نحو تحليل للظاهرة الاستبدادية/ سيف الدين عبد الفتاح
تشريح الظاهرة الاستبدادية أمر مفيد، وخصوصا لتلك التجارب التي انقضت، وباتت قابلة لذلك، في ظل أن الظاهرة نفسها لا تزال تعيش فيما بيننا، وربما تزايدت شواهدها، لاستمرارها في جنبات المجتمعات وأنظمة الحكم وامتداد تأثيرها على معاش الناس ومستقبل بلادهم، وعلى أوطانهم وجودا وكيانا، الأمر الذي يتطلّب التدخل الجراحي لاستئصال هذه الأورام السرطانية من جسد الدولة والمجتمع، وهو أمرٌ بالنسبة لنا جدير بالاهتمام، لو أردنا أن نبقي على حياة تلك الأوطان والمجتمعات، من دون أن ننكر أهمية الاستفادة من الأساليب التشريحية في المسائل الطبية والعضوية في مثل تلك الظواهر السياسية، وخصوصا المتعلقة بالظاهرة الاستبدادية، ولكن النزول إلى أرض الميدان شأن آخر، يستحق المعايشة والمكابدة والمقاومة والمواجهة والتضحية، وهو ما يوفّره لنا الكتاب الصادر حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، “كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها”. وهو نتاجُ عملٍ بحثيٍ مشترك لكل من باربرا غيديس وجوزيف رايت، وإيريكا فرانتز، وترجمة متميزة من عبد الرحمن عياش.
قدّم الباحثون الثلاثة إجاباتٍ وافية عن أسئلة متعلقة بالأنظمة الدكتاتورية، منها السؤال المركزي في عنوان الكتاب، في أربعة أقسام رئيسية، تضمنت تسعة فصول بعدد 382 صفحة. وقد سبق هذه الأقسام فصل تمهيدي تضمن رؤيته للقضية ومفاهيمه المركزية المعتمدة في التحليل، ثم جاء القسم الأول ليشمل البداية وفيه الاستيلاء الاستبدادي على السلطة، وتم التركيز على الانقلابات العسكرية، مع عدم اهمال الطرق الأخرى. وتناول القسم الثاني موضوع تقوية النخبة، مشيرا إلى تأثير انقسام النخبة في الشخصانية، مركّزا على العلاقة بين الدكتاتور وجماعة السيطرة، كما استعرض الاستراتيجيات التي تساعد الدكتاتوريات في مواجهة التحدّيات. وفي القسم الثالث، ناقش الكتاب العلاقة بين الدكتاتور والمجتمع، محاولا الإجابة عن سؤال: لماذا تُنشئ الدكتاتوريات أحزابا وتعقد انتخابات؟ بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية المخصّصة للمراقبة والقهر، وكيف أنها سلاح ذو حدّين، سواء على المجتمع أو الجماعة المسيطرة والدكتاتور؟ وجاء القسم الرابع والأخير لبحث بقاء الدكتاتوريات وانهيارها، حيث تناول أسباب سقوط الدكتاتوريات، وقدّم نتائج توصل إليها الكتاب من دراسة النماذج موضع الدراسة.
وضح إدراك مؤلفي الكتاب أحوال الدول الديكتاتورية وما تضمه من نماذج كثيرة ومختلفة فيما بينها، سواء على مستوى توفير الرفاهية للمواطنين، وفي دورها في الصراعات الدولية، وبعضها يعيش الحروب والعنف السياسي، وبعضها الآخر يعيش حالة من الاستقرار، كما أن أسرع الدول نموا هي دكتاتوريات، وأسوأها في إدارة اقتصادها دكتاتوريات أيضا. وفي بعض الدول مساواة بين مواطنيها وأخرى تفتقر لذلك. ويتوقف المؤلفون عند ملاحظة جوهرية، أن العلم بشأن الدكتاتوريات قليل، وخصوصا فيما يتعلق بكيف تعمل ولماذا تفشل أيضا؟ وعملية اتخاذ القرار في الدكتاتوريات، والتي غالبا ما تحدُث في الظلام، حيث تتخذ المجموعات النخبوية الصغيرة في الأنظمة الدكتاتورية قراراتها في سياقاتٍ غير رسمية. ولا تنشر الدكتاتوريات بياناتٍ أقل فحسب، ولكن ما تنشره قد يكون غير دقيق بشكل متعمّد. كما أن للانتخابات في الدكتاتوريات وظيفة أخرى غير التي تعرفها الدول الديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، يتبنّى الكتاب مفتاحين مهمين، “جماعة السيطرة” و”النظام”، لفهم قضية الدكتاتوريات وتفكيكها، وكيف تعمل وما هي الآليات والأدوات التي تضمن استمرارها.
استند المؤلفون الثلاثة في إنجاز بحثهم إلى قاعدة بياناتٍ ضخمة، شملت نحو 280 نظامًا استبداديًا ظهر بين عامي 1946 و2010، ضمّت معلوماتٍ عن طبيعة هذه الأنظمة، وطريقتها في إدارة الدولة، وكيفية تعاطيها مع شعوبها أيضًا. كما تم الاعتماد على مجموعة بيانات الانقلابات العسكرية 1946 – 2013 التي أصدرها مركز السلام النظامي. وأفرد الكتاب لكل من النزاع والمساومة بين الدكتاتور وأفراد دائرته المقربة مساحةً لا بأس بها، شملت أقسام الكتاب المختلفة، باعتبارهما سمتين رئيسيتين في السياسة الاستبدادية، لكونهما من أهم الأشياء التي سعى الكتاب إلى شرحها. كما حرص الكتاب على تحليل الصفات الخارجية لجماعة السيطرة، باعتبارها تساهم في دراسة الاختلافات بين الأنظمة الاستبدادية، ويتم قياسها قبل وجود الدكتاتورية، كما أن تقييم صفات الحكم الدكتاتوري في مرحلة ما بعد الاستيلاء على السلطة، وكذلك التمييز بين الدكتاتوريات التي يكون فيها لمسؤولي الحزب القدرة على تحجيم الدكتاتور وتلك التي تضم أحزابا منزوعة الأنياب. وقد شكلت هذه الأطر منظومةً تحليليةً في فهم الموضوع بمراحله الثلاث؛ التأسيس، والترسيخ، والانهيار أو البقاء.
اعتمد الكتاب على آليتين رئيستين في التحليل عملا معا بشكل متواز ومتناغم، وساهما في جلاء غموض الموضوع وحل تعقيداته (مع تأكيد أن الإحصاء ساهم في الإبقاء على جانب كبير من تعقيد الموضوع)، وهما استراتيجية الأسئلة والأشكال البيانية والتوضيحية. وجاء اعتماد الكتاب على “آلية استراتيجية الأسئلة” بدءا من عنوانه، والذي جاء على شكل سؤال. كما أن معظم عناوين الفصول، بل وبعض العناوين الداخلية، جاءت في صيغة أسئلة. وقد مثّل اعتناء القائمين على الكتاب بالإجابة عن هذه الأسئلة وتقديم خلاصاتٍ متميزة في نهاية الفصول، في تسهيل عملية فهم الكتاب والتفاعل معه. قدّم الكتاب إذًا قراءة متميزة وشاملة للموضوع، من حيث طبيعة الموضوع، تأسيسا وتقوية وانهيارا أو سقوطا. وكذلك أحاط بها زمنيا ومكانيا، فالنماذج التي درسها، والأمثلة التي ساقها، جاءت ممثلة للأبعاد الزمنية والمكانية لنشأة الظاهرة وبروزها.
وعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب ومنهجيته، فإن إشكالية الاستبداد والدكتاتورية ليست مجرّد إشكالية بحثية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى أنها إشكالية قيمية، على عكس تعامل بعض الكتابات الغربية. وينشأ ذلك من فهمها الموضوعية والحياد في التعامل مع الظاهرة، على الرغم من أن بعض الظواهر، في حقيقة الأمر، لا يمكن بأي حال أن نقف فيها على ما يسمّى الحياد العلمي؛ ومنها قضية الاستبداد، فالحديث عن هذه القضية هو حديث قيم وأخلاق وحقوق إنسانية وكفاحية. ومن ثم، فإن الباب الذي يتعلق بمكافحة الاستبداد ومقاومته، ربما لا يكون موضع اهتمام كافٍ في تلك الدراسات العربية، على الرغم من أنه قد يعالج كيف يمكن أن تتآكل هذه الدكتاتوريات أو تتدهور في أحوالها. ومن ثم، فإن المبحث الذي يتعلق بتفكيك الاستبداد من أهم المباحث والدراسات التي يجب أن يهتم بها هؤلاء الذين يكتبون، وهم مهمتون بمسألة الإصلاح، مع ضرورة وضع هذه الكتابات في الاعتبار والتعلم منها، في كيف تعمل الدكتاتوريات وكيف تقوّي نفسها، وذلك حتى تتمكّن هذه الدراسات من أن تبدع في عملية المواجهة والمقاومة لمواجهة الظاهرة الاستبدادية. ومن هنا يجب أن يكون السؤال الذي نهتم به بشكل أكبر: كيف يمكننا أن نفكّك الاستبداد؟ ومع أهمية هذا الكتاب بصفة عامة، إلا أن من الضروري أن نتوقف جيدا عند الإسهام المتميز الذي قدّمه، والخاص بالمفهوم المفتاحي المتعلق بالجماعة المسيطرة في الحالة الاستبدادية، وتأثيرها على الظاهرة إيجابا أو سلبا.
العربي الجديد