بين الموت وشرف الموت في سورية/ سوسن جميل حسن
على الرغم من مأساوية ما نسمع ونقرأ عن عيش السوريين المرير المهين، وعلى الرغم من تراجيدية أحداث وحوادث كثيرة، إلّا أن هذه الحكاية أبكتني. حكاية من واقع أكثر من سوريالي، أكثر من تراجيدي، أكبر من أي وصف، فما الذي يحصل لهذا الشعب ومن أين يستمد قدرته على الاحتمال والتكيّف؟ صار أقصى ما ينتظر الفرد السوري، ويعمّر يومه ووقته وعمره الذي يمرّ بلا حساب، رسالة قصيرة تعلمه عن دوره بالخبز الذي تردّى وضعه وغلا ثمنه، أو دوره في أسطوانة غاز الطبخ، أو ينتظر وصل التيار الكهربائي ساعة بين فترات القطع التي تتراوح بين الخمس والست ساعات، أو يهدر نهاره على محطات الوقود، وإذا كان يعيش وأسرته بواسطة سيارة الأجرة فقد خسر يوم عمل أو أكثر.
تزداد حالات حوادث السير الفاجعة باطراد، بسبب عدم قدرة مالكي السيارات على صيانتها أو تبديل القطع المستهلكة منها، وبسبب شبكة الطرقات المتهاوية التي تحتاج صيانة، نسمع بالحرائق التي تتكرّر بسبب اهتراء الشبكة العامة وزيادة الضغط عليها في فترات وصل التيار، نسمع عن أبنيةٍ تنهار بسبب سوء التنفيذ أو الفساد، عن جرائم قتل واغتصاب، عن سرقات، عن اتجار بالممنوعات، عن رواج الحشيش والمخدّرات بين أوساط الشباب العاطل عن العمل والأمل، عن عكوف الشباب والشابات عن الزواج بسبب انعدام القدرة على فتح بيوت وتجهيزها وتحمل أعباء الحياة. .. حكايات لا تعد ولا تحصى، يقابلها فجور فوق الوصف من طبقةٍ تنمو كالطحالب على وجه الحياة الموّارة بكل أشكال الذل والمهانة للغالبية الساحقة من الشعب، أثرياء الحرب الذين باعوا واشتروا بدم الأبرياء ولقمتهم ومستقبل أبنائهم، ما الذي ينتظر جيل الشباب الباقي في البلاد، بعد أن يتمّ مراحله التعليمية في ظروف كالتي يعيشون فيها، ولم يعد هناك فرص لخيارات أخرى؟
رفعت البنوك سقف الاقتراض العقاري، صار سقفه خمسين مليون ليرة، لو قسّمنا المبلغ على أشهر القرض طويل الأمد، أي 15 عامًا، وبلا حساب الفائدة سيكون القسط الشهري 288 ألف ليرة، في الوقت الذي صار فيه الحد الأدنى للرواتب والأجور أكثر من سبعين ألف بقليل، هذا قبل اقتطاع الحسومات من ضرائب وخزانة تقاعد وغيرها، فإذا كان الزوجان يعملان لن يكفي دخلهما معًا لإيفاء القرض حتى من دون فوائد، فبأي تضليل يعيش هذا الشعب؟
أعلن منذ أيام عن تشكيل حزب جديد في المنطقة الجنوبية، السويداء تحديدًا، حزب اللواء السوري، مرتبط بفصيل عسكري جديد يُدعى “قوة مكافحة الإرهاب”، ما نجم عنه انقسام في الشارع بين مؤيد بدافع حاجة المنطقة إلى حماية ذاتية، بعد سنوات من الانفلات الأمني، ومناهض تخوّفًا من أن يكون خطوة في طريق التقسيم. أعلن الحزب عن أهدافه، ومنها: العمل على الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديموقراطي، والانتقال السلمي للسلطات، وأول أهدافه التأكيد على وحدة الأراضي السورية.
كل الأطراف المسيطرة على القرار في مناطقها، وكل الأطراف المنهمكة في ترتيب الشأن السوري، والراعية مفاوضات أستانة، وكل القوى العالمية والقرارات الدولية تجاهر بالتأكيد على وحدة الأراضي السورية، بينما الواقع يشير إلى تكريس التقسيم، ومزيد من المشاريع الطامحة على الأقل بإدارة ذاتية مرحلية، إذ ليس هناك ما يشير إلى استراتيجية تتفق عليها هذه الأطراف، يمكن الوثوق بأنها تمشي في الطريق الذي يتمناه السوريون، وسوف تصل، في النهاية، إلى تحقيق هذا الهدف.
سورية المقسّمة إلى قطاعات، لكل قطاع سلطته المتحكّمة في حياة التابعين لسيطرتها، ولها أجندتها ومشاريعها، وغالبية الموجودين في تلك المناطق المختلفة يعانون من المشكلات نفسها وضيق العيش نفسه وآليات الاستبداد المتشابهة، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، فأين هي وحدة الأراضي السورية؟ وما الذي يجعل الشعب يئنّ تحت نير واقعه المجحف الظالم ويحتمل كل مآسيه؟ هل المشكلة متأصّلة في الشعب، حدّ أن قبوله بالاستبداد صار هو الخيار الوحيد؟ ما الذي يجعل الملايين من الناس يحتملون أوضاعهم المتردّية إلى هذا الحدّ، من دون أن يمتلكوا القدرة على رفع الصوت؟ هي حياة لا تشبه الحياة، بل هي موتٌ بطيء، قتلٌ غير معلن، قتل مستقبل كامل، فأي شعبٍ يمكن أن ينهض ويبني وطنه بأجيال تفقد كل يوم زيادةً في عمر الحرب والحرمان من كل شيء، القدرة على التعلم وتطوير مهاراتها؟ أي ابتكار لمستقبلهم سيحققون؟ لا أمل لدى غالبية هؤلاء الشباب في مستقبلٍ يعوّلون عليه، البلاد ليست لهم، البلاد صارت لمن يملك السلاح والقوة، وامتلاك السلاح والقوة يحتاج إلى غطاء داعم، يمدّ ويموّل، فمن أين للفصائل العسكرية أن تنهض بالمهمة من دون تمويل؟
لم يبقَ من خياراتٍ أمام الشباب سوى الالتحاق بالفصائل لصالح جهةٍ ما كي يعيشوا، هذا ليس ارتزاقٌا، على الرغم من أن المرتزق هو من يمتهن القتال والقتل لصالح جهة تدفع له، لكن هؤلاء الشباب مرهونون بالظرف، بالحالة السورية العصيّة، بقصور الشعب وممثليه وتقصيرهما عن إيجاد صيغة مشتركة وتوحيد الصفوف للوصول إليها، فيما لو كانوا فعلًا مؤمنين بها، جيل معتقل في الأنساق التي يفرضها أسياد القرار ومن يساندونهم، بين مناطق النظام ومناطق المعارضة، وتلك المناطق الموّارة المضطربة التي تنتظر وقت إعلان أجندتها.
هذا الشكل من اقتصاد الحرب يمارس في سورية، تهديد الحياة وتحدّي لقمة العيش والفرص النادرة لتأمينها يدفع بالشباب السوري إلى حمل السلاح لصالح كل الجهات، الفصائل المقاتلة الرديفة حمل عناصرها السلاح لأجل المال بالدرجة الأولى، ثم التجييش العقائدي أو الطائفي بالدرجة الثانية، وربما الخامسة والسادسة، وربما ليست في وارد كثيرين. الحياة هي الهدف، البقاء على قيد الحياة وتأمين لقمتها في ظل انعدام فرص أخرى. وفي المقابل، هناك من يشتري، بلى هناك من يشتري ويدفع، وليس أمام الغالبية إلا ان ترضى وتقتنع.
عندما تستنكر أمام أحد خنوع الناس وقبولهم بحياتهم المُهينة، يأتيك الردّ على غالبية الأفواه: “ما متنا بس شفنا اللي ماتوا”. لذلك قد يبدو مفهومًا أن يجنح الشباب إلى جهة الفصائل المقاتلة بحمل سلاح مدفوع الأجر، ربما يرضي نزعةً غريرة، إنهم يموتون بشرف طالما امتلكوا الإرادة، إرادة أن يحملوا السلاح من دون عناء التفكير بالمبرّرات والنتائج، وهذا أفضل من موتهم خانعين لظروف القحط الذي يعيشون فيه.
دوّن الكاتب السوري، نبيل الملحم، على صفحته في “فيسبوك”: عصفور عنيد قرّر، من دون العصافير، الامتناع عن الهجرة إلى الجنوب في فصل الشتاء، ولكن سرعان ما أصبح الطقس باردًا جدًا؛ الأمر الذي اجبره على الطيران منفردًا صوب الجنوب. بعد فترة وجيزة من التحليق، أخذ الجليد يتجمّع في جناحيه فسقط في فناء حظيرة ثيران، وهو على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة من شدّة البرد. وفي هذه الأثناء، توقفت بقرة بجواره، وأفرغت ما في جوفها على الطائر الصغير.. ظنَّ العصفور أنها النهاية. ولكن سخونة روث البقرة أذابت الجليد من على جناحيه، فالتقط أنفاسه، ومنحه الشعور بالدفء سعادة بالغة إلى درجة أخذ معها يزقزق وهو في كومة الروث. صوت الزقزقة هذا لفت انتباه قطة ضالّة كانت في الجوار فذهبت لاستطلاع الأمر.. أزاحت الروث ولدهشتها وجدت العصفور ما زال يزقزق فرحًا .. فالتهمته على الفور!
يميتك الجليد أو ينقذك الروث لتلتهمك القطط فيما بعد؟!
ـ يا للخلاص.
العربي الجديد