“يوم أضعتُ ظلّي” على نتفليكس.. مرثية الأوطان الهَاربة/ أشرف الحساني
تنتمي المُخرجة السورية سؤدد كعدان (1979) إلى السينما السورية الجديدة، التي ظهرت في سياق الربيع العربي، بما شهدته من قفزات وتبدّلات على مستوى السياسة والاجتماع. إنّ الرغبة في تأجيج النقاش وتوثيق قصص وحكايات، تبقَى أحد أهم المُرتكزات الفنيّة والمعالم الجماليّة لدى سؤدد كعدان في أفلامها: “خبز الحصار” (2016) و”يوم أضعتُ ظلّي” (2018) و”عزيزة” (2019). فالثاني أعمق من الثالث من ناحية الاشتباك مع حدث الربيع العربي، لأنّ فيلمها القصير”عزيزة” تلعب فيه الذاكرة دورًا كبيرًا في بناء النصّ بصريًا من خلال التقاط تفاصيل لحظة راهنة وتحويلها إلى قضية سينمائية تخرج من شغاف الجسد وتتوغّل أكثر في أسئلة الذاكرة والتاريخ والوجود، مقارنة بفيلمها الروائي الطويل الأوّل، الذي جعلها تحتل مكانة مائزة داخل سينما عربية جديدة، بدت في سنواتها الأولى لحظة الربيع العربي وبعده وكأنّها تلهث جاهدة للتماهي مع حساسية الحدث التاريخي، لكنّها سرعان ما قدّمت متونًا فيلموغرافية نوعية واكتسحت معها طوبوغرافيّة المشهد السينمائي العربي، لأنّها قدمت سينما جديدة، بقدر ما تدخل في اشتباك مع الجسد والذاكرة، تضع حدودًا وسياجات على مستوى رهانها على الشرط الجمالي، الذي يجعل العمل السينمائي عملًا إبداعيًا وليس أدلجة.
على مدار سنوات عملت كعدان على مسار سينمائي مُتفرّد وإنْ بدا هزيلًا من حيث الكمّ، لكنّه كان قادرًا على لفت الانتباه داخل مهرجانات سينمائية عالمية، لا سيما وأنّ فيلمها الروائي الأوّل فاز بـ”جائزة أسد المستقبل” من مهرجان البندقية السينمائي، وتوّج معه مسار مخرجة واعدة، تعمل على خلق مشروع سينمائي مُتجدّد. ورغم استقرار سؤدد كعدان في لبنان، إلاّ أنّ ذاكرتها بقيت مُعلّقة داخل الجغرافيا السورية، وتعمل دومًا على ممارسة نوع من النوسطالجيا السينمائية الخفيّة والساحرة عن طريق تخييل الواقع السوري وجعله يمتطي سيرة المُتخيّل السينمائي، إذْ إنّ فرادة كعدان، عن باقي الأسماء الأخرى، التي اشتغلت على الربيع العربي تفكيرًا وكتابةً وتخييلًا، تتأتى من كونها، جعلت من البُعد الجمالي ملاذًا وحيدًا تحتمي به من قبح السياسة وهشاشة الاجتماع، لأنّ الصورة السينمائية في “يوم أضعتُ ظلّي” ترتكز بشكل بسيط على تكثيف المُتخيّل الرمزي، عوض الركون إلى اللّغة الواقعية، التي تستند على النقد والصراخ، فهي تترك الصورة تبوح ولا تُضمر، إنّها تُعرّي في صمت جرائم الأسد وفداحة الواقع ومكر التاريخ وعجرفة القانون الدولي.
موجة تجديد
بلغت موجة التجديد داخل السينما السورية مرحلة نضجها السياسي واكتمالها الجمالي منذ بدايات الربيع العربي إلى اليوم، لكنّ بدرجات مُختلفة من التناول الفني والمُعالجة الجماليّة. بطريقة أعادت معها السينما السورية إلى ما سُمي خلال القرن العشرين بـ”الواقعية السحرية” لأنّ التجارب السينمائية الجديدة، فطنت إلى ذلك الارتباك الفنيّ، الذي خيّم على السينما العربيّة إبان سبعينيات القرن المنصرم، وهي تُقدّم نفسها قربانًا للتوجّه السياسي واللّغة السينمائية الواقعية المُفتقرة إلى كل أشكال الخيال، بحيث طالما اعتبرت من لدن بعض النقاد السينمائيين مُجرّد وثيقة بصريّة عن مآزق وأعطاب مرحلة، لم يندمل جُرحها بعد داخل الاجتماع العربي. إلاّ أنّ التجارب الجديدة داخل السينما السورية، وثائقية منها وروائية، أصبحت أكثر وعيًا بهذا الميسم الجمالي، الذي تُراهن عليه السينما، بوصفها فنًّا جماهيريًا يُقدّم مادّة تخييلية بامتياز، حتى وإنْ ارتبطت وتلاحمت بشكل أو بآخر مع واقع ما. هذا التجديد، لم يبقَ رهين الموضوعات السينمائية، بل ثوّر معه الفيلم السوري وجعله قي قلب تحوّلات سياسية واجتماعية شهدتها المنطقة مند سنة 2011. فجاءت الأفلام مختلفة ومُتباينة في اشتغالاتها وسياقاتها وتوثيقها وتخييلها، لكنّها تظلّ مُتقاربة على مستوى المنطلق السياسي الذي منه انطلقت. ومع ذلك حاولت سؤدد كعدان التبرّم من الأبعاد الأيديولوجية، التي قد تنطبع بها فيلموغرافيتها، إذْ رغم أنّها قدمت من الفيلم الوثائقي، فإنّها بقيت حريصة على المُعالجة الجماليّة المُنبثقة من قوّة التخييل الروائي، رغم أنّ الوثائقي السوري قد شهد قفزة فنيّة نوعية في المرحلة الأخيرة من الربيع العربي، لأنّ الفيلموغرافيا الأولى، ظلّت لصيقة بالحدث السياسي والاجتماعي، وكانت تهدف في مُجملها إلى التوثيق والتأريخ بالاستناد على الواقع المباشر وما شهده من أعطاب ومآزق وتصدّعات. الروائي قليل ومعدود على أصابع اليد الواحدة، لكنّ الوثائقي كثيف من ناحية الكمّ، ما يجعل المُقاربة النقدية مُختلفة وتتنوّع بتعدّد الأفلام الوثائقية، فالكمّ السينمائي عربيًا، لا يُقدّم دومًا متنًا بصريًا مُذهلًا، إلاّ أنّ الحالة السورية مختلفة، فقد أكّدت عكس الأطروحة الرائجة حول عدم نجاعة البُعد الكمّي في العمل السينمائي، لأنّ المُشاهد يعثر على سيل من الصورة الوثائقية الغنيّة وغير المُتكرّرة مادّة وتخييلًا ومعالجة وحكاية، حتى وإنّ ظلّت منطلقاتها واحدة: الثورة والحرب.
لم تنعكس الثورة على الشأنين السياسي والاجتماعي فقط، بل جدّدت الفيلم السوري وصوره الفنيّة واقتلعته من مختلف أنماطه السينمائية القديمة. لذلك تُطالعنا أعمال كعدان، باعتبارها مجموعة صور سينمائية تهجس بالتخييل والتجريب السينمائيين، ففي “يوم أضعتُ ظلّي” المعروض قبل أيام على منصّة “نتفليكس” لم تنشغل كعدان بالتأريخ للواقع السوري بصريًا، وإنّما جعلت الكاميرا، تلتهم ببطء ما يرجّ في الاجتماع السوري من خلال “رحلة” امرأة شاردة، تبحث عن قارورة غاز. لكنّها وجدت نفسها في تخوم البلد وأنقاضه وخرابه وويلاته. فـ”التوثيق” حاضر انطلاقًا من أصل الحكاية، لكنّه غير طاغ على عناصرها وجماليّاتها، كما نُعاين ذلك في أفلام سورية أخرى. إذْ أنّ الرغبة في مُجاوزة التوثيق، تبدو بارزة لدى كعدان منذ مَشاهدها الأولى، لأنّ النصّ شُيّد في أصله على نفس روائي وعلى حكاية متخيّلة/ واقعية، تقوم على تخييل الفكرة والدفع بها صوب آفاق مُتشعّبة من الحكي والسرد. على الرغم من أنّ كعدان مخرجة أفلام وثائقية، إلاّ أنّ براعتها في تخييل النصّ السينمائي، جعلتها من السينمائيّات الأكثر تأثيرًا داخل سينما سورية جديدة أخذت على عاتقها تطوير أدواتها ووسائلها وتجديد موضوعاتها وعلاقتها بالواقع الفاجع، الذي تنتمي إليه سياسيًا واجتماعيًا. من ثمّ، تحرص كعدان داخل مَشاهدها على الانتقال الدائم بين أنماط صور مُختلفة بين الرصد و”التوثيق” والنقد والحلم والتخييل. وهذا التنوّع والغنى في باطن الصورة السينمائية يجعل فيلمها مُميّزًا ومُتماسكًا ومُنفلتًا من قبضة التسطيح والصور النمطية والمعالجة الوثائقية الفجّة إزاء الواقع السوري إبان الربيع العربي.
سيرة اللامرئي
داخل هذا الأفق الجمالي المُركّب، تعمل المخرجة السورية على إقامة نوع من الواقعية السحرية، التي تمزج السياقات بالأحداث والشخصيات بأحوال الصناعة وتحوّلاتها. فهي بقدرما تنغمس بفيلمها داخل واقع سوري مُرتبك، تتجاوزه في نفس الوقت من أجل تخييل الموضوع لدرجة تبدو فيها بعض مَشاهد الحرب “جميلة” بحكم قُبحها، فطريقة التصوير تجعل كل ما تقع عليه الكاميرا جميلًا، حتى وإنْ كان مُتصدّعًا ومُؤلمًا. نادرًا ما يعثر المرء داخل أفلام سورية جديدة على هذه الفطنة الفنيّة/الفكرية، التي تجعل مخرجة في بداياتها تجعل من “القبيح” مفهومًا جماليًّا. ولو أنّ الأمر مُتاح تشكيليًّا داخل تجارب عربية، إلاّ أنّ استخدام المفهوم داخل السينما بدا غائبًا، وحتى لو حضر داخل مَشاهد مُعيّنة، فيكون بوصفه اكسسوارًا بصريًا لا واعيًا، وليس باعتباره مفهومًا جماليًّا يتوسّله المُخرج لاجتراج أفق بصريّ جديد، كما نُشاهد ذلك داخل بعض الأفلام الكبرى الروسية والألمانية منها، التي طرقت موضوع الحرب العالمية وما رافقها من تنكيل وتذمير وتآكل. لذلك يشتغل القبيح عند سؤدد كعدان، بوصفه ملاذًا جماليًّا يُدين فداحة الواقع السوري ويجعله يتطلّع إلى عيش واقع آخر. ليس القبيح مفهومًا سينمائيًا ولا حتى تشكيليًّا ولكنّه صرح أدبي تبلور داخل كتابات الشاعر الفرنسي شارل بودلير لا سيما في ديوانه “أزهار الشر” وبعده تناقل مفكّرون وباحثون المفهوم حتى اكتسح مجالات المعرفة وتمثّلاتها داخل الآداب والفنون البصريّة بشتّى أنواعها وألوانها. لكنّ حضوره داخل تجربة كعدان بمثابة اشتغال تلقائي بحكم ما تسبّبت فيه الحرب من عنف ومآزق وأهوال، وبالتالي تعتمده كأداة بصريّة لتجميل الصورة. لذلك فإنّ جماليّات القبيح هي التي تنتج الواقعية السحرية، حيث تتبدّى الفضاءات المُنهارة على الأرض ذات ميسم شاعري، ما يجعل الصورة السينمائية وكأنّها سرديّة شعريّة تهجس بالألم وتبوح بالتراجيديا السورية بصريًا.
كما أنّ مفهوم الواقعية السحرية لدى المُخرجة غير مُجتثّ من جذور السينما الإيطالية أو الروسية أو الألمانية ولا حتى من السينما العربيّة (المصرية مثلًا)، لأنّها مُبتكرة ووليدة سياق السينما السورية، ولأنّ كعدان تعمل انطلاقًا من هذا المفهوم على اجتراح واقعية سحرية بصريّة خاصّة بفيلمها أو بالأحرى بالتراجيديا السورية ومحاولة تطويعها سينمائيًا، إنّها تقبض بطريقة لا مرئية على الربيع العربي من خلال الحرب، وهذا الأمر، هو ما يُفسّر نجاح الفيلم في القبض على المُتخيّل السوري سياسةً واجتماعًا. فهي مشغولة بالجحيم لا بالحرب، بالظلال لا بالأجساد وغيرها من الثنائيات التي تُصوّر أشياء لا مرئية. إنّها تدخل فكريًا في لعبة مغايرة أو “صورة مرآوية”، لا تعكس الشيء بل نقيضه. على هذا الأساس، تُطالعنا في الفيلم ظلال الناس بدل أجسادهم التي يفقدونها خلال الحرب. فالظلّ مُجرّد سيمولاكر بصريّ عن الجسد الأصل الذي هو هويّة للإنسان الحيّ، أما الظلال فتُحيل فكريًا إلى العبور والأثر واللجوء والتلاشي ومختلف التسميات ذات الارتباط بالموت الرمزي. من ثمّ، يُعدّ العنوان تعبيرًا صارخًا عن هذه الجماليّات السينمائية المُبتكرة القائمة على فتنة الرمز وبلاغة الصورة وقدرتها على صياغة عالم سينمائي شاعري إلى حد كبير، يهتم بالعوالم اللامرئية من الحرب السورية ويجعلها في مُقدّم البرنامج الجمال للفيلم.
الربيع في مرآة السينما
من جهة أخرى، نجد أنّه من الأسئلة الفكرية الجوهرية، التي تطرحها سؤدد كعدان في “يوم أضعتُ ظلّي” تلك المُرتبطة بعلاقة الصورة السينمائية بحدث الربيع العربي. فقد جرى الحديث داخل الأدبيّات التاريخيّة في كون الأفلام المُنجزة إبان الربيع العربي وبعده، قد لعبت دورًا كبيرًا على مستوى التأريخ، بوصفها وثيقة بصريّة هامّة، أمام غياب مهول لكتابة تاريخيّة حفرية في الموضوع، رغم أنّ هذا الرأي لم يُعمّر طويلًا داخل الصحافة العربيّة لمُناقشة العلاقة الشائكة فكريًا بين السينما والتاريخ، وما إذا كانت الصورة السينمائية قادرة على تأريخ اللحظة وشرطها الإنساني، أم أنّ عامل الخيال، يجعل الموضوع مُربكًا ومُنفلتًا من سلطة السينما وإمكانتها التخييلية المُتشعّبة؟. والحقيقة أنّنا لا نعثر على جواب داخل الأفلام السورية المُنجزة، لأنّ المشكل فكري وليس سينمائي، بسبب غياب كتابات نظرية تُشرّح الموضوع وتُقدّم فهمًا صحيحًا، حول ما إذا كانت سينما الربيع “تُؤرّخ” لمسار الشعوب العربيّة في سبيل الثورة على مختلف السُلط القمعية وأنظمتها الديكتاتورية؟ أو أنّها “تُوثّق” جملة قصص حكايات مُستلة من الواقع السوري؟ أم أنّها تتجاوز مفهومي “التأريخ” و”التوثيق” وتعمل على رصد و”نقل” أجزاء من هذا الواقع السوري وتخييله وفق أفق سينمائي، يغدو فيه مجرّد “صورة” مُتخيّلة عن هذا الواقع؟.
لكن في “يوم أضعتُ ظلّي” يكاد المرء يعثر على جواب. بحيث أنّ المخرجة سؤدد كعدان، لا تعمل سوى على تصوير أجزاء من الواقع السوري، بل حكاية واحدة لامرأة تبحث عن الغاز، لأنّ السينما في عموميتها، لا تهتم بالظواهر/ التواريخ العامّة، إذْ تبحث عن الفردي والحميمي داخل واقع ما وتُحوّله إلى صورة مُتخيّلة لدرجة أنّ الواقع الحقيقي يتلاشى ويختفي داخل وسيط بصريّ سينمائي تخييلي، لا يعترف بأيّ حقيقة واقعية أو حدث تاريخي، لا سيما حين يتعلّق الأمر بعمل روائي، فالمسافة تجعل الصيغة التأريخيّة مُستحيلة، بحكم الفارق الزمني في الفيلم، الذي يُصوّر بدايات الربيع العربي في سورية، مقارنة ببعض الأفلام الوثائقية، التي تكون قريبة من توثيق اللحظة، بسبب حساسيتها وسخونتها تجاه أحداث سياسية واجتماعية طالت المنطقة العربية منذ 2011 إلى الآن.
ضفة ثالثة