كتابة اليوميات.. عن ثقافة التلصص والوصاية/ رشا عمران
بدأت الكاتبة الأميركية أناييس نن (1903- 1977) بكتابة يومياتها منذ أن كانت في الحادية عشرة من عمرها، ولم تتوقف عن هذه العادة إلا قبيل وفاتها بوقت قصير، اي أنها استمرت ما يقارب الستين عامًا في كتابة تلك اليوميات المدهشة (جمعت يومياتها ونشرت في خمسة عشر جزءًا وصدرت على مراحل متفرقة). لم يوقفها عن ذلك اهتمامها بكتابة المقالات والقصص القصيرة والدراسات النقدية، والبحث عن مفهوم الإيروتيكا الذي كتبت فيه عدة كتب، وكأن تسجيل يومياتها كان هو المفتاح الأول لتأليف مجموعة كبيرة من الكتب المختلفة، إذ كانت تسجل في يومياتها كل شيء، كل ما يمر معها في حياتها، صداقات الطفولة والمراهقة والشباب، غرامياتها، أحلامها الجنسية، تجاربها، تفاصيل أيامها، علاجها النفسي، انتقالها إلى باريس وتفاصيل الحياة الثقافية في باريس، ثم عودتها إلى نيويورك، تفاصيل علاقتها المثيرة بهنري ميلر، زواجاتها التي شبهتها بـ(القفز البهلواني)، المرض (أصيبت بالسرطان وماتت به). كانت يومياتها بمثابة تأريخ وتوثيق لتلك المرحلة المهمة من التغيرات الثقافية والأدبية والفكرية والمجتمعية في أوروبا وأميركا، خصوصًا مع صعود النازية ثم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وما تركته من أثر على المجتمع الأوروبي، إذ جمعتها علاقات صداقة بأهم كتاب ومفكري أوروبا تلك المرحلة، وعاشت حياتها متنقلة بين أوروبا ونيويورك، وهي تسجل كل ما تصادفه في يومها، حتى أدق التفاصيل. ليست مبالغة أن يتم اعتبار تلك اليوميات بمثابة الوثائق على تلك المرحلة، إذ ثمة أحداث وتفاصيل لا تهم المؤرخين ولا يلتفتون لها، لكنها تساعد على فهم بنية الذهنية التي أنتجت كل ما نراه اليوم من تطور علمي وتكنولوجي وانقلاب في مفاهيم الجنسانية، والانقلاب في مفهوم العائلة الذي نتج عن حرية اختيار الهوية الجنسية.
لا تبتعد كثيرًا يوميات الشاعرة الأميركية سيليفيا بلاث عن منهج الكتابة الذي اعتمدته نن، سوى بأن بلاث انتحرت في أول ثلاثينيتها، بعد معاناة طويلة مع مرض الاكتئاب، فلم ترصد في يومياتها سوى أحداث مدة قصيرة من التاريخ الأميركي، لكنها قدمت فيها ما يشبه التقرير اليومي والدؤوب عن وضعها النفسي الاكتئابي، وعن حياتها الجنسية فترة المراهقة، وعن احتجازها لمدة في مصحة نفسية، عن مخاوفها وهواجسها وتغيراتها المزاجية الحادة التي تركت أثرها على مجمل حياتها وجعلتها تقدم على الإنتحار أكثر من مرة، كانت آخرها عام 1963 حين دخلت مطبخها في شقتها بلندن وأغلقته بالورق اللاصق، وفتحت أنبوبة الغاز واستنشقته بعمق ورحلت، تاركة خلفها طفليها من زوجها الشاعر البريطاني الشهير تيد هيوز الذي يأخذ ذكره حيزًا كبيرًا في يومياتها، والذي يعتبره البعض مسؤولًا عن رحيلها بسبب خياناته المتكررة لها.
أناييس نن وهنري ميلر
قبل أناييس نن وسيلفيا بلاث سجلت الكاتبة البريطانية الأشهر في عصرها فيرجينيا وولف (1882-1941) يومياتها في خمسة مجلدات حملت عنوان ( يوميات كاتبة)، عبارة عن سلسلة من اليوميات بدأتها عام 1915 لتنتهي منها عام 1941، وهو نفس العام الذي رحلت فيه منهية حياتها بالغرق في مياه النهر القريب، حين عبأت جيوب ثوبها بالحجارة ومشت في المياه بخطى ثابتة حتى غرقت، منهية بذلك تاريخًا طويلًا وحافلًا من الكتابة، رصدت أغلبه في يومياتها التي سجلت فيها كل لحظات حياتها: الكتب التي قرأتها، ما كانت تعانيه غي عملية الكتابة، الاكتئاب (مرض ثنائي القطب) الذي عانت منه طويلًا، محاولات انتحارها الأولى، علاقتها مع عائلتها، زواجها، صداقتها وعلاقتها العاطفية مع الشاعرة فيتا ساكفايل ويست، كيف ظهر اهتمامها بالنسوية، علاقتها مع كتاب ومفكري عصرها، باختصار وثقت في يومياتها لتاريخ ثقافي وفكري وسياسي واجتماعي شديد الأهمية عبر تدوينها لكل ما يمر في حياتها.
يحفل التاريخ الثقافي التدويني الغربي بكتب اليوميات، والتي تشكل مراجع مهمة للتاريخ الأدبي والفكري والسياسي والإجتماعي، تكشف الظروف المحيطة بالتغيرات المجتمعية والفكرية دون وصاية (تأريخية)، بل بتشاركية في صناعة تلك المتغيرات، وبعين شاهدة وناقدة وفاعلة في الوقت نفسه، وبسلاسة تدوينية وحرية متخففة تمامًا من المنهج العلمي الذي يلتزم به المؤرخون في كتاباتهم عن التاريخ، وغالبًا ما شكلت تلك اليوميات مرجعًا أساسيًا للمؤرخين لما فيها غنى وصدق وشمولية.
من المهم التنويه بأن كتابة اليوميات هي جزء من الثقافة المجتمعية الغربية، يبدأ الأطفال في المجتمعات الغربية بتدوين يومياتهم كنوع من الواجب (المدرسي)، حيث تعوّد كتابة اليوميات الأطفال على الصدق وعلى التعبير عن أنفسهم وعن مشاكلهم ومخاوفهم بحرية تامة، وتتيح لهم معرفة رغباتهم وإطلاقها للعلن دون خوف، وبالتالي تساعدهم في تحديد خياراتهم في الحياة لاحقا، وفي التخفف من الأسئلة (الوجودية) التي تدور في بال الطفل والمراهق، تلك الأسئلة حول الخلق والوجود والهوية والدين والرغبات الجنسية والشهوات، وكل الأسئلة التي تشكل في مجتمعاتنا محظورات يعاقب عليها المجتمع والقانون على السواء. فهل لهذا نادرًا ما نعثر على يوميات (حقيقية) لكاتب عربي؟! أقصد يوميات مدونة بالتاريخ والساعة وليس عملًا أدبيا على شكل رواية أو نص ما!
أحد العلاجات النفسية التي يعتمدها المحللون النفسيون العرب، هو الطلب من مرضاهم تسجيل يومياتهم، وكتابة كل ما يحدث معهم يومًا بيوم، يقولون إن كتابة اليوميات “تعزز صوت المرء الداخلي وتوسع الرؤية وتطلق ملكة الإبداع وتعطي معنى للحياة”، ويستندون في ذلك إلى خلو المجتمعات الغربية من الاضطرابات النفسية قياسًا بأمراض مجتمعاتنا، ويعزون ذلك إلى ثقافة (الجورنال الشخصي)، أي دفتر اليوميات الذي يملكه كل شخص؛ وبداهة أن المراهق في المجتمع الغربي لن يخشى أن يقع دفتر يومياته في يد أحد، لن يحاول أحد، حتى عائلته، الاطلاع على ما لا يريد هو الإفصاح عنه، وحتى لو حدث ذلك فلن يعاقبه أحد، ولن يسيء أحد تقييمه بناء على ما قرأه في يومياته. الأمر، كما أسلفنا، ثقافة مجتمعية لا تعرفها مجتمعاتنا التي تعتبر الأسئلة الوجودية والاحتلامات الجنسية الطفولية والمراهقة كفرًا ونشازًا وفجورًا، أو أقله عيبًا وعارًا، تخيلوا لو وقع دفتر يوميات مراهق في يد والد متدين أو مدرس في مدرسة حكومية أو غير حكومية؟! سوف ينال المراهق من العقاب والتأنيب ما يجعل من فكرة الكتابة كلها أمرًا محالًا، تخيلوا لو كان دفتر اليوميات لمراهقة أنثى!
قالت لي صديقة شاعرة ذات يوم: “نحن مظلومات في مجتمعاتنا، لا نستطيع الإفصاح عن تجاربنا حتى بالكتابة، ثمة قارئ متلصص ورقيب أخلاقي خلف ما نكتب، لن نستطيع التملص منه مهما حاولنا، ليس في الوقت المنظور على أية حال”. لم تكن صديقتي مخطئة في كلامها، نحن لا نملك ما يكفي من حرية لنعبر عن أنفسنا بشكل صحيح، لم يكن الكتاب العرب يومًا كذلك، هذا ما يجعل (اليوميات) شبه مفقودة في الثقافة العربية، ومفقودة تمامًا لدى الكاتبات العربيات حتى الرائدات منهن، حتى (يوميات طبيبة) لنوال السعداوي لا يمكن وضعه بمصاف يوميات أي من كاتبات الغرب، رغم أهمية ما دونته، فلقد أفقدت الرقابة المجتمعية- دينية وسياسية وأخلاقية- الثقافة العربية نوعًا أدبيًا بالغ الأهمية، كان يمكنه أن يكون صلة وصل قوية لحركة المجتمع بين الماضي والحاضر، قوية وصادقة وشاملة، تكشف سيرورة الحياة، بعيدًا عن إنتقائية المؤرخين العرب ووصايتهم الأخلاقية.
ضفة ثالثة