خادمة مارسيل بروست.. في نهاية الزمن المفقود/ بشير البكر
خادمة صاحب “البحث عن الزمن المفقود” الروائي الفرنسي مارسيل بروست(1871-1922)، ليست من الخادمات العاديات، فهي قضت إلى جانب الكاتب الذي ترك بصمة كبيرة في الرواية الحديثة، فترة حرجة من حياته، قبل أن تدركه الوفاة، ولازمته في صورة يومية من آذار 1918 وحتى رحيله في تشرين الثاني 1921. وكانت هذه الفترة استثنائية في حياة بروست القصيرة، بسبب معاناته من مرض الربو الذي يحتاج إلى عناية خاصة وإشراف طبي متواصل، في وقت كان بروست يضع اللمسات الأخيرة على آخر فصول الرواية التي تُعد إحدى روائع القرن العشرين. وذلك في ظل الحرب العالمية الأولى، وقصف الألمان المستمر على باريس، وانتشار مرض الحمى الاسبانية التي قتلت الملايين.
للخادمة موقع خاص في الحياة الفرنسية، وهي تحضر بوصفها أحد أعمدة الأسرة الأساسية، ولذلك جرى تخصيص غرفة في البيت الفرنسي التقليدي للخادمة. وهي غرفة تتبع لمستوى العائلة والحي، لكنها تحتفظ بكل المقومات الأساسية كدليل على استقلالية هذا الفرد من الأسرة، وحسب المسافة التي تعطيها لها العائلة وشطارتها يتم رسم حدود الخادمة في الوسط العائلي. وثمة فيلم فرنسي شهير “نساء الطابق السادس” عن حياة الخادمات الأسبانيات الهاربات، في خمسينيات القرن الماضي، من الفقر وديكتاتورية فرانكو، إلى باريس، وهو يصور الأثر الذي تدخله الخادمة في حياة الأسرة الباريسية ونوعية التعامل الذي تلقاه، وفي بعض الأحيان تبدو العلاقة سيرة للقهر والعبودية بين الحاكم والمحكوم، كما هو الحال في مسرحية جان جينيه “الخادمتان”. وهناك خادمات لعبن أدواراً كبيرة كمربّيات، ومنهن من تحولن الى خليلات وحتى زوجات، والبعض الآخر إلى سكرتيرة ومدبرة منزل وممرضة كما حال سيليست الباريت التي دخلت من طريق زوجها، بيت عائلة بروست الارستقراطية، في 102 بولفار هوسمان في وسط باريس وحيّ الأُسر البورجوازية. وكان زوجها يعمل سائق سيارة أجرة على صلة مع عائلة بروست عن طريق مالك شركة السيارات جاك بيزيه صديق طفولة مارسيل بروست، وابن مؤلف أوبرا كارمن الشهيرة جورج بيزيه.
الباريت، فتاة ريفية جاءت إلى باريس العام 1913 بعدما تزوجت من سائق التاكسي. وطلب منها الكاتب أن تقرأ الكسندر دوما “الفرسان الثلاثة” وأعمال بلزاك، وقد قبلت الأول ورفضت الثاني، ويبدو أن بروست أراد أن يدربها على المهمة الصعبة، خادمة غير عادية لرجل غير عادي، للكاتب تحديداً، لكنها هي التي دربت نفسها على أن تعمل ليلاً، ترتب غرفته حين يخرج للسهر، وتستقبله حين يعود في الفجر وتكون جاهزة كي تستمع إليه، وهنا قرر أن ينقلها من خدم البيت إلى العناية به لوحده، وهي التي تحضر له فطوره المتأخر الساعة الرابعة مساء، “كانت الوجبة الوحيدة التي يقدسها حقًا هي القهوة والكرواسون، التي يتناولها كإفطار”. لكنها أصبحت سكرتيرته الخاصة أيضاً. واشتهرت بإدارة مهمات حياة الكاتب، إلى حد أنها جمعت قصاصات من أعماله، ورتبتها ضمن سياقها، لأن بروست كان يكتب بسرعة وتحت تأثير المرض، ولم يكن مهتماً بجمع وتنسيق ما يكتبه.
تراقبه في جميع المجالات. يخبرها عن لياليه المجنونة، وعلاقاته بأصدقائه، والقيل والقال الذي يصل من العالم الخارجي. وفي باريس الحرب، ظلت مطابخ فندق ريتز مفتوحة لفترة أطول من معظم المؤسسات، لكن حتى هنا لم تكن المطابخ مزودة بالموظفين، أو يمكن الوصول إليها طوال الليل. ومع ذلك، كانت ألباريت تحمل مفتاحها الخاص، حتى تتمكن من الوصول إلى مطابخ الفندق في أي وقت أثناء الليل، إذا احتاج بروست إلى بيرة باردة.
بقيت الباريت مخلصًة بشدة لبروست بعد وفاته بفترة طويلة. ومع أن شهرته سرت بسرعة، فإنها ظلت حريصًة على تجنب الخوض في تفاصيل الحياة الشخصية للكاتب. ومع زوجها، افتتحت فندقًا، بِيع حوالى العام 1954، عندما كان زوجها يقترب من سن التقاعد. وعملت الباريت مع أختها ماري جينستي بين العامين 1954 و1970 في إدارة المنزل حيث عاش الموسيقي صاحب “البوليرو” موريس رافيل، والذي تحول إلى متحف صغير. وبموجب شروط “اتفاقية الحراسة” التي وقعتها الأختان مع إدوارد رافيل، اتفقتا على رعاية المنزل لمدة عشرين عامًا. وفي وقت لاحق، اعترفت الباريت بأنها تحدثت للزوار عن بروست أكثر من رافيل. وفي ستينيات القرن الماضي، “أعيد اكتشاف” الخادمة القديمة من قبل أعضاء مؤسسة الفنون والثقافة بمناسبة “الفيلم الوثائقي” المتلفز العام 1971 “بروست والفن والألم”. وبعد ذلك كسرت صمتها الذي دام خمسين عاماً، حينما لاحظت أن آخرين، أقل معرفة منها بالكاتب، تحدثوا وكتبوا عن أشياء لم تكن دائمًا صحيحة، ولذا قررت أن تفي بالواجب الأخير تجاه الشخص، وقامت بإملاء سبعين ساعة من المواد المسجلة على الصحافي والمترجم جورج بلمونت. وكانت النتيجة كتاباً في العام 1973 Monsieur Proust: Souvenirs. كما وافقت على بيع العديد من الأشياء التي قدمها لها بروست.
لاقى كتاب بلمونت استحسان النقاد، ووجد صدى يتجاوز النخبة الأدبية، وقبل وفاتها ببضع سنوات، و”تكريمًا لامرأة رائعة شاركت بشكل وثيق في عنصر مركزي من التاريخ الأدبي لفرنسا، وساهمت شخصيًا بطريقة ملموسة في إنشاء وحفظ النصوص التاريخية”، وُسمت بوسام الآداب والفنون برتبة قائد.
قراءة جديدة للعلاقة التي ربطت بروست بخادمته، صدرت حديثاً في فرنسا، في كتاب للكاتبة المشهورة بكتابة السير، جوسلين سوفارد تحت عنوان Céleste et Marcel, un amour de Proust اختارت جوسلين سوفارد سرد قصة ما وراء الكواليس للسنوات الأربع الأخيرة من حياة الكاتب الشخصية، حينما أصبحت سيليست أكثر من مجرد خادمة. وتقدم فيه مقاربة مختلفة للعلاقة التي ربطت الكاتب بالخادمة، والتي اعتبرتها حباً مطلقاً بين الكاتب وصديقته الوحيدة الحميمة: “حين تسمع سيليست الرنين الخفي، تذهب راكضة، إنه بحاجة لها، لجسدها الذي يشيع الطمأنينة. كل يوم تندفع الى ندائه مثل عذراء حكيمة نحو زوجها تنتظر منه أن يعيد لها سحر ما يسميه الحياة الواقعية: جنون الخلق والرغبة”. وباعتبار أن الكاتب يخرج للسهر في كل ليلة، فإن سيليست كانت تمضي الليل في انتظاره، لكن لا بأس، الشيء المهم هو أنه يعود إلى المنزل. سيليست ستفعل أي شيء من أجله. إنها تستمع إليه بشكل كامل. “علاقتهم أفلاطونية تمامًا، لكن بروست لا يثق في غيرها أبدًا. امرأة في الظل، لكن ليس لبروست. امرأة كانت مخلصة تمامًا له، واستجابت ليل نهار لطلباته. من دون توقع أي شيء في المقابل. قالت إنها تلقت الكثير من هذه العبقرية لدرجة أن بروست ملأ حياتها… عشر سنوات مع مارسيل، حب قوي لدرجة أنه سيجعل حياتها مشتعلة حتى النهاية”. لقد أعطته اهتماماً من ذلك النوع الذي تمنحه الأمهات، ولم يكن قادرًا على المطالبة به بالكامل لو يكن مريضاً، ولذلك لم يكن من فراغ اعترافه أنه لم يحب سوى أمه وسيليست التي قال إنها هي التي ستغمض عينيه للمرة الأخيرة (هذه يداك الصغيرتان الجميلتان اللتان ستغمضان عيني)، وهذا ما حصل فعلاً.
“كنا أيتامًا، هو من جهة والديه المتوفين وأصدقائه المتناثرين، وأنا من جهة والديّ المتوفين وعائلتي البعيدة وزوجي في الجيش. لذلك أنشأنا مجالاً خاصاً من الحميمية. وعلى الرغم من أنها كانت في الأساس بالنسبة له أجواء أعمل فيها، فقد نسيت مهامي الخاصة، ولم أر شيئًا سوى دائرة سحرية”.
سمحت له ألباريت بالبقاء مبدعًا. كتبت النصوص كما كان يمليها عليها، وأصبحت نقطة اتصال مهمة مع العالم الخارجي. وتؤكد بعض المصادر أنها ألهمته أيضًا، وورد وصفها في الحديث عن شخصية معينة في روايته. جوسلين سوفارد، التي تابعت كل ما يتعلق ببروست منذ زمن طويل، تقدم في الكتاب تقديراً خاصاً لهذه المرأة، سيليست ألباريت، التي لولاها لما كان بروست ليكون. وفوق كل شيء، لم يكن بروست لينجح في إنهاء رواية “البحث عن الزمن المفقود” بمفرده.
المدن