الناس

“اللبن على جسدي وطعم البيتزا في خيالي”… هلوسات أيام الجوع في سوريا/ سهى كامل

ترتدي نوال حذاءً أحمر بكعب عالٍ، مع فستان أسود ضيّق، يُظهر بطنها المنتفخ، وتضاريس جسدها الممتلئ، تخطو إلى سيارتها، ينتظرها السائق، يفتح الباب، ثم ينطلق بها إلى أحد أفخم مطاعم مدينة اللاذقية.

تدخل إلى المطعم، يستقبلها النادل، تجلس بغرور، وتضع ساقاً فوق ساق، تريد تناول بيتزا الفصول الأربعة، شيش دجاج، سلطة روسية، طبقاً من الكباب، طبقاً من التبولة، مع كأس كبيرة من الكولا.

تبدأ بتناول الطعام، تذوب اللحمة تحت أسنانها، رائحة الطعام ومذاقه يجعلان قلبها ينفطر.

وفي اللحظة التي يصل فيها طبق البقلاوة، تصحو نوال من أحلام يقظتها، ثم تركض إلى الثلاجة، لا تجد بداخلها سوى سطل صغير من اللبن، تمسكه بكلتا يديها، تضعه بين شفتيها، وترفعه إلى الأعلى، يتساقط القليل من اللبن في فمها، والكثير منه على رقبتها وصدرها وثيابها.

تقول نوال المحمد، أرملة (42 عاماً) لرصيف22: “أحلم بالطعام كل ليلة، أرسمه في مخيلتي، وأشتهيه خلال النهار، لسوء حظي يوجد بالقرب من موقف الباص الذي أنتظره يومياً، محل شاورما لعين، رائحة الشاورما تجعل اللعاب يسيل من فمي، مرّةً اقتربت بحذر، سألت: شو سعر السندويشة؟ أجابني: 2500 ليرة (دولار واحد تقريباً) تراجعت خطوة إلى الوراء، ثم هربت من الرائحة”.

“الموز شيء عجيب”

تعمل نوال في تنظيف منزل إحدى العائلات في مدينة اللاذقية، تتقاضى شهرياً 35 ألف ليرة (12 دولاراً) تدفع نصفها ثمناً للمواصلات العامة، من اللاذقية إلى القرية، وبالعكس، تقول: “يطالبني ابني باللحوم يومياً، يسألني: ليش ما جبتيلي معك لحمة؟ وأحياناً يطالبني بالموز”.

تتذكر نوال أنها أكلت موزة في بيت الأسرة التي تعمل لديها، تقول: “شوفتها طعمها عجيب”، تماماً كما تتذكر تلك المرة التي رأت فيها طفلاً يركض خلف شخص ما، راجياً: “الله يخليك بس لقمة”.

وتختم: “قد يظن البعض أننا نبالغ عندما نتحدث عن فقرنا، لكن في الحقيقة أضحى الجوع يتجوّل في الشوارع والأحياء، ينام في أسرّتنا، إنه حاضر حتى في أحلام يقظتنا”.

أما العم أديب فقد اعتاد التجول في أسواق الخضر بشوارع مدينة دمشق، ينقّل نظره بين أصناف الخضروات، يعود إليه شعور يرواده منذ عدة أعوام، يصفه لرصيف22: “كلما زرت السوق، أشعر بالغثيان من الحر، المترافق مع المعدة الفارغة، التي تشعل صورة الخضروات شهوتها للطعام”.

يحاول أديب أن يحلل هذا الشعور، ويميزه، حتى تعرّف عليه أخيراً، يقول: “قرقرة أمعائي الخاوية تجسد صوتياً شعور الجائع، الممزوج بالغضب والاستكانة للأمر الواقع”.

لم يستطع أديب موسى (51 عاماً) وهو موظف حكومي يبلغ مرتبه الشهري 50 ألف ليرة سورية (أي نحو 16 دولاراً) شراء كيلو بندورة واحد، بعد ارتفاع سعرها إلى 1000 ليرة سورية، وخلال سيره، تصله مكالمة هاتفية من زوجته، تسأله: “ماذا سنطعم الأولاد؟”، يجيبها: “في شوية خبز يابس بليهم بالشاي بيمشي الحال”.

ويشرح معاناته: “نعيش يومياً أبشع حالات الجوع، والفقر، والشهوة إلى الطعام، أكثر ما يرهقني حالة الجوع لدى الأولاد، لذلك قررت الذهاب إلى أحد اللحامين، وسؤاله إن كان يستطيع تخصيص القليل من لحمة الأضاحي لعائلتي، ربما حالفنا الحظ وأطعمنا أولادنا القليل منها في العيد”.

ما هو طبقكم الرئيسي؟ يجيب: “الطبق المتاح، إذا توفّر فهو الخبز الممزوج بالذل أمام الأفران، مع بعض الخضار البائتة، التي يمكن الفوز بها بأسعار مخفّضة من سوق الخضار، بندورة نصف معفنة، باذنجان وكوست غير طازجة، يضعها البائع على الأرض للدراويش أمثالنا، إن ما نأكله ليس طعاماً، إنه الفُتات بعينه”.

يشتهي أديب يومياً العديد من أصناف الطعام، وفي مقدمتها اللحوم، يصف إحساسه: “بعد ارتفاع الأسعار، باتت شهوة الطعام روتيناً يومياً نعيشه، الغلاء يمنعنا حتى من التفكير بالاقتراب من محلات بيع اللحوم والمكسرات والشوكولا والمثلجات”.

ماذا عن الأطباق الشعبية؟ يرد: “معظم مكوناتها اختفت عن موائدنا، أهمها الفول والحمّص والفلافل والبرغل والفتّة، بالإضافة إلى الألبان والأجبان والزيوت والسمن”.

ويوجز أديب حديثه، مختتماً: “أشتهي منذ نحو أسبوع طبقاً من المجدرة مع السمك والسلطة، لم أستطع تناوله، في مطبخنا القليل من الخبز والشاي، مع بعض القطع من البطاطا”.

رائحة كريهة

تحاول أمل النهوض وإشعال شمعة صغيرة، لتصل إلى طفلها، تحمله بين يديها وتقول: “لا يا حبيبي لا تبكي”، فيزداد صراخه. تقول لرصيف22: “لاحظتُ أن ابني باسل ابن العامين والنصف، بدأ يفقد وزنه، وتلاشت شهيته للطعام، أصبح قليل الحركة، خمولاً ودائم البكاء”.

تعيش أمل (24 عاماً) في غرفة صغيرة في مدينة اللاذقية، جاءت مع طفليها أثناء الحرب، بعد أن فقدت زوجها ومنزلها في حلب، تقول: “عدوّنا الأول هو الجوع، لا يتركنا أبداً، في الصباح وقبل النوم، نتضور جوعاً، لا نملك حتى فلساً واحداً، ننتظر بعض المساعدات من الجمعيات الخيرية عند تأخرها ننام جياعاً في الظلام”.

يعاني باسل ابن أمل من سوء التغذية نتيجة لعدم تناوله الحليب، تحكي والدته قصتها: “عندما تدهورت حالته، تطوّع أحد الجيران ونقله إلى المستشفى، أخبروني هناك أنه يحتاج للحليب، دُهشت من طلبهم، وكأن الأطباء لا يعيشون معنا في هذه البلاد، من أين أشتري له الحليب؟ ثمن العلبة الواحدة يتجاوز العشرة آلاف ليرة”.

وتضيف: “الحل الوحيد هو المكملات الغذائية، وزبدة الفستق أو الفول السوداني، أنفي يتقن رائحتها جيداً، إنها رائحة كريهة تذكرنا دائماً أننا فقراء، لا قوّة لدينا لتناول الطعام، وكي لا نموت جوعاً علينا تناول زبدة الفستق، شعورنا أن جوعنا سيستمر إلى مماتنا وقد يحوّلنا الى موتى ونحن على قيد الحياة”.

“الفول هو المنقذ”

تجلس السيدة إلهام في حديقة منزلها في قرية رأس البسيط التابعة لمحافظة اللاذقية، تنتظر عودة زوجها حاملاً القليل من الفول، إنه الطبق الوحيد الذي تتناوله العائلة منذ أكثر من شهر، تقول لرصيف22: “الأسعار نار، كل ما يمكننا فعله هو تناول الفول، لنسد به رمقنا”.

تضحك ضحكة قصيرة وتضيف: “كلو مثل بعضو، المهم لساتنا عم نتنفس الهواء مجاناً”.

يعمل مسعود (64 عاماً) زوج السيدة إلهام في أرضه، يزرع الفول فقط، يقول لرصيف22: “طبيعة التربة لا تساعدني على زراعة البندورة أو البامية أو الخيار، كما أن الزراعة تحتاج لجسد قوي، وقلب شاب، هذا ما أفتقده، وتتطلب أيضاً مياهاً للري، إنه أمر شاق حقاً، كما أن تكلفة استئجار عمّال للزراعة تفوق شراء هذه الخضروات من السوق”.

يقول مسعود: “ذهبت أمس إلى الفرن لشراء الخبز، بعد انتظار نحو ثلاثة أرباع الساعة، أكلت قتلة ورجعت، إما أن تحظى برغيف، أو تعود إلى منزلك بكدمات تملأ جسدك، أحياناً أدفع ثمن الربطة الواحدة 500 ليرة، أوفّر على نفسي الانتظار، وسماع الكلمات البذيئة، أو رؤية شبان يرفعون السكاكين بعضهم على بعض بسبب خلاف على الدور”.

يعيش مسعود مع زوجته في منزلهما، كل ما يملكانه راتبه التقاعدي البالغ 40 ألف ليرة (13 دولاراً) يقول: “الفول هو المنقذ الوحيد لأمعائنا الخاوية، لكنه في الوقت ذاته يزيد من خمولنا، ويسبّب أحياناً عسراً في الهضم، سمعتُ أيضاً أنه يزيد من سماكة المخ”، يضحك، ويضيف: “أعرف أنني لست غنياً لكن لم أتوقع انحدار حالتي إلى هذا المستوى من الفقر”.

تحوّلت معظم الأطعمة إلى حلم يراود كل سوري، في مقدمتها اللحوم والألبان والأجبان والحلويات، ما خلق أنماطاً جديدة للبيع والشراء، إذ تمتلئ الأسواق بمنتجات تعبّر بشكل صارخ عن واقع الناس.

مثلاً يمكنك شراء ظرف زيت خمسة غرامات، غلوة شاي، غلوة قهوة، غلوة “متّة”، يتراوح سعرها بين 250 و 300 ليرة، وهناك من يشتري حبة بندورة واحدة، خيارة أو اثنتين، تفاحة واحدة، موزة واحدة، ربما للأطفال وللضرورة فقط إن استطاع.

وتشهد سوريا تدهوراً حاداً في الاقتصاد وانخفاضاً في قيمة الليرة مقابل الدولار، يترافق ذلك مع ثبات في الأجور، إذ يراوح راتب الموظف بين 30 و 50 ألف ليرة (16 دولاراً)، بينما يبلغ سعر كيلو الدجاج 3800 ليرة، وكيلو السكر 2000 ليرة، والأرز 2500 ليرة، والتفاح 1200 ليرة، والخيار 1000 ليرة، أما الموز فيرتفع سعره إلى 6000 ليرة.

وكانت منظمة مكافحة الفقر “أوكسفام” كشفت في تقرير بعنوان “فيروس الجوع يتكاثر”، نشرته في 9 تموز/ يوليو أن 11 شخصاً يموتون من الجوع كل دقيقة، فيما تصدرت سوريا دول العالم التي يعاني سكانها الجوع بنسبة 60%.

رصيف22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى