قناع “الأسد” الشمعيّ/ عمّار المأمون
يمنع هذا القناع الشمعي ملامح السيد/ الرئيس من أن تتحرك، إذ نراها ثابتة، ذات ملامح لا تتغير، دون تعابير أو قدرة على “الحياة”…
نقرأ ضمن حكايات مشكوك في أمرها، أن نيرون، إمبراطور روما، كان عاشقاً للمسرح، وخصوصاً فن التمثيل، إذ كان يؤدي أمام أعيان بلاطه والممثلين المشاهير أدوارا ما زالت إلى الآن راسخة في تاريخ المسرح، إذ كان يلعب دور أوديب و أوريست وهرقل، تاركاً لنفسه حرية الارتجال وتغيير مجريات العرض لمتعته الشخصيّة.
المثير للاهتمام في نشاط نيرون المسرحيّ والسيادي، أنه حين “يمثل”، لا يفقد مكانته كـ”سيد” وحاكم ذو سلطة مطلقة، خصوصاً أنه لسبب ما كان يستخدم الـ” Imagines”، وهو نوع من الأقنعة التي تختلف عن تلك التي تستخدم في المسرح عادة والتي تسمى “Persona”، فقناع Imagines جنائزي، لا يستخدم في المناسبات العامّة، ناهيك عن المسرح، كما أنه مصنوع من الشمع، ويتطابق مع وجه صاحبه، أي لا تُنكر ولا اختفاء في هذا القناع، بل تطابق مع وجه الميت، الذي يُستبدَلُ جسده بوجهه حين رحيله، وعادة ما يتم وضع هذا القناع فوق قبر الميت ثم ينقل إلى منزله لاحقاً، أي لا يوجد سياق يُوضع فيه هذا القناع على الوجه.
استخدم نيرون القناع الجنائزيّ في أداء مسرحياته، بل يقال، وهنا نرتجل، أنه كان يمتلك عدة نسخ من هذا القناع الذي يتطابق مع وجهه، يضعُ واحداً، ويعطي باقي الممثلين معه على الخشبة الباقي، لنرى أنفسنا نشاهد مسرحية كل شخصياتها مؤداة من قبل “نيرون”، وأحياناً تختلط الأوجه، فيبدو الجميع على الخشبة وكأنهم “نيرون” يؤدي أمامنا.
يمنع هذا القناع الشمعي ملامح السيد/ الرئيس من أن تتحرك، إذ نراها ثابتة، ذات ملامح لا تتغير، دون تعابير أو قدرة على “الحياة”، وهنا تظهر المفارقة، نيرون كان “يمثل” و”يؤدي” ويستعرض مهاراته أمام أصحاب الصنعة من ممثلين وفنانين، يشاهدون جميعهم نسخاً متطابقة من “نيرون” تؤدى أمامهم بلا ملامح دون أن يعلموا من هو نيرون الحقيقي.
السؤال، هل هناك من يجرؤ على عدم التصفيق في حال لم يعجبه الأداء؟ كيف سينتقد أولئك الحاضرون من “يؤدي” على الخشبة إن كانوا كلهم يمتلكون وجه نيرون الشمعي ؟
لا يختلف ما شهده قصر الشعب في دمشق منذ عدة أيام عن ما ذكرناه سابقاً، هناك رئيس/ سيد، ذو وجه شمعي نُحت بالبوتوكس، يؤدي قسمه الدستوري أمام ممثلين وفنانين يبتسمون أشد الابتسام في الصور التي يظهرون فيها أثناء توجههم لمشاهدة ما سيقدمه “السيد” الذي استعد لجمهوره، واضعاً قناعه الجنائزي، ومؤدياً دوره كمنتصر على الأعداء، ومخلص للمدينة، ومنقذ للناس من المؤامرة التي كادت أن تفتك بهم به.
المثير للاهتمام أنه في حالة الأسد، لا توجد نسخ من القناع للممثلين، هناك شخص واحد فقط، ومؤد واحد، وهنا تظهر مميزات القناع الشمعي، هو ينفي الزمن، ويثبته في لحظة واحدة، هو أبديّ إن صح التعبير، وهذه بالضبط وظيفة القناع الجنائزي الذي يعبُر الزمن والأفراد متجاوزاً سلطة الأحياء والأموات، إذ يقال أن أفراد الأسرة والشخصيات المشهورة وغيرهم من سكان روما، كانوا يتعاملون مع القناع وكأنه الشخص الحي نفسه، ففي أي مكان يوجد فيه هذا القناع، يتواجد هذا الشخص، ثابت الملامح، ذو السلطة الدائمة، المهيمن لحماً وشمعاً على تدفق الوقت.
لكن ما يثير يشدنا في حالة الأسد وحالة نيرون نفسه هو الجمهور، أولئك الذين يجلسون ويشاهدون الأداء الفردي، والذين تلعب أوجههم أيضاً دوراً، الهدف منه منح الاعتراف الفني والسياسيّ لمن يؤدي، فأن يصفق مؤدٍ لمؤدٍ آخر وأن يعجب بـما قدمه، يعني الاعتراف بجدوى هذا الأداء وصاحبه ذو الوجه الشمعي.
لكن، لنكن أكثر جديّة وأقل مبالغة، هناك أكثر من مقاربة لفهم علاقة الجمهور مع المؤدي/ السيد، الأولى تفترض أن الحضور والتصفيق والإطراء سببه الخوف، الذي تنتجُ عنه الطاعة التي توصف بأنها سلوك خارجي مضبوط “يجسده” الشخص خشية على حياته، أي هي شأن سطحي بكل ما تعنيه الكلمة، ولا يمكن أن نعرف بدقة مدى جديّتها، ما يعني أنه من المستحيل أن نعرف مدى اقتناع من يصفق بما يشاهده، لكن، هل أجبر النظام السوري من شاهدناهم في الصور على الحضور ؟ ما هو شكل الدعوة؟ ألم يكن بإمكان أي واحد منهم الرفض بحجة المرض أو الكورونا أو التعب ؟
المقاربة الثانية تقول أن هؤلاء ليسوا بجمهور، بل جزء من “المسرحيّة” نفسها، فكلهم بشكل أو بآخر يضعون وجه الطاغية الشمعيّ، بالتالي، هم يصفقون للمؤدي ولبعضهم البعض، وهنا تظهر خطورة الخدعة التي كان يمارسها نيرون، إذ لا يمكن للجمهور أن ينتقد أي واحد من المؤدين ، لأن جميعهم يمتلكون ذات الوجه، ولا يمكن تمييز نيرون من غيره، على الخشبة بالتالي لا يمكن نعت أدائه بالمبتذل، أو السطحي أو غير المتقن، فهل من يجرؤ على أن يقول إن الرئيس/ السيد ذو أداء غير متماسك ؟ والأهم، لم أداء الممثلين كجمهور مقنع أكثر من أدائهم كممثلين في المسلسلات والمسرحيات وغيرها ؟
الإشكالية السابقة تهدد “التصديق”، ولا نقصد هنا تصديق السيد الرئيس، فنحن نعلم أنه يؤدي و نعلم أنه ذو قناع، بل نتحدث عن الجمهور من الفنانين والممثلين ممن جلسوا و شاهدوا واحتفلوا، الذين يمارسون ذات المهنة التي يقتبس منها السيد دوره، كيف يمكن لنا أن نصدقهم بعد انتهاء الحفل ؟، كيف يمكن أن نعرف متى يستعيرون قناع السيد الشمعي ومتى يتحدثون بأوجههم؟.
نطرح هذه التساؤلات بسبب اللبس الذي يعتلي المشاهد الخارجي حين يحدق بأوجه الجمهور، فمن منهم “الأصدقاء” ومن “الأعداء” ؟ ربما هذا التصنيف لا يصح في ظل الخوف والطاعة، ربما يمكن أن نسأل من منهم يصفق عن قناعة ومن منهم يصفق طاعةً فقط ؟، لكن هذه الأسئلة المرتبطة بالتصديق تقودنا إلى مفارقة مضحكة، فالبعض وحين تَصفح الصور، التبس عليهم شأن الممثل سليم كلاس، المفترض أنه توفي عام 2013، لكنه يظهر في خلفية إحدى الصور، أو ربما هو شبيه له يرتدي قناع من نوع ما.
نُفى لاحقاً وجود الممثل الميت بين الحضور، والبعض الآخر أكد أنه شبحه الذي جاء لأداء البيعة، أو ربما شبحه الذي خاف من عقاب لاحق، فحضر ليثبت أنه يمكن للموتى أيضاً أن يشاهدوا أداء الرئيس الشمعي، فواحدة من خصائص قناع الموت الجنائزي هي قدرته على العبور إلى عالم الموتى واستنهاض هممهم، ودعوتهم لحضور العرض، ففي سوريا ، الميت لا يموت مرةً واحدةً، بل يستمر في الوجود لطالما إرادة الرئيس حيّة ومسرحيته مستمرّة.
*ملاحظة: تبين حين التدقيق في الصور أن شبح سليم كلاس لم يحضر، بل من كان في الصورة هو العماد علي أصلان الذي منحه الأسد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة “تقديراً لدوره كقائد عسكري وبطولاته كمقاتل مقدام وضابط بارع في ساحات المواجهة وعطائه المتواصل لوطنه على مدى سبعة عقود من الزمن”.
درج