التذكّر كمقاومة إبداعية/ إنانا عثمان
“تاريخ حياة نهر: في الخامس من تموز/ يوليو، دخل نهر الفرات إلى المدرسة الجديدة ليتعلم كيف يقرأ، وكيف يكتب، وكيف يمارس الحب مع الحقول والأشجار بطريقة عصرية. وعلى باب المدرسة، نزع الرئيس حافظ الأسد عن الفرات عباءته الطينية، وقص له شعره الأشعث، وأظفاره الطويلة، وأعطاه قلماً، ودفتراً، وحبراً أخضر، ليكتب يومياته كنهر متحضر. في الخامس من تموز/ يوليو، ولد في سوريا إنسان الفرات؛ أي إنسان النصر. سجلوا عندكم هذا التاريخ”. هذا المقطع هو مشهد من فيلم “طوفان في بلاد البعث” (2003)، المحظور في سوريا، للمخرج الراحل عمر أميرلاي. مشهد تدور أحداثه في صف مدرسي يشبه، إلى حد التطابق، أي صف آخر في أية منطقة سورية في تلك الحقبة. نشاهد في هذه الصورة النموذجية رتابة، وقتامة، وجموداً، تتبدى في وجوه الطلبة ومعلميهم، وأجسادهم، وجدران مدرستهم، وأثاثها، على حد سواء. مدرسة أشبه ما تكون بسجن، مسيجة الشبابيك، موحشة الممرات، ومحكمة الرقابة، والتفتيش.
عرّى أميرلاي، بصرياً، البنية الإيديولوجية الرثة لحزب البعث الذي كان، في يوم ما، واعداً بالنسبة إليه. كما عرّى منظومة التعليم الأشبه بفرع، أو ذراع أمنية، لسلطة القمع، وأشدّ حامليها كفاءة وفاعلية. إنها منظومة تسخّر التدجين الأيديولوجي المشبع بالإذعان، والترهيب، والخنوع، وتحطيم الذاتية، والفردانية، لتحويل المجتمع إلى قطيع خاضع لمتطلبات التحكم، وديمومة الاستبداد. إنه ترويض قائم على الخوف، والببغائية، والاستكانة، يشبه ترويض حافظ الأسد “الحضاري” لنهر الفرات، ببناء سد أدى إلى محو قرى كاملة في حوضه، وتهجير سكانها، منها قرية الماشي التي تدور فيها أحداث الفيلم. نسمع طلابها في هذا المشهد يُلقنون، ويرددون، أبهى الأوصاف والصور، في مديح انتصار مُتخيلّ بهذا الإنجاز العصري المزعوم. هو تناقض جذري بين المُلقن والمُعاش، وبين الصورة والواقع.
حرّضني هذا المشهد على البحث، ومحاولة فهم هذا التناقض المتجسّد في تجربة المدرسة، والذي ينعكس أيضاً على العلاقة مع الذات. أردت البحث عن صوت الذاتي الذي استعمره صوت الحاكم الواحد، وأنطقه خطابَه الإيديولوجي التغييبي الأوحد. فلم تكن حناجر الطلبة والطالبات في سوريا، سوى امتداد لحنجرة النظام المالك، والموجه الحصري للفضاء العام، والإنتاج المعرفي. أجريت في مسعاي هذا، عشرات المقابلات مع سوريات وسوريين بين عامي 2018 و2020، يجمعهم ويجمعهن خوضهم لتجربة التعليم المدرسي السوري قبل عام 2011، والانتماء إلى جيل الثورة السورية، وكذلك واقع اللجوء في بلد إقامتهم ألمانيا.
تجاوز وصف المدرسة وتجربتها، في سردياتهم وسردياتهن، تمثيلها الرسمي، ومعناها الوظيفي في خدمة سيطرة النظام، كحظيرة للانضباط، والتعبئة الإيديولوجية، فأخذت بتمثيلها الذاتي، والمجتمعي، وظائف، ومعانيَ، ومحرضاتٍ جدلية أخرى.
لم تتوقف المدرسة عن كونها مكاناً يلقنون فيه معرفة موجهة، ومؤدلجة، لا تعكس واقع حياتهم المعيش، وواقع المجتمع السوري بتعدديته واختلافاته فحسب، بل كانت في الوقت ذاته أولى مساحات الاكتشاف والتلاقي مع “الآخر”، بالمعنى القومي، والطائفي، والطبقي، والمناطقي.
كان الجديد واللافت بالنسبة إلي، هو التركيز، في سرد هؤلاء لذاكرة المدرسة، على ما أطلق عليه اسم المعرفة غير الرسمية، أو غير المصرّح بها، في الفضاء العام، والخطاب الرسمي، والمتجسدة بالفساد، والرشوة، والمحسوبيات، والتمييز الطائفي، والطبقي، والقومي. معرفة أتاحت لهم تجربة المدرسة اكتسابها. معرفة نوعية، ومفتاحية، في العلاقة اليومية مع السلطة والمجتمع، فهي ملامسة وإدراك غير معلنين للتناقض الهيكلي، بين ما يتم تلقينه “رسمياً” في كتب القومية والتاريخ عن “إنجازات البعث”، وفي شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية من جهة، وبين ما يعيشونه ويواجهونه داخل حيز المدرسة وخارجها، من جهة أخرى.
كان سردهم لعلاقتهم وعلاقتهن بهذه المعرفة النوعية، وكيفية توظيفهم لها في سبيل مكتسبات شخصية، أو تحقيق مصالح على مستوى اليوميات المدرسية، سرداً مفعماً بالمتعة والفخر. نتحدث عن مكتسبات مثل رشوة الموجّه من أجل مغادرة المدرسة أثناء الاستراحات من دون عقاب، أو التحدث بلهجة المعلم أو المعلمة نفسها، لتلقّي معاملة خاصّة، أو استخدام أدبيات البعث وشعاراته، بطريقة دعائية مسرحية لترهيب المعلم وتخويفه. إذ أدركوا، كطلاب، أن الخضوع والخوف قاسم يجمعهم مع معلميهم، في العلاقة مع سطوة إيديولوجيا النظام.
وفي حين ركزت المنهجية التعليمية السورية على إلغاء الذاتية والفردانية، وإنتاج أجيال ببغائية من طلائع البعث وشبيبته، موحدي وموحدات الزي والفكر، فقد تمحورت ذكريات من حاورتهم حول التمسك والتأكيد على حضور هذه الذاتية والفردانية المتمثلة في قصص تمرّد يومي ضد الطاعة العمياء، وفي آليات التحايل والتناور على التحكم والسيطرة المطلقة، وذلك عبر تطويع المسكوت عنه في الخطاب الرسمي، أو عبر إبداع طرق التخريب الفيزيائي للبناء المدرسي والمقاعد، وإحداث حفر ومنافذ سرية في جدار المدرسة.
عليّ الاعتراف بأن هذه النوعية والانتقائية في استحضار التجارب المدرسية من دون غيرها، قد وضعتني أمام ارتباك وحيرة حول كيفية فهم هذه الذاكرة اليوم، واستيعابها. ففي حين كان تركيزي بداية على سؤال “كيف كانت تجربة المدرسة؟”، متوهمةً أن أسلك طريقاً مستقيماً كالسهم، يعبر بسلاسة وحيادية من نقطة الحاضر نحو نقاط أخرى في الماضي، قادتني المقابلات إلى إدراك محدودية هذا السؤال، وهذا المنظور، إن لم يقترنا بالتمعن بمعنى تذكر هذه التجربة، وكيفيته. وذلك عبر عدم اجتزاء هذه التجربة عن الأبعاد الزمنية والمكانية لمُتذكريها، وتفادي النظرة الوظيفية للمتذكر على أنه مندوبنا عن الذاكرة. إنما تخيل التذكر كرحلة ذاتية، يكون المتذكر قبطاننا فيها. الأمر الذي عبّر عنه بشكل مشابه كل من إميلي كيفتلي، وميشائيل بيكرينغ بقولهما: “نحن لسنا مجرد ذوات مؤَلِّفة، بل نترأّس تحرير ذكرياتنا الخاصة”.
ولدى تقفيّ أثر من حاورتهم في رحلة تذكر تجربة المدرسة، عبرنا أزمنة متداخلة متكونة من: ما قبل ثورة 2011، وما بعد الثورة، وحاضر اللجوء المستمر، والمستقبل متمثلاً في تخّيله. عند قراءتي لذاكرة المدرسة التي سُردت لي ضمن هذه الأزمنة؛ متزامنةً وغير منقطعة، كما هي بالنسبة إلى قباطنة هذه الرحلة، لم يتراءَ لي حدث التذكر، أو فعله، كعملية محايدة أو مستقلة بذاتها ولذاتها، إنما كعملية إنتاج، وإعادة إنتاج للسلطة على الزمن، في الماضي، والحاضر، والمستقبل، من خلال ذاتية السرد ومحورية موقع المتذكِّر. سلطة أنتجتها الثورة خارقة جدار الصمت، باللغة والنطق، من أجل إعادة تركيب ذاكرة التلقين والتنطيق في مدارس البعث. هي عملية إنتاج يكون فيها المتذكّر مُنتجاً لذاكرته، ولتمثيلها، وليس سلعةً، أو مُنتَجاً لتاريخه المعيش. مقابل تشييئه، وترقيمه، واختزاله، وتنميطه، جوهرانياً، في حاضر الهجرة، واللجوء، والعنصرية.
إن إصرار من حاورتهم على فردانيتهم في سرد تجربة المدرسة السورية، على الرغم من التغييب الممنهج والبنيوي لها، يشبه بالنسبة إلي، ممارسة معنى التذكّر اليوم، في سياق اللجوء. فهو حدث مُقاوم للذات، وضد إلغائها.
رصيف 22