الناس

“الميكروباصات” منازل للسوريين: بأربعة دواليب وذلٍّ كثير/ مناهل السهوي

يمضي السوريون ساعات طويلة من نهارهم في “السرافيس” أو بانتظارها، ولأن المنازل أغلى ما يملك الإنسان، بات البعض يدخل من شبابيكها، متحايلاً على التزاحم أمام الباب، يُدْخِل جسده في الشباك الخلفي ويدفع بنفسه حتى يصبح في الداخل، الداخل الآمن الذي يعني سقفاً ومنزلاً وطعاماً بأقل سعر ممكن.

نحنُ لا نختارُ منازلنا، نولد مصادفة في منزل صغير أو متواضع أو في قصر كبير. أفكر بذلك بينما يأتي سرفيس “ميكروباص” من بعيد، يركض الناس من حولي وأقفُ جانباً، لا مكان لي، ولا أفضّل التزاحم حتى إن كلفني ذلك، صعود سيارة أجرة ودفع مبلغ كبير.

الفتيات إلى الخلف

أحد أكثر المشاهد حزناً في دمشق هو تزاحم الناس حين وصول الميكروباص وهي في معظمها آليات قديمة جداً ومتهالكة. يعجز من يودُّ النزول عند المحطة عن تخطي الباب بسبب أولئك الذين يودون الصعود، تبدأ الشتائم، يطلب الركاب في الداخل مِنْ الذين في الخارج إفساح المجال لهم، تعلو الأصوات وفي كلّ مرة يتكرر المشهد ذاته، مشهدُ ذلّ مدته بضع دقائق.

يمضي السرفيس المحشو بالبشر الحزينين الذي نسميه مجازاً “قطرميز مكدوس”، دلالةً على تراص الأجساد، أما أنا وبعض الأشخاص نستمر في الانتظار على جانب الطريق. من يبقى برفقتي غالباً هم كبار السن أو النساء وأطفالهن الذين لا يستطيعون التزاحم، وأنا معهم نشكّل الفئات الأكثر ضعفاً لركوب الميكروباص، بعد زمن يأتي واحد آخر، ألمح الكرسي جانب السائق فارغاً، أسارع الخطى وأصعد متمنيةً ألا يكون السائقُ متحفظاً، ففي مرة أجبر سائق فتاتين على النزول من جانبه، كان متديناً وقال إن جلوس فتاة في مقدمة السرفيس حرام!

التمييز ضد النساء يظهر حتى حين نعلم ألّا أماكن متوافرة وتكلفة خسارة مقعد قد تعني ساعة انتظار إضافية تحت الشمس. يتحول الله إلى نهي عن الجلوس قرب السائق ورضا بأن تقف فتاتين ساعة إضافية تحت الشمس الحارقة.

لدينا نحن الفتيات معاركنا الإضافية عند انتظار “الميكروباص” أو ركوبه، يجب أن نحذر الأيدي، لسبب ما حين تصرخ فتاة في وجه شاب تحرش بها، لا يتدخل أحد من الركاب إلّا في مرات قليلة جداً، يغدو الركاب صمّاً كما لو أنهم في مدينة أخرى، وبدل أن ينزل المتحرش من السرفيس تنزل الضحية.

الركوب قرب السائق يعني امتيازات إضافية، إلى الجلوس المريح ومراقبة الطريق من الواجهة الواسعة، فلن تضطر لإفساح المجال كل خمس دقائق لينزل راكب يجلس خلفك، أو لن تضطر للجلوس على الكرسي الجانبي، وهو كرسي وضعه السائقون كإضافة مربحة لكنها غير مريحة على الإطلاق، لكن الكرسي الإضافي يعني ثلاثة أو أربعة ركاب إضافيين للسائق كما يعني ثلاث فرص إضافية للمنتظرين.

أعداء وعائلات في “السرفيس”

وعلى رغم أن الركاب قد يتجاهلون استغاثة فتاة تعرضت للتحرش أو يكتفون بمشاهدة الحدث العجيب، إلا أنهم يتحولون أحياناً إلى عائلة، يتبادلون أطراف الحديث على مقاعدهم الملتصقة بأجسادهم لشدّة الحرّ. في السابق كان البعض يمنح أحد الركاب رغيف خبز يسدّ به جوعه، لكن هذه العادة اندثرت مع تقنين الخبز. بات الناس يشدّون ربطات الخبز إلى أحضانهم بقوة أكبر، فرغيفٌ ناقص يعني خسارة فرد وجبته لهذا اليوم، يتبادلون العملة المهترئة، يجمعها أحدهم، يعدّها ويمررها للسائق، الذي قد يصرخ بغضب: “مين ما دفع؟” وعندما لا يجيب أحد، يحدد أكثر: “في واحد ما دفع”. لسبب ما تحوّل معظم السائقين إلى نماذج بشرية غاضبة وحانقة، أدرك كيف تتحول أي سلطة صغيرة في هذا البلد إلى وسيلة للسيطرة والصراخ، فشعب “السرفيس” مرهق ولا يريد إلّا الوصول إلى المنزل وخلع ثيابه النتنة.

لكن أيضاً قد يتحول الركاب إلى أعداء، يودّون إفراغ حنقهم في الآخرين وكأنهم سبب هذا الذل، فلا يجوز التذمر من ركوب “السرفيس”، يجب ألا تشكو ضيق المكان أو عدم راحة الكراسي أو الحرّ الخانق مع روائح الأجساد النتنة. في مرة اشتكى عجوز ثمانيني من ضيق الكرسي الذي دفعه إلى طيّ قدميه وامالتهما جانباً، ما سبب له ألماً في ظهره، ولنسيان ألم ظهره راح يستذكر أيام شبابه حين كانوا يصعدون على ظهور الحمير، متحسراً على أيام الجلوس بظهر مستقيم وقدمين مسترخيتين، فاندفع راكب آخر وقال له: “خود كنت تكسي وبلا هالنق”، صمت العجوز بانكسار ونزل الشاب اللئيم، كان قد انتظر محطة نزوله ليرمي جملته، فلم نملك الفرصة نحن الركّاب الآخرين للرد عليه.

يمضي السوريون ساعات طويلة من نهارهم في “السرافيس” أو بانتظارها، ولأن المنازل أغلى ما يملك الإنسان، بات البعض يدخل من شبابيكها، متحايلاً على التزاحم أمام الباب، يُدْخِل جسده في الشباك الخلفي ويدفع بنفسه حتى يصبح في الداخل، الداخل الآمن الذي يعني سقفاً ومنزلاً وطعاماً بأقل سعر ممكن.

احنِ رأسكِ أكثر

في الحقيقة أستطيع ركوب سيارة أجرة، وهذا يكلّفني ما يعادل نصف راتب موظف في الأسبوع، لذلك أشعر بالخجل وأنتظر الحافلة، قد يبدو شعوري بالذنب في غير مكانه لكن العيش هنا يدفعك للخجل والشعور بالذنب حتى إذا ضحكت أو شربت فنجان قهوة لذيذاً في الصباح. في كلّ الأحوال وجدتُ طريقة أخرى للتخفيف من عقدة الذنب المرافقة لصعود سيارات الأجرة، وهي دعوة أحد الواقفين من كبار السن أو الفتيات للصعود مجاناً لو كان طريقنا مشتركاً، وهكذا بتُّ أمضي دقائق الانتظار بسؤال من حولي عن وجهاتهم. أفكّر دوماً حين مرور السيارات الخاصة الفارغة، لم لا يفكر أصحابها بالوقوف واصطحاب من يشاركونهم الطريق؟! لا بد أنهم يستغربون مشهد عشرات المنتظرين وهم يفترشون الطرق حتى منتصفها غير أبهين بالسيارات المسرعة. إذا امتلكتُ سيارة يوماً سأفعل ذلك بالتأكيد. المرة الوحيدة التي أوقف أحدهم سيارته كانت امرأة صاحت: “من طريقه إلى جرمانا؟” وهكذا صعد أربع ركاب معها، إنها عاطفة النساء حين يصبحن أمهات الواقفين على جوانب الطرق.

الانتظار لركوب الحافلة له تبعات قد تخسر بسببها هاتفك الذي لن تستطيع شراء غيره بسهولة، ينتشر النشالون بين التجمعات المكتظة، حيث ينسى المرهقون للحظة حقائبهم بسبب التدافع، لحظة تكفي لمدّ يد غريبة وسحب الهاتف أو محفظة المال من الحقيبة.

التبعات تعني أيضاً اصطدام رأسك بسقف “السرفيس” المنخفض، يجب أن تحني ظهرك بما يكفي عند الصعود أو النزول، غالباً ما أتلقى ضرباتٍ مؤلمة لأنني لم أتعلم حتى الآن خفض رأسي بما يكفي أثناء الصعود. أحد أكثر المرات إيلاماً كانت حين صعدت مسرعة من دون حني رأسي، فارتطم بقوة بحافة الباب، شهق جميع الركاب فالضربة كانت قوية ولها صوت واضح. حين جلست نظروا نحوي منتظرين أن يغمى عليّ أو ينزف رأسي في أحسن الأحوال، لم يحصل شيء، رافقتني نظرات الشفقة طوال الطريق وأنا أضع يدي على رأسي وصوت طنين داخله، عند نزولي حرص الجميع على تحذيري: “نزلي راسك”.

بين فتاة تُمنع من الجلوس قرب السائق فيما لا يتحرك أحد إذا تعرضت للتحرش، بين طرق حارة ووجوه تأكلها الشمس صيفاً والبرد شتاء، يتعلم السوريون تحويل “السرافيس” إلى منازل موقتة، منازل بأربعة دواليب وذُلّ كبير.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى