ثلاث قواعد أساسية لكتابة رواية ناجحة/ أبو بكر العيادي
القاعدة العامة هي أن الإبداع خلق على غير مثال، ولكن هل يعني ذلك أن الإبداع فطري لا يحتاج إلى دربة ومراس، أم أن ثمة شروطا لا بد من توافرها، وقواعد لا غنى لكل مَن تحدثه نفسه بصياغة نصّ من الإلمام بها قبل خوض التجربة؟ وهل ينبغي المرور بورش الكتابة أم أن الحلّ في ما روته الكتب القديمة عن أبي نواس حين التمس النصح من خلف الأحمر، أن يقرأ ليملأ ذاكرته بما تقدّم ثمّ يقبل على الإبداع بعد أن يكون قد محا من ذهنه كل ما ترسّب؟
كتاب الرواية المبتدئون، أولئك الذين يريدون الإمساك بقواعد هذا الجنس قبل خوض غماره، لا أولئك الذين يدخلونه من باب الموضة ورغبة الظهور دون أن يكون في رصيدهم سطر سردي واحد، غالبا ما يتساءلون هل توجد مبادئ فنية عامة ينبغي احترامها لكتابة عمل روائي؟
أغلب النقاد يجيبون بالإيجاب، ولكنهم يؤكدون أن تلك المبادئ من التجريد ما لا يمكن أن يجد فيها الكاتب المبتدئ ضالته. ثم إنها ليست مطلقة، بل نسبية، فما من قاعدة يقترحها هذا الناقد أو ذاك إلا ويظهر ابتكار جديد يتجاوزها، ما يعطي الجنس الروائي هذه المرونة التي جعلته يفرض هيمنته على الأجناس الأخرى.
الدربة على الكتابة
لئن وُجدت قواعد وصيغ للأدب الذي وضع للاستهلاك، شأن الأعمال التي توصف بـ”روايات محطة القطار”، أو تلك التي تنشر في الصحافة على حلقات، فإنها لا تتوافر في الأدب الراقي، وإن وجدت فالكاتب الموهوب لا يلتزم بها، لأن دافعَه إلى الكتابة حساسيته وغريزته وذائقته، فضلا عن إيمانه بأن الإبداع في مفهومه خلقٌ على غير مثال.
التمرّس بالفن السردي وتقنياته يصبح لدى المحترف طبيعة ثانية، مثل عازف البيانو، ولكن لا مناص للمبتدئ من تملّك القواعد الأساسية (لوحة للفنان فاتح المدرس)
ولكن ذلك لا يعني أن الأمر موكول للعفوية وحدها، بل ثمة عدد من القواعد الأساسية التي ينبغي للكاتب أن يلمّ بها كي يتمرّس بفنّه. فمن النادر أن نجد كاتبا لم يُخضع نفسه للدربة قبل المراس، حتى الأميركي جاك لندن، أفضل مثال للكاتب العصاميّ، استفاد كثيرا من أعمال سابقيه ويومياتهم قبل أن يخوض التجربة.
كذلك إرنست همنغواي، الذي كان ينبذ التدرّب الجامعي، وينصح كل مبتدئ قائلا “عليك فقط أن تذهب بعيدا وتكتب”، فقد استفاد هو أيضا من ملاحظات الروائي شيروود أندرسن والشاعرة غرترود شتاين ونصائحهما.
والثابت ألا أحد من كبار الكتاب جلس خلف مكتبه كي يعبّر عن مشاعره، بل إن أغلبهم حاول أن يسرد هذه الحكاية أو تلك، مازجا هذا الشكل بشكل آخر كي يحدث عملا مبتكرا ذا تأثير مستجدّ.
أما التعبير الذاتي، أيّا ما تكن المتعة التي يوفّرها، فيأتي عرضا، ولو في شكل دفق يجتاح صاحبه ولا يملك لمقاومته حيلة.
كيف يتعلم المبتدئ الكتابة إذن؟
يقول الأميركي جون غاردنر “على أي حال، ليس بمزاولة دراسة لن تفيده إلا في تحسين كتابته”، فالأهم لديه هو المراس، ويقوم على شرطين أساسيين، سعة القراءة، وتواصل الكتابة.
فما يميز الكاتب المحترف عن الكاتب العَرَضيّ، المناسباتي، هو أن التمرّس بالفن السردي وتقنياته يصبح لدى المحترف طبيعة ثانية، مثل عازف البيانو، ولكن لا مناص للمبتدئ من تملّك القواعد الأساسية، وأولها أن يكون في العمل شخصية في حال وضعيات متحركة، لأن العقدة تقع في تفعيل القوى الكامنة في الشخصية أو الوضعية حسب أرسطو، الذي يحدد في الشخصية والعقدة والحدث ثالوث العمل الدرامي، قبل الأسلوب، وهذا ما نجده في أهم الأعمال باستثناء المحاولات التجريبية في ما عرف بـ”الميتاسرد”، حيث تخلى أصحاب تلك التجارب عن كل قاعدة لابتكار مقاربة غير مسبوقة كـ”الرواية الجديدة” في فرنسا مثلا.
معرفة الكاتب بالموضوع الذي يروم معالجته، ينبغي أن تكون عميقة فهي لا تقلّ أهمّية عن رؤيته للعالم
والقاعدة الثانية، التي غالبا ما يرددها النقاد، هي “أظْهِرْ ولا تُخبر” أي أن يحوّل الكاتب كل خبر إلى فعل أو حوار، فبدل القول مثلا إن فلانا مصاب بداء السّكّري، يمكن أن نصفه وهو متردّد أمام بائع مثلّجات، يُقبل تارة ويرتدّ تارة، وما يكاد يشتري مثلجة، حتى تباغته ابنته أو زوجته، فيغضّ البصر مثل طفل ضُبط متلبّسا بزلّة، ويتمتم “اللعنة على هذا الدّاء! لقد حرمني من كلّ حلو”.
في “فن التخييل” ينبّه جون غاردنر إلى ثلاثة أخطاء كبرى، هي استدرار العطف بدل البحث عن جعل الموضوع مؤثرا بطريقة غير مباشرة؛ تناول موضوع حساس أو ساخن وحتى حارق ببرود أو تعال أو استخفاف؛ التكلّف في اللغة والأسلوب حرصا من الكاتب على الظهور بمظهر المختلف عن الآخرين، والحال أن الأسلوب، كما يقول ديفيد هار، هو أن يعرف الكاتب كيف يفسح المجال للمرور، بدل الوقوف في وسط الطريق.
أضف إلى ذلك أن معرفة الكاتب بالموضوع الذي يروم معالجته ينبغي أن تكون عميقة، فهي لا تقلّ أهمّية عن رؤيته للعالم، ولا عن تمرّسه بالفن الروائيّ.
وكم من كاتب شهير لم يمنعه نبوغه من الوقوع في المحظور. من ذلك مثلا أن جون شتاينبيك في “عناقيد الغضب” كان يعرف كل شيء عن “الأوكيز” والمكابدات التي عانوها في رحلتهم إلى كاليفورنيا بحثا عن عمل، ولكنه لم يكن يعرف شيئا عن أصحاب المزارع الكاليفورنيين الذين يشغّلونهم ويستغلّونهم، ولم يُبد اهتماما بالأسباب التي تدفعهم إلى ذلك السلوك، ما جعل الرواية في نظر غاردنر ميلودراما مملّة يتشابك فيها الخير والشرّ بطريقة كاريكاتورية، وغير مقنعة.
الانسيابية والمعرفة
أمّا القاعدة الثالثة، وهي أهمّ ما ينبغي الحرص عليه، فتتمثل في وجوب خلق “حلم تخييلي” في ذهن القارئ، والشرط أن يجعله الكاتب مسترسلا لا يقطعه تكلّف في الأسلوب، أو تدخّل غير مبرر، أو خلل في بناء الشخصيات أو خطأ في الوصف، والشرط في الوصف ألا يعمد الكاتب إلى وصف مكان ما، بل أن يلجأ إلى شخصية تصف ذلك المكان بمزاج ما، ومشاعر مخصوصة تجعل القارئ ينظر إلى العالم من خلالها.
ولا بدّ عندئذ من استغلال القوة الرمزية للصور واكتشاف مدلول الأشياء والتعبير عنه. بذلك يستسلم له القارئ بروحه ووجدانه، كما يستسلم المشاهد لشريط سينمائي بارع، فلو ينقطع الانسياب تتوقّف الحكاية، ويغادر القارئ حلمه، ليشرد بفكره إلى أشياء أخرى.
ولعل أهمّ ما يكتب النجاحَ لعمل روائي حرصُ منشئه على الحفر عميقا للوصول إلى المعنى الجوهري للأحداث، من خلال تنظيم تقليد الواقع الذي يدور حول مسألة أو ثيمة توحي بها مشكلةُ الشخصية، لأن الرواية ينبغي أن تكون لها علاقة متبادلة مع المسائل الميتافيزيقية، كما يقول جورج شتاينر.
وكان شتاينر يعتقد أنّ كل عمل فني عظيم يطرح بالضرورة مسألة علاقة الإنسان بالكون وبالذات الإلهية وتصوره للآخرة، وفي الأقل يثير أسئلة تتجاوزه.
فالرواية ليست وسيلة للترفيه والترويح عن النفس وإلهاء الإنسان عن مشاغله اليومية، بل هي أداة لتوسيع معارفه حول الناس والعالم، ومساعدته على فهم يقينياته أو وضعها موضع مساءلة، فضلا عن كونها تكشف له عن أخطائه وحدوده، وتعزز قيمه السامية وخصاله النبيلة.
الثابت ألا أحد من كبار الكتاب جلس خلف مكتبه كي يعبّر عن مشاعره، بل إن أغلبهم حاول أن يسرد هذه الحكاية أو تلك، مازجا هذا الشكل بشكل آخر كي يحدث عملا مبتكرا ذا تأثير مستجدّ.
كاتب تونسي
العرب