الحبيب السالمي الروائي ما وراء الحكاية/ بشير البكر
الحبيب السالمي الروائي ما وراء الحكاية تشكل العناوين ذات الصلة النسائية أكثر من نصف نتاج السالمي الروائي
الحبيب السالمي روائي مثابر منذ أول عمل أصدره “جبل العنز” العام 1988، وكلما تقدم زمن الكتابة لديه، كلما ضاقت الفجوة بين عمل وآخر، حتى صارت الفترة الزمنية بين عمل وآخر تقترب من ثلاث سنوات، وعليه بات رصيده اليوم يقارب 11 رواية، واضحى بذلك أحد الروائيين العرب الذين ساروا على درب الكتابة بجدارة ووعي لما يخطط له ويقوم به. ولأنه كاتب دؤوب فهو يعمل بصمت شديد، كي يفاجئ الأوساط بعمل روائي جديد يتقدم فيه بالتجربة والصنعة وصناعة الحكايات. وتكمن خصوصية السالمي في عدد من المزايا. الأولى هي أنه صاحب مشروع روائي، ولذا يعمل كمعماري وضع مخطط عمارة روائية، يشتغل عليها خطوة خطوة بصبر شديد وأناة، لا يهزها الاهتمام الذي حظيت به أعماله خلال العقد الأخير، ومن ذلك وصولها عدة مرات إلى القائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية-بوكر (روائح ماري كلير 2008، نساء البساتين 2010، الاشتياق إلى الجارة 2019).
والميزة الثانية انه صاحب عالم روائي، وصار في وسع القارئ أن يخمن بسرعة أنه يقرأ للسالمي إذا وقعت بيده الرواية مغفلة من الاسم، وهذا أمر يتصل برؤية الكاتب للكتابة الروائية من جهة، ومن جهة ثانية لما يريد أن يعمل عليه كمادة خام، بالاضافة إلى “التكنيك” أو طريقة الكتابة، التي تبدو مشغولة بعناية كبيرة، وفي وسع القارئ أن يلمس الاهتمام بالعمل الذي يخلو كليا من الزوائد، وهذا دليل على أنه مكتوب على أكثر من مرحلة، وخضع لمراجعة وحتى الحذف في بعض الأحيان. وفي ذات الوقت تخضع عملية صناعة العمل الروائي، بين عمل وآخر، إلى تنويع جديد على ثيمة سبق للكاتب أن مر عليها في عمل آخر، ولكن من باب مختلف. والرواية لدى السالمي ليست الحكاية بمعناها المباشر. صحيح أنه ينطلق من حكاية وحدوثة وفكرة، وإنما لكي يذهب نحو صناعة المعنى الكبير، وحتى يبدو للقارئ في الختام أن الكاتب أراد الذهاب إلى ما وراء الحكاية.
وهناك ميزة أخرى تتعلق باللغة التي يكتب بها، وتبدو أنها بسيطة يومية وخالية من الانشاء والبذخ، وهذا أمر يعود الفضل فيه إلى سببين أساسيين. الأول هو معرفة ممتازة باللغتين العربية والفرنسية، وكلاهما لغة سرد روائي وحكائي تاريخي. ولدى قراءة السالمي تبدو واضحة الصلة بعوالم الحكاية العربية ومنطقها وبنائها، وفي ذات الوقت الخلفية الثقافية الغنية المستندة إلى تبحر واسع في الرواية الفرنسية منذ غوستاف فلوبير مرورا بإيميل زولا وبلزاك وحتى الكتابة الراهنة. ويكمن السبب الثاني في المنهج الذي يشتغل عليه وعلاقته باللغة كأداة، وبالتالي تركيب الأسلوب البعيد عن الصنعة اللغوية والبذخ البلاغي، والاقتراب أكثر فأكثر من لغة الحياة اليومية، التي لها مكانتها الخاصة في الكتابة الفرنسية، سواء الشعر أو الرواية والقصة وحتى السينما، حيث تشكل التفاصيل اليومية حكاية قريبة من المتلقي بسبب حميميتها والبعد عن التكلف الذي يقتل السرد.
السالمي روائي متقشف جدا لغوياً، وهذا أمر مثير للاستغراب من طرف كاتب على تمرس بالعربية ومعرفة واسعة بالفرنسية، وكلاهما لغة شعر وبلاغة، وتتيحان إمكانات مفتوحة للسرد الروائي، وحرية في الحكي لا تقف عند حدود. ويبدو أن نص السالمي مشغول انطلاقا من موقف مسبق مما تتيحه له اللغة، ويظهر التقشف ومجانبة الشعرية في الرواية أمرين مقصودين. فهو ضد تحميل اللغة أكثر مما تتيحه مباشرة، والشعرية لا تعني بالضرورة شحن اللغة بقدر عال من الغنائية حتى تقترب من لغة القصيدة، كما هو دارج في بعض الكتابات الروائية العربية، وغير العربية. وهو لا يتخلى عن هذا البعد في الرواية، وإنما يحضر لديه من خلال التطور الدرامي وتتابع الأحداث، وإيقاع السرد وحركته الداخلية، وهو أمر مشروع حين يتابع القارئ البناء الجمالي للعمل، استنادا إلى الهارموني الذي تشكله وحدة العناصر. ومن المفارقات فإن عناوين بعض روايات السالمي تصلح لأن تكون عناوين قصائد، أو مجموعات شعرية مثل نساء البساتين، الاشتياق إلى الجارة، روائح ماري كلير، متاهة الرمل. هذا مع الإشارة إلى أن العنوان لا يعكس، بالضرورة، مضمون الرواية.
وتصلح كتابة السالمي كنموذج للدراسة، بوصفه كاتبا يعيش في ذات الوقت داخل ثقافتين ولغتين على قدر كبير من الثراء والإغراء، وليس من الصعب في هذه الحالة تحقيق قدر من التوازن، أو الخروج بخلطة جديدة. ويصل الإغراء أحيانا إلى السباحة داخل بحر واحد، والسفر في مده وجزره. فالعربية هي اللغة الأم التي درسها السالمي منذ الصغر وبرع فيها، وهذا ما قاده إلى التخصص فيها والحصول على شهادة الأستاذية والتميز، ولذا فهو يقوم بتدريسها في الثانويات الفرنسية. أما الفرنسية فهي لغته الثانية التي درسها منذ الصغر، وصارت رفيقة حياته منذ أن أقام في باريس منذ العام 1985، وهي تشكل بالنسبة للكاتب قيمة مضافة قل نظيرها، كونها لغة كتابة وأسلوبية عالية، ولغة روائع شعرية وفلسفية وروائية وفنون..إلخ. ويبدو نص السالمي الروائي منخرطا في هذا الواقع ومنبها بقوة إلى تفاصيل الزمان والمكان الثقافي، ولكن من دون أي زخرفة، حتى يبدو المكان بلحمه العاري تماما.
موضوعات السالمي عربية بامتياز، بل تونسية، وكأنه لم يغادر مسقط الرأس في ريف مدينة القيروان التونسية، ومن يقرأ أعماله يجد أنه يتوجه، قبل كل شيء، إلى قارئ عربي، وما يهمه هو هذا القارئ، وهذا ما يفسر، ويفك لغز السر في لعبة السالمي الروائي الذي يشتغل على ثيمة واحدة تتطور من رواية إلى أخرى، وفي كل رواية يتناول زاوية مختلفة، ولكنها تتقاطع كلها في بيئة واحدة في حركة ذهاب وإياب بين مكانين، السابق والراهن، رواية “جبل العنز” تتقاطع من حيث الموضوع مع روايتي “عشاق بيّه” و”بكارة”، وأحداث الروايات الثلاث تدور في الريف التونسي، وتلتقي في حركة إياب مع رواية “روائح ماري كلير” التي تجري أحداثها في باريس.
تشكل العناوين ذات الصلة النسائية أكثر من نصف نتاج السالمي الروائي (عشّاق بيَّة، روائح ماري كلير، نساء البساتين، عواطف وزوّارها، بكارة، الاشتياق إلى الجارة)، ما يعكس موقفا صريحا من جانب الكاتب تجاه المرأة، يتجاوز الانحياز لها، إلى الاحتفاء بحضورها في الحياة، ومنحها فرصة لتظهر بوجهها الصحيح، وليس كما ينظر إليها الرجل الشرقي، مثلما هو الأمر في روايته الأخيرة “الاشتياق إلى الجارة” التي تقوم على قصة حب بين استاذ جامعي تونسي وخادمة تونسية يسكنان ذات البناية في باريس، يسقط فيها الاستاذ المثقف الفرانكوفوني في امتحان علاقة الحب مع الخادمة، التي تظهر أنها على احتكاك أكثر بالواقع من الأستاذ الجامعي المتزوج من فرنسية. وبلا تردد أو مراعاة للتابو يدخل السالمي في تفاصيل الشخصيات النسائية التي يقدمها في أعماله. وهذه مسألة على قدر كبير من الأهمية، يحتاج تناولها، على نحو موسع، إلى دراسة خاصة. وتطرح هذه الرواية من ناحية أخرى علاقة المثقف العربي المهاجر بالثقافة الأخرى، ومدى تمثله قيمها، وما يولده اختلاف الحضارات من صدمة سلبية أو إيجابية. وما يستحق التنويه في الختام هو أن كتابة السالمي لم تقع في مرض التنظير السياسي، رغم أن بعض أعماله اقتربت كثيرا من مقاربة الأوضاع السياسية في تونس قبل الثورة كما هو الحال في رواية “نساء البساتين” الصادرة في العام 2010، واعتبرها بعض النقاد تستشرف الثورة التي أطاحت نظام الديكتاتور زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني العام 2011.
المدن