع والأحادية، وغير قابل للإصلاح السياسي.
ويبقى القول إن أية مبادرة أو أفكار تهتم فقط بمصالح وحسابات الدول الإقليمية والدول الكبرى، دون الأخذ بعين الاعتبار مطالب الشعب السوري، أو الجزء الأكبر من الشعب الذي ثار على النظام قبل عشر سنوات مطالبا بالحريات والديمقراطية وإنهاء دولة القمع والمخابرات والفساد، لا يمكن أن يكتب لها النجاح. وما لم تتشكل جبهة ضغط دولية حقيقية على نظام الأسد، تجبره على الانخراط في حل سياسي حقيقي، يقوم على المشاركة السياسية، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، فإن أية تحركات هنا أو هناك، سوف تندثر دون أية ثمار، حيث لا يمكن اختزال قضية الشعب السوري التي كلفت ملايين القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجرين، بمصالح ورغبات هذه الدولة أو تلك، كما لا يمكن مكافأة نظام أوغل في الإجرام، بإعادة تعويمه، وكأن شيئا لم يكن.
تلفزيون سوريا
————————–
انتقادات جديدة للونا الشبل.. من معسكر بثينة شعبان
مازال اللقاء الإعلامي الذي أطلت به المستشارة الرئاسية السورية لونا الشبل، الأسبوع الماضي، يثير الانتقادات، بعد مطالبتها السوريين بـ”الصمود الإيجابي”. لكن تصريحات نائب رئيس اتحاد الصحافيين التابع للنظام، مصطفى المقداد، الاثنين، كانت الأقسى من ناحية رسمية، خصوصاً أنها طاولت أيضاً وزير الإعلام عماد سارة.
وحمّل المقداد، وزير الإعلام سارة، ومدير قناة “الإخبارية السورية” عدنان أحمد، مسؤولية الجدل الذي أحدثته تصريحات الشبل. وبالطبع كان المقداد هنا حريصاً على صورة النظام أمام شعبه المستاء، وليس العكس، ولم يكن غريباً بالتالي أن يهاجم الثنائي لكونهما “كانا يقفان في غرفة المراقبة ومعهم مجموعة كبيرة من المهندسين والفنيين وغيرهم ممن يديرون عمل القناة” من دون التدخل في اللقاء.
وظهرت الشبل بإطلالة باذخة في مقابلة تلفزيونية مع حسين مرتضى وربى الحجلي، على شاشة “الإخبارية السورية”، بعد عشر سنوات من انقطاعها عن الإطلالات الإعلامية، حاولت فيه تفسير خطاب القسم الذي ألقاه حينها رئيس النظام بشار الأسد، ما أثار انتقادات تجاوزت الشبل نحو الأسد في مشهد نادر بسبب مستوى القمع الذي يحكم به النظام مناطق سيطرته.
وكتب المقداد عبر صفحته الشخصية في “فايسبوك” منشوراً طويلاً نقلته وسائل إعلام موالية، حيث تحدث في 10 نقاط عن اللقاء وكواليسه، مهاجماً تخصيص أكثر من مذيع لإدارة اللقاء، ما جعل المقابلة تظهر وكأنها حدث استثنائي ومفصلي بالنسبة للشاشات السورية، رغم وجود شخصيات أخرى مساوية في الأهمية أو أكثر أهمية من الشبل، لم تحظ بالمعاملة نفسها، حسب تعبيره، مثل المستشارة الرئاسية الثانية بثينة شعبان.
إشارة المقداد لشعبان تعيد للأذهان الخلاف الحاد بين المستشارتين والذي ظهر للعيان في وقت سابق العام الماضي، عندما عيّنت الشبل مستشارة إعلامية خاصة في رئاسة الجمهورية، بالإضافة إلى مهامها كمديرة للمكتب الإعلامي والسياسي في القصر الجمهوري.
ويشير الخلاف بين الشبل وشعبان إلى خلاف أكبر يتعلق بمستقبل وهوية البلاد. فالأولى جزء من محور أوسع داخل النظام، يضم أشخاصاً مثل رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك، ووزير الإعلام عماد سارة، وعدداً من الوزراء وقادة فروع الأمن الموالين لروسيا. والثانية جزء من محور آخر يضم رئيس فرع المخابرات الجوية سابقاً جميل حسن، ورئيس الحكومة السابق عماد خميس، وقادة فروع الأمن الموالين لإيران، حسبما تشير تقارير ذات صلة.
وكانت الشبل كسبت شهرة واسعة عندما كانت مذيعة في قناة “الجزيرة” قبل أن تستقيل من المحطة العام 2011، لتقف إلى جانب النظام السوري وتقود الجهود الإعلامية التي حاولت تزييف حقيقة الثورة السورية، وأدرج اسمها في لوائح العقوبات الاقتصادية الأميركية في وقت سابق من العام 2020. وخلال عملها مستشارة إعلامية للأسد، بدأت الشبل رويداً رويداً في بسط نفوذها وسلطتها في القصر الرئاسي حتى لقّبت بـ”السيدة الثانية”، وبدأت الصراعات بينها وبين بثينة شعبان من جهة، وبين أسماء الأسد من جهة ثانية، وبرز ذلك في قضايا عديدة من بينها التغييرات التي طاولت وزارة الإعلام في السنوات الأخيرة.
في ضوء ذلك، أصبحت تصريحات المقداد الحادة جزءاً من الصراع المستمر، بما في ذلك هجومه على سارة، إذ “لم يسبق لوزير الإعلام أن وقف في غرفة المراقبة للإشراف على متابعة أي لقاء مع أي مسؤول أو وزير أو مستشار لإخراج اللقاء القادر على النفاد لرأي المواطنين ومحاولة إقناعهم بصوابية الإجراءات التي تتخذها الحكومة. وهو في سلوكه هذا يتحمل مسؤولية اللقاء كاملاً بكل سلبياته وإيجابياته”.
وبحسب المقداد كان الوقت المخصص للقاء 25 دقيقة فقط، لكنه امتد إلى ساعة ودقيقتين من أجل تقديم الشبل من طرف وزارة الإعلام على أنها “الشخص المسؤول الوحيد في سوريا الذي يمكن أن توجه له كل الأسئلة الإشكالية والمحرجة، وهو الشخص الوحيد الذي يستطيع الإجابة عليها بمنتهى الصراحة والصدق، لأنه عارف ومحيط بكل معلومات وأسرار البلد، وفي هذا تجاوز لمهام وصلاحيات الوزراء والمديرين والمسؤولين، وهو ما أدى لتلك النتيجة السلبية لدى جمهور المؤيدين، وإن كان وزير الإعلام أراد تقديم خدمة للمستشارة فإنه ضرها، من حيث يدري أو لا يدري. فربّ نافعة، ضارة”.
المدن
—————————
“سيد الفوضى”.. كيف دمر بشار الأسد سوريا ليبقى في الحكم؟
عرض فيلم “سيد الفوضى” -الذي بث بتاريخ (2021/7/25)- المعادلة التي أقرها رئيس النظام السوري بشار الأسد؛ “إما أنا أو الفوضى” و “بشار أو تنظيم الدولة”.
ورسم الفيلم ملامح تحول بشار الأسد من شخص كان الغرب يعول عليه لتحديث النظام السوري وإصلاحه من الداخل؛ إلى دكتاتور وسفاح يقتل شعبه من أجل البقاء في السلطة، بفضل الدعم الإيراني والتدخل الروسي.
وقد ورث بشار الأسد واحدة من أكثر الدكتاتوريات وحشية في الشرق الأوسط، وقصرا منيفا على مرتفعات دمشق، بعد وفاة والده عام 2000.
واندلعت الثورة السورية مطلع العام 2011 بمظاهرات محدودة، وفي 18 مارس/آذار 2011 كتب شبان من درعا على جدار مدرستهم “جاك الدور يا دكتور”، وأثار اعتقالهم وصنوف التعذيب التي تعرضوا لها موجة احتجاجات اجتاحت البلد، مدينة بعد مدينة، وقابلها بشار بالقمع والتنكيل بالمعتقلين.
ويروي السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد لقاءه بشار الأسد وسؤاله له عن مدى قلقه من وصول رياح التغيير إلى سوريا؟ فأجاب بأنه مطمئن لأن الشعب السوري يدعمه ويساند حكومته كل المساندة، لكن مظاهرة عفوية في سوق الحريقة خرجت بعد أسبوعين، وقد صوّر سوريون ما جرى عبر هواتفهم المحمولة.
واقترح الأميركيون بعد اندلاع المظاهرات مساعدة بشار على الدخول في مناقشات مع قادة المعارضة، ورحبت الحكومة السورية بالحوار، وطلبوا من أميركا مساعدتهم على تنظيمها، ولكن كلما اقترب موعد جولة حوار تحركت الشرطة السرية السورية لاعتقال المعارضين.
وتقول بثينة شعبان -المستشارة السياسية للرئيس السوري- إنها التقت بسفراء بريطانيا وفرنسا وأميركا، وتكوّن في ذهنها انطباع بأن الدبلوماسيين الغربيين تتملكهم فكرة مفادها أن السوريين انتفضوا وأنه يتوجب على الحكومة الاستجابة لهم، لكن الرئيس كان يؤكد لها في كل اللقاءات بأنه سينتصر.
المسار المسلح
ويقول المعارض المنشق عن النظام السوري فراس طلاس -وهو نجل وزير الدفاع السوري السابق- إن بشار رفض الإصلاحات وقرر أن يستخدم الجيش ضد المتظاهرين، بعد أن كان مترددا في الأسابيع القليلة الأولى، وقد عقدت عائلة الأسد اجتماعا في بيت العائلة ثم اتفقت على إنزال الجيش وإطلاق يده ضد المحتجين، ويؤكد أن والدة بشار أشارت عليه أن يسلك نهج أبيه.
وأضاف أن بشار لا يهمه الدمار الذي لحق بالبلد طالما أنه سيبقى رئيسا، وأنه لن يتنحى أبدا عن السلطة حتى لو اتفقت كل الأطراف على إزاحته.
وقرر معارضوه تسليح أنفسهم بمساعدة منشقين عن الجيش، لكن تعامل النظام ازداد ضراوة وأخرج أسلحته الثقيلة، وفي صيف 2011 فقد بشار السيطرة على نصف أراضي سوريا، ما دفعه للزج بالجيش كله في المعركة دون تمييز بين مقاتل ومدني، وهو الأمر الذي أثار الرأي العام العالمي.
وسعت أميركا وحكومات أخرى إلى توحيد المعارضة، وتقوية شوكتها للتفاوض على عملية انتقالية، ورصدت مبالغ كبيرة وصلت إلى مئات الملايين من اليوروهات للتسليح وتدريب فصائل ثورية سورية، ولم يعد جيش بشار مسيطر إلا على ثلث البلاد.
وفي 21 أغسطس/آب 2013 قصفت قوات الأسد منطقة الغوطة بأسلحة كيميائية، مما أسفر عن مقتل المئات، كثير منهم أطفال، وأعلنت الإدارة الأميركية أن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر، وطلب الرئيس الأميركي السابق بارك أوباما من الجيش إعداد رد لا يستهان به.
وتحدث المعارض السوري مازن درويش -المعتقل السابق في السجون السورية- عن تعرضه للتعذيب، وكان أول سؤال يسمعه “لماذا لا تحب بشار الأسد؟” ويضيف أصبح التعذيب بعد عام 2012 لعبة بيد النظام وهدفا في حد ذاته لتحطيم السجين.
تخلي الغرب
وبعد تنكيل الجيش السوري بالمدنيين تخلى الغربيون الذين كانوا يدعمون بشار الأسد عنه، وقال الرئيس أوباما “قلتها مرارا وتكرارا إن الرئيس الأسد فقد شرعيته ويجب أن يرحل بدلا من إغراق بلاده في حرب أهلية، ينبغي عليه أن يقبل انتقالا سياسيا معقولا”.
وعبّر وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس عن دهشته من تحول بشار من الرئيس “اللطيف” -الذي زار الإليزيه للقاء الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي واجتمعا حول مأدبة عشاء بحضور زوجتيهما وعدد قليل من الحضور في نوفمبر/تشرين الثاني 2010- إلى شخص يأمر لاحقا بإسقاط براميل متفجرة من طائرات الهليكوبتر على السكان المدنيين.
مسارات الحل
ومع اشتداد الحرب شهد العالم أزمة هجرة غير مسبوقة، وكان للدول الأوروبية النصيب الأكبر من المهاجرين، ولإيجاد حل للصراع ووقف تدفق اللاجئين بدأت في عام 2012 مفاوضات دولية تحت رعاية الأمم المتحدة تهدف إلى تشكيل حكومة انتقالية في دمشق فيها معارضة ديمقراطية وشخصيات من النظام سمعتها مقبولة.
تنظيم الدولة
لم تخفِ الحكومة الأميركية خشيتها من أن سقوط الأسد فجأة قد يسمح للمتطرفين بالسيطرة على السلطة. واستغل بشار الوضع ليستثمر تلك المخاوف، وقد أطلقت حكومته سراح العديد من الجهاديين منذ بداية الثورة، وفي أواخر عام 2012 وطأت أقدام تنظيم الدولة الأرض السورية بعد العراق.
وسرعان ما توسع التنظيم حتى أحكم سيطرته على مدينة الرقة عام 2014، وبات التخادم واضحا بين قوات الجيش السوري ومقاتلين تنظيم الدولة حول مدينة حلب ضد قوات المعارضة، كما دأب بشار الأسد على تقديم نفسه لأميركا وأوروبا بأنه بديل للمتطرفين.
التدخل الروسي
وقد ناقش الأسد مع الرئيس فلاديمير بوتين الحرب على تنظيم الدولة، لكن الواقع كان يبحث عن دعم عسكري من شأنه أن يغير ميزان القوى لصالحه. وتدخل رسميا الجيش الروسي على نطاق واسع في سوريا لضرب تنظيم الدولة؛ وهو العدو الذي استفاد بشار من وجوده.
واستعادت قوات بشار في 2016 جزءا كبيرا من الأراضي التي فقدتها قبل ذلك في 5 سنوات. وشاهد الأوروبيون والأميركيون الدمار الرهيب الذي صاحب العملية، واكتفى الغرب بفرض عقوبات على الزعيم السوري ومقربين منه، لكنّ يديه أطلقت لاستعادة مناطق خرجت عن سيطرته.
————————————
خطاب القَسَم الذي قَسّمَ السوريين/ آلان حسن
لم يَكُن مُنتَظَراً من الرئيس السوري بشار الأسد، وهو يبدأ ولايته الرابعة، أنْ يُخاطِب السوريين بمنطق المُنتصر الذي يُملي إرادته على أنصاره وخصومه على حدٍّ سواء، وهو الذي يحكم الآن بلداً شعبه مُقَسَّمٌ بين اللجوء والنزوح والعيش في ظروف بالغة السوء، إلى درجة أنّ ما يزيد على 87% من السوريين باتوا اليوم تحت خط الفقر، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
باتت الجغرافيا السورية اليوم مُقسَّمة فعلياً بين أربع قوى: الحكومة السورية في وسط البلاد وجنوبها، وإنْ بنسب سيطرة فعلية مختلفة، وكذلك في مناطق محدودة شمال شرقي سورية، هيئة تحرير الشام (جبهة النّصرة سابقاً)، في محافظة إدلب، وفصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا في كُلّ من عفرين والباب وجرابلس وإعزاز ورأس العين وتل أبيض، وأخيراً قوات سورية الديمقراطية في كُلّ من كوباني (عين العرب)، والجزء الشرقي من منطقة شرق الفرات، بالإضافة إلى مدينة منبج، غرب نهر الفرات.
ما لم يقله الأسد في خطاب القَسَم، أكّدت عليه المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية لونا الشبل، في لقائها النادر مع الإعلام الرسمي السوري، ما زاد من حِدّة الانتقادات الشعبية للخطاب، حيث شكَّلَت لغة التخوين سِمَة بارزة في اللقاء، كما في الخطاب. قالت الشبل إنّ الأسد لم يَعِد السوريين شيئاً، وهو بالتالي في حِلٍّ من أيّ تعهّد يمكن أنْ يلتزم به رئيس جمهورية مُنتخَب تجاه شعبه. وشدّدت على أنّ السوريين صمدوا خلال سنوات الحرب، لأن عليهم الصمود وحَسْب، ولم يكن طلباً من القيادة السورية، وبالتالي لا خَيار أمامهم اليوم سوى الاستمرار في الصمود، من دون أنْ يمنّوا أنفسهم بأيّ انفراجة قادمة، تُنهي، أو على الأقل تُخفِّف، من هَول ما يعيشونه.
كان خطاب الأسد أشبه بِنَسْف أعمال اللجنة الدستورية التي تنعقد في جنيف برعاية الأمم المتحدة، والتي أوكِلَت بمهمة وضع دستور جديد لسورية، يكون بديلاً لدستور عام 2012 الذي وُضِعَ إبّان بداية الحرب السورية، وشاركت في صياغته حينها أحزاب من المعارضة الداخلية المُرخَّصة من الحكومة، وعُرِضَ حينها على الاستفتاء الشعبيّ العام.
وفي استكمال للتصوّر السوريّ للجنة الدستورية، قالت الشبل إنّ مشاركة وفد الحكومة السورية (أو الوفد الوطنيّ السوريّ وفق التسمية المعتمدة من الإعلام الرسميّ) تندرج في إطار التكتيك السياسيّ وحَسْب، وليس من تعويلٍ على نجاح عملها، فالقيادة السورية في اللجنة الدستورية، وفق الشبل، إنما تفاوض مع تركيا، وليس مع أي جهةٍ سوريةٍ معارضة، على الرغم من أن وضع دستور جديد للبلاد يمثل السلة الثانية من سلال دي ميستورا (المبعوث الأممي السابق) الأربع، إنشاء حُكْم غير طائفيّ يضمّ الجميع، وإجراء انتخابات حُرّة ونزيهة بعد وضع الدستور، وكذلك استراتيجية مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية، وبناء إجراءات للثقة المتوسطة الأمد، وهي أيضاً جزء من قرار مجلس الأمن 2254.
وقد لاقت المواقف الأخيرة للرئيس الأسد انتقاداً من حليفه الروسي على لسان مستشار وزارة الخارجية الروسية، رامي الشاعر، والذي شدد في مقال له على ضرورة التزام دمشق بتنفيذ القرارات الدولية، لحلّ ما سماها “الكارثة الإنسانية السورية”، وشدّد على عجز الحكومة السورية عن فَرْض سلطتها في شمال شرق سورية وشمال غربها، وإنْ انسحب الأميركيون والأتراك من الأراضي السورية. قد تكون مواقف الرئيس الأسد جزءاً من السياسة التي انتهجتها القيادة السورية للتنسيق بين الدورَين الروسيّ والإيراني، في سورية، واستثمار الخلافات بينهما في الميدان السوريّ، وهي سياسة تنتابها مخاطر كثيرة، خصوصا في حال ترجمة التفاهمات المعلنة أخيرا بين الرئيسين الأميركي بايدن والروسي بوتين في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، والتي تدعو إلى ضرورة التنسيق بين الجانبين في سورية، وهو ما قد يشكِّل مخاوف لدى القيادة السورية من جهة ضغوط أميركية على الجانب الروسي لتغيير موقفه من القيادة السورية.
التركيز الكبير على زيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق، بالتزامن مع خطاب القسم، وتركيز الإعلام الرسمي السوري على الدور الصيني في سورية، وعلى المبادرة الصينية لحلّ الأزمة السورية، ربما كان جزءاً من الآلة الدبلوماسية الرسمية السورية لمواجهة أيّ ضغوط روسية قادمة لإلزامها بتسويةٍ سياسيةٍ غير مرضية.
نقطة أخرى أشار إليها الأسد في خطابه، وشنّ فيها هجوماً لاذعاً على “قوات سوريا الديمقراطية”، وأتبعته وزارة الخارجية ببيان شديد اللهجة ضد استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفدا من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية ومن “مجلس سوريا الديمقراطية”، حيث اعتبرت الخارجية السورية أنّ “الإدارة الذاتية” مشروع انفصاليّ، ومُلحَق بمشروع أميركيّ في المنطقة، يهدف إلى إضعاف الدولة السورية. ولا ينسجم الموقف الرسمي هذا مع دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لإجراء حوار بين “الإدارة” والحكومة السورية.
مهما يكن، كان من المأمول أنْ ينفتح الرئيس الأسد على معارضيه، في الوقت الذي تتعرّض فيه بلاده لأزمة وجودية ككيان موحد، خصوصا مع ترسيخ كيانات الأمر الواقع القائمة في سورية فترة طويلة من دون الوصول إلى تسوية سياسية، وبالتالي تمزّق النسيج المجتمعيّ الجامع في سورية، وكان الاستحقاق الرئاسي فرصة مناسبة كي يبادر الأسد للتقريب بين السوريين، ولم تكن زيادة الشرخ بينهم عبر المواقف الأخيرة مناسبة للوقت الراهن، ولا لمستقبل سورية.
العربي الجديد
————————–
=========================
تحديث 04 آب 2021
———————————
الأسد وبروباغندا الأموال السورية في لبنان/ إياد الجعفري
ليست المرة الأولى التي يتورط فيها رأس النظام السوري، بشار الأسد، في فوضى الأرقام حول أموال السوريين التي فرّت من البلاد في العشرية الأخيرة، أو حتى قبل ذلك. لكن كان من اللافت أن يركّز الأسد، مرة أخرى، على أموال السوريين الفارة إلى لبنان تحديداً، ويتجاهل ما كان إعلامه يتحدث عنه ليل نهار، قبل خريف العام 2019، بخصوص أموال السوريين التي هُرّبت إلى مصر والأردن وتركيا.
فالأسد -وهو الذي من المفترض أن يستند كلامه إلى أرقام موثقة وبيانات رسمية بحكم موقعه كرئيس للجمهورية-، كان أحد المزاودين في تلك البورصة التي اشتُهر بها إعلام النظام، فارتفعت أرقام السوريين في البنوك اللبنانية من (20 إلى 42) مليار دولار، حسب تصريح له في خريف العام 2020، لتصبح ما بين 40 إلى 60 مليار دولار، حسب خطابه بعد أداء القسم، قبل أيام.
واللافت في الأمر، أنه في آب/أغسطس 2019، أي قبل شهرين من بدء الأزمة اللبنانية في ذلك العام، نقلت صحيفة “تشرين” التابعة للنظام عن خبيرة اقتصادية، أن ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تُقدّر بحدود 10 مليار دولار. وهو رقم قريب من تقديرات مصادر مصرفية لبنانية لودائع السوريين المقيمين وغير المقيمين، من غير حملة الجنسية اللبنانية، التي تتراوح ما بين 6 إلى 7 مليارات دولار.
فهل أضاف السوريون إلى ودائعهم خلال شهرين فقط، بين آب/أغسطس 2019 وتشرين الأول/أكتوبر 2019، أكثر من (30 إلى 50) مليار دولار؟! أم أن وجود أزمة في لبنان، كان مناسباً لإيجاد ذريعة إضافية لتبرير استمرار تدهور الحياة المعيشية في سوريا، رغم انتهاء الصراع المسلح على معظم الجبهات لصالح النظام، منذ ثلاث سنوات!
قد نجد إجابة جزئية على ذلك في تقرير صحيفة “تشرين” المشار إليه، والذي قال إن 2012 كان العام الذي تم خلاله خروج أكبر قدر من الأموال السورية، بينما شهدت سنوات 2013-2016 بعض الاستقرار، لتعود قيمة الأموال المهربة لترتفع مرة أخرى وبشكل واضح عام 2017.
فلماذا ارتفعت قيمة الأموال السورية المهرّبة مجدداً، خلال العام 2017، رغم أن هذا العام كان منعطفاً على صعيد استقرار معظم الجبهات لصالح نظام الأسد بدعم حلفائه الروس والإيرانيين؟! هل نسيء الظن، إن قلنا أن ذلك يرتبط بأداء النظام ذاته على صعيد التعامل مع قطاع الأعمال في الداخل السوري، والذي تحوّل إلى شكل من أشكال البلطجة، المقننة، كلما كان النظام يشعر بمزيد من القوة والأمان الوجودي، في السنوات الأخيرة من الصراع!
قد يكون أحد الأمثلة المفيدة للإجابة على ما سبق، تلك المتعلقة بفشل مساعي النظام في إقناع المستثمرين السوريين بالعودة إلى البلاد، من مصر تحديداً، التي قال رجل الأعمال السوري خلدون الموقع، المقيم فيها، إنها استحوذت على 23 مليار دولار من أموال السوريين الفارة من البلاد، وفق حديث له إلى وسيلة إعلام مصرية، عام 2019.
وبعيداً عن مدى دقة هذا الرقم الضخم، فإن سيرة خلدون الموقع ذاتها، تقدم إجابة شافية لما سبق طرحه. فالرجل قاد ما عُرف بـ “تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر”، منذ العام 2014، وتحوّل إلى حليف للنظام منذ العام 2017، فتعهد بالعمل على تطبيع العلاقات بين قطاعي الأعمال السوري – المصري، وكذلك، العمل على إقناع مستثمرين سوريين في مصر، بالعودة إلى بلادهم. لكن الرجل، بدلاً من ذلك، ذهب باتجاه إقناع السلطات المصرية بإقامة مدينة صناعية سورية على الأراضي المصرية. فلماذا أدار خلدون الموقع ظهره لنظام الأسد، بعد أن كان قد حاول التقرب منه بعيد العام 2017؟ هل تعلّم من مصائر نظرائه من رجال الأعمال المقربين من النظام، والذين بقوا في الداخل، وتعرضوا لحملة بلطجة على أموالهم، وصلت ذروتها في اجتماع الشيرتون الشهير، في أيلول/سبتمبر عام 2019، حين خيّر بعضٌ من أكثر رجال الأعمال قُرباً من النظام، بين تقديم جانبٍ من أموالهم لدعم الاقتصاد المتهاوي، وبين التعرض لتجربة شبيهة بتلك التي قادها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ضد أولاد عمومته من الأمراء، في خريف العام 2017؟!
قد تكون الإجابة جليّة في تجربة خليفة خلدون الموقع في التحالف مع نظام الأسد، ضمن قطاع الأعمال السوري بمصر. فالنظام، ابتعد عن الموقع، وتحالف مع باسل سماقية، رجل الأعمال السوري المقيم في مصر منذ الثمانينات، والذي يمتلك شركة قطونيل الشهيرة. لكن سماقية، هو الآخر، لم ينقل أياً من استثماراته الصناعية إلى سوريا، رغم وعودٍ سابقة بهذا الخصوص. ولم تُسجّل حركة عودة لاستثمارات سورية وازنة من مصر إلى سوريا، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل على العكس، ذهب بعض أبرز المستثمرين السوريين في مصر بعيداً في تعزيز حضورهم بالسوق المصرية، وجعلها قاعدة انطلاق لهم للتصدير للخارج. من أبرزهم، رجل الأعمال السوري الحلبي، محمد كامل صباغ شرباتي، الذي أسس في مصر ما يُوصف بأنه أكبر مصنع غزل ونسيج في إفريقيا، وهو المصنع الذي زاره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في العام 2018.
شرباتي كان قد حاول إعادة إحياء مصنع له، في منطقة القابون الصناعية قرب دمشق، وأرسل وفداً للعمل على بدء الترميم والإنتاج عام 2018، لكن النظام أوقف نشاطه، ونشاط عشرات الصناعيين مثله، حينما أصدر قراراً بوقف عمليات الترميم وإخلاء الصناعيين من المدينة، تمهيداً لهدمها وتحويلها لمنطقة أبراج سكنية، لصالح شركات ورجال أعمال، يُعتبرون واجهةً للأسد وشقيقه، أبرزهم محمد حمشو.
مثال المستثمرين السوريين في مصر، وسرّ عدم عودتهم إلى البلاد، رغم أن جلّهم ليسوا من أصحاب المواقف السياسية المعارضة، يوضح بشكل جلّي، أن المشكلة ليست في حربٍ أو عدم استقرار، أو “مؤامرة”. بل المشكلة في المحاصصة التي يفرضها نظام الأسد على المستثمرين السوريين، وحالة الفساد التي تفاقمت بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، بصورة جعلت البلاد منفّرة لأي مستثمر، حتى لو كان محلياً. أما بروباغندا الأموال السورية في البنوك اللبنانية، فلا تعدو كونها ذريعة جيدة، إلى جانب ذرائع الحصار والعقوبات، لتبرير نتائج الأداء الاقتصادي السيء لنظام الأسد.
المدن
——————————-
النظام السوري ولعبة الإشارات المتناقضة/ عبير نصر
سرعان ما أصبح نظام الحكم في سورية نموذجاً حيّاً على خلق استقطابٍ طائفي صريح، قائمٍ على فسادٍ كبيرٍ، موشّح بغطاءٍ ليبرالي مرتبك. يستند إلى علاقات القرابة، أو إلى الجهوية والزبونية. في وقتٍ تبنّى فيه نظرةً شوفينيةً متعصبةً تجاه الشارع السوري، سعى من خلالها إلى تدجينه، وجعله مشبعاً بروح الخوف والانهزامية. ولم ينفكّ يمارسُ لعبةَ التضليل، والتشويش، ففي وقتٍ نادى فيه بالعقائد، والأيديولوجيات الشمولية التي لا يأتيها الباطل، على حدّ زعمه، نادى كذلك بالديمقراطية القائمة على مشروعية التنوع، والاختلاف، وعلى نسبية الحقيقة، واحتمال خطأ الذات. وكلّ ما أنجزه أنه أنهك نفسه في سوق المبرّرات، والمسوّغات، لأهمية ضبط الأنظمة الثقافية، والمجتمعية، فحوّل السوريين إلى مسوخٍ بشرية، تشكل رصيداً، وخزاناً دائماً لإنتاج الاستبداد، والتطرّف، والعدمية، والفوضى. تمخّض ذلك عن إنجاز أكبر وأخطر عملية إعدامٍ للكيان السوري. عملية تصوّر التغيير خراباً، والحريّة تفلتاً. ولعلّ التعسّف هو السمة الأساسية للخطاب السياسي في الداخل. ينادي المستبدّ بالديمقراطية بلغةٍ ساكنةٍ وقطعية، بينما يعلم، في قرارة نفسه جيداً، أنها ليست صيغة للحكم، إنّما هي أولاً ثقافة وطريقة حياة، وإنّ مسْخها إلى مجرّد آلياتٍ شكلانيةٍ فوقية، من شأنها تغليظ الحدود بينه وبين السوريين.
والأخطر من وجود التعسّف نفسه استخدامُه باسم القانونِ المفصّل على مقاس أصحاب المصالح، بحجّة الارتقاء بسورية من الدولة اللادولة في عهد الأسد الأب إلى الدولة القوية في عهد الابن. مبرّرين أنّ العنف المباشر المجرّد ضرورةٌ لازمةٌ للانتقال إلى هذه المرحلة، ولاحقاً إلى شكلٍ من الديمقراطية التوافقية العادلة، للحؤول دون نشوب نزاعٍ أهلي. وليس أدلّ على هذا التناقض والانفصام من المحاكمات الجائرة لنشطاء المجتمع السوري، الذين رفضوا الاستبداد حتى لو كانت قيوده من ذهب، أو كانت جدرانه قد شُيّدت من لافتات الفضيلة. محاكماتٌ فاقتْ، في معانيها ودلالاتها، ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي. ما يشير إلى حقيقةٍ واضحة: أنّ النظام السوري يُصدر إشاراتٍ بالتعسّف والمنع وأخرى بالتراخي والسماح. إشارات بالتهديد والوعيد وأخرى بالإصلاح والتجديد. هذه اللغة المتناقضة باتت صمّامات أمانٍ، للتحاور مع شعبٍ محتقنٍ في الأساس. تُستخدم حسب الظرف والضرورة. وفاته أنّ الإكراه المغالي في القمع يصبح مرضاً ينهشُ الدولةَ ذاتها. وبدلاً من أن يكونَ سياجاً “لموازين القوى”، فإنه يصبح ساحةً “لمراكز قوى” متصارعة. على صعيد آخر، سعى النظام إلى منع تبلور حركةٍ اجتماعيةٍ ثقافيةٍ سياسيةٍ موحدة إزاء طروحاته، وآلياته، وممارساته الاستبدادية. والمفارقة الأكثر وضوحاً، في هذا السياق، أنّ سياسته الخارجية تتعامل بالنقدِ والاستهجان لخطابِ المتنفذين والأقوياء في النظام الدولي، واحتكامهم للقوة والعنف في حلّ المشكلات العالمية، وتنكّرهم لنداء الضعفاء لحوار الحضارات والمجتمعات.
بطبيعة الحال، لم يكن بشّار الأسد صالحاً لا لزمن السلم، ولا لزمن الحرب على الإطلاق، فالمستبدّ لا يعرف لغة التنازل، ولا يقبل التفاوض على بعضٍ من سلطاته. وإنّ غاية الإصرار على المسرحية الانتخابية لعام 2021 قهر كلّ إرادةٍ تطمح إلى التغيير، وتدفع باتجاه الحرية. وخلال القَسَم الدستوري، إثر فوزه الحتمي بولايةٍ رئاسيةٍ رابعة، وفي انفصامٍ ينطوي على كثيرٍ من التناقضِ والتشرذم، أشار الأسد إلى “أنّ رهان أعداء سورية في المرحلة الأولى من النزاع كان على خوف الناس من الإرهاب، وتحويل المواطن السوري إلى مرتزقٍ يبيع وطنه، غير أنّ الشعب أفشل هذه المخططات، وأثبت مرّةً أخرى وحدةَ معركةِ الدستور والوطن”. والمفارقة المستفزّة هنا أنّ الخطاب السياسي، وطوال عقودٍ خمسة، أكد أهمية الدولة الديكتاتورية القوية في تعزيزِ الاستقرارِ الداخلي، وتقويضِ جميع أشكالِ الاحتجاج الاجتماعي، والاضطرابات، والهزات.
والمتابع للمشهد السوري منذ بدء الثورة السلمية، حتى عسكرتها، ثم تحوّلها المشؤوم إلى حربٍ بالوكالة، يستطيع ملاحظة مفارقةٍ عجيبة أخرى، تكشف طبيعة الأزمة المتفجّرة، وتداعياتها المتصاعدة. نعني بها حالة الازدواجية التي يعاني منها الخطاب السياسي المعلن، وما نُفّذ حقيقةً على الأرض. ففي أوّلِ كلمةٍ رسميةٍ له بعد اندلاع الاحتجاجات، اعترف بشار الأسد أمام البرلمان بأنّ الإصلاحَ تأخر “لكن سورية ستبدأ الآن”. موضحاً “نريد أن نسرعَ ولا نتسرّع”. وفي محاولةٍ لامتصاص طوفان الانتفاضة الشعبية، قال الأسد “إنّه ليس كلّ من خرج للمظاهرات متآمر، بل الغالبية خرجت بشكلٍ عفوي وحرّكتها أقلية متآمرة”. مؤكّداً حرصه على عدم إراقة دماء السوريين، وتفهّم مطالبهم، للعمل على احتواء الأزمة، ورأب الصدع. وفي واقع الأمر، اشتدّت القبضة الأمنية على المتظاهرين، بعدما تراجع رأس النظام عن موقفه، فوصف الثورة الطارئة بأنّها “فتنة”، و”مؤامرة”، و”فوضى” نتيجة لتدخلٍ خارجي، بدون أيّ اعتبار لحقوق الشعب السوري، وإرادته، وحريته المغصوبة. كما انطلقت آليات الجيش لملاحقة الثوار، بدءاً من درعا، مروراً بتلكلخ على الحدود مع لبنان، وليس انتهاء بجسر الشغور على الحدود مع تركيا. وخلال العشرية السوداء، تتالت خطاباتُ الإصلاح واستراتيجية الكلام المُباح، فأُنجزت قفزاتٌ سلحفاتية أهمها: إصدار قانون جديد للأحزاب (مقيّد سلفاً بشروط قاسية عديدة). مراجعة قانون الطوارئ، وبعض أحكام الدستور (بدون تحديدٍ لمعنى هذه المراجعة). إنشاء مجلسٍ أعلى للإعلام، وتفعيل دور المرأة. القفزة الكبرى الوحيدة تجلّت في الارتفاع المستمر للمواد الأكثر أهميةً في حياة السوريين الجياع. على رأسها الخبز والأدوية والوقود.
وأمام التحولات الصادمة بعد عام 2011، ارتأى النظامُ السوريّ أنّ السبيل الوحيد لقطع الطريق أمام المعارضة الوطنية هو اصطناع معارضةٍ في الداخل، وإفساح المجال لظاهرةٍ محدودةٍ من النقد، (سواء من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو خارجها)، قادرة على التحكّم بها، وضبطها، ورسم حدودها، وتوجهاتها. تقوم هذه اللعبة المكشوفة بأدوارٍ عديدة: فهي إشارة مباشرة إلى الخارج بإجراء تغييراتٍ في الداخل السوري، وهي بالآلية المرسومة، أيّ كيل المديح وانتقاد الجزئيات في آن معاً، ستكون وظيفتها غير مؤثرةٍ على الصعيدين، الاجتماعي والسياسي. على المقلب الآخر، يتمّ إرباك المعارضة السياسية الفاعلة، وعزلها عن التأثير بالواقع السوري. تقليم أظافرها، ثم إلباسها عباءة الطائفية في سبيل رفع النظام إلى رتبة القداسة، ومنع مساءلته ونقده.
تؤكد مآلات الثورة السورية الراهنة أنّ الحياة، بعمومها، في حالة إنهاكٍ شديدة يُرثى لها. ممزقةٌ إثر صراعٍ داخلي تديره استراتيجية التناقضات. يخرج الأسد اليوم وقد أجرى عمليات تجميلٍ لوجهه، ليُدلي بقسمه الدستوري أمام شعبٍ عاجزٍ عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة. والحال على هذه الدرجة من التأزم، لا بدّ أن يطرح السؤال الأهمّ في التراجيديا السورية: من أين جاء هذا الخراب كلّه؟ فيأتي الجواب تلقائياً، بعدما تؤكّد الوقائع الملموسة أن أصل المشكلة سياسيةٌ، أدّت إلى مجتمعٍ مستقيل. وأنّ طرق الحكم السياسي ونموذجه شكّلا أخلاق الناس، ووعيهم، وسلوكياتهم، فأنتجت أفراداً يائسين على جميع المستويات، محكومين بعقلية تأليه الحاكم المستبدّ، الذي تفنّن في اللعب على وتر الإشارات المتناقضة لكسب جولات الحرب المستعصية. وسط غيابٍ تام لحياةٍ برلمانيةٍ حقيقيةٍ، قائمةٍ على سلطاتٍ فعليةٍ مؤثرة، تشمل فيما تشمل حجب الثقة عن الحكومة السورية. أدّى ذلك كلّه إلى سيادة أزمةٍ عامةٍ في القيم والتوجهات، تمثلت في الجنوح إلى الخلاص الفردي، والعائلي، ثم الارتداد إلى حالاتٍ من التعصّب والانغلاق.
العربي الجديد
———————————
==========================