مفتاح ألغاز أغاثا كريستي بين إسطنبول وحلب/ بشير البكر
الغرفة 213 في فندق بارون (Baron) بحلب هي التي كانت تشغلها الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي، حينما كانت ترافق زوجها الآثاري البريطاني المعروف ماكس مالوان الذي عمل في التنقيب عن الآثار في شرق سورية، وكان يتنقل بين شرق سورية والعراق، وهو الذي اكتشف مدينة أور، ورأس الملك سركون الأكدي. وأمضيا شهر العسل في قرية عين العروس السورية على نهر البليخ والقريبة من تل أبيض، وذلك في مطلع الثلاثينيات. وشهدت تلك الغرفة كتابة بعض فصول رواية “جريمة في قطار الشرق السريع”. وبقيت تلك الغرفة تحتفظ بسحر غامض بعد مرور زمن طويل على إقامة الكاتبة فيها.
الغرفة الأخرى التي تشارك الغرفة 213 كتابة رائعة “جريمة في قطار الشرق السريع” هي الغرفة 411 في فندق “بيرا بالاس” (Pera Palace) في إسطنبول، والتي لا تزال تحتفظ بذكريات من الكاتبة. وتحفل الرواية بأسماء أماكن من مدينة إسطنبول، وهي تبدأ بتلقي الشخصية الأساسية في العمل المحقق هيركيول بوارو عند وصوله إلى فندق التوكاتيلان في إسطنبول تلغرامًا يخبره بإلغاء مخططاته، والعودة فورًا إلى لندن، فيطلب من عامل الفندق أن يحجز له مقصورة في الدرجة الأولى في قطار الشرق السريع الذي يغادر تلك الليلة، حيث تقع الجريمة عندما يتوقف القطار بفعل تراكم الثلوج في يوغسلافيا. ويتم في الصباح اكتشاف أحد ركاب القطار مقتولًا بـ 12 طعنة، وكان باب المقصورة مقفلًا من الداخل.
“شهدت الغرفة 213 في فندق بارون كتابة بعض فصول رواية “جريمة في قطار الشرق السريع”. وبقيت تلك الغرفة تحتفظ بسحر غامض بعد مرور زمن طويل على إقامة الكاتبة فيها”
يقع فندق بارون في بداية شارع بارون وسط منطقة باب الفرج في حلب، والتي تشكل مركز المدينة، ولكن من الجهة التي تم تجديدها على الطراز المعماري الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر. وللشارع ما يميزه عما يتقاطع معه أو يوازيه من شوارع، فهو يمثل الجانب الأكثر حداثة وترتيبًا من الحي، ولهذا يستقبل مكاتب شركات الطيران وشركة بولمان للنقل الداخلي للباصات، والتي تمتاز عن شركة الباصات الأخرى بأنها تسير وفق مواعيد وحجز مسبق وبأسعار عالية، نظرًا لما تقدمه من خدمات ونظافة وانضباط في المواعيد. وبفارق عدة أمتار يقع فندق بارون أرقى فنادق حلب، والذي تم بناؤه ما بين 1906 و1911 من قبل عائلة أرمنية (مظلوميان) وكان يتكون من 31 غرفة، وجرى توسيعه بعد الاستقلال، بإضافة 17 غرفة جديدة، وأعيد للشارع اسمه القديم في عام 1946 بعد الاستقلال (Le Baron)، بعد أن حمل اسم شارع غورو نسبة الى الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسية على لبنان وسورية عام 1920.
وفي عام 1977 زارني قريب لي، وهو شخصية اجتماعية مرموقة في الجزيرة ورجل يعشق الفخامة، ونزل في هذا الفندق، وكان من نصيبي أني أمضيت ليلة في الغرفة 213 التي كانت تسكنها كريستي كلما حلت بحلب، وقريبي في الغرفة 214 التي كان من بين سكانها البارزين الجنرال كاترو، قائد جيش الشرق الفرنسي الذي أمضى عدة أيام برفقة الجنرال ديغول، وهما في الطريق إلى العراق ومن ثم إلى لندن بعد احتلال باريس من الألمان في الحرب العالمية الثانية، وأمضى ديغول يومًا في ضيافة العشائر العربية في منطقة الشدادي، واستقبله السيد علي الخليف قبل أن ينتقل إلى بغداد ومنها إلى لندن ليوجه نداء المقاومة 18 يونيو/ حزيران 1940، عبر هيئة الإذاعة البريطانية. وكان النوم في غرفة كريستي فرصة لي كي أسترجع بعض الهواجس والخيالات وأدوّن بعض التفاصيل من مالكي الفندق عن الكاتبة وعن رواية “جريمة في قطار الشرق السريع” التي اكتملت في إسطنبول في فندق “بيرا بالاس”.
“إن الغموض الذي يكتنف الغرفة رقم 411 هو الذي يجعلها تحظى بشعبية كبيرة بين ضيوف اليوم. سيما لغز اختفاء كريستي في عام 1926 لمدة 11 يومًا”
عندما تم افتتاح Pera Palace عام 1892، كان الفندق الأكثر فخامة في مدينة إسطنبول، والمبنى الوحيد في المدينة الذي كان يحتوي على كهرباء، باستثناء القصور العثمانية. ومن بين الضيوف المشهورين الرئيس مصطفى كمال أتاتورك (الذي أقام دائمًا في الغرفة رقم 10، والتي أصبحت الآن متحفًا)، الملكة إليزابيث الثانية، زسا زسا غابور، غريتا غاربو، ألفريد هيتشكوك ، وإرنست همنغواي. وتم بناؤه خصيصًا لاستقبال المسافرين في قطار الشرق السريع الذي يتحرك بين باريس وإسطنبول محطته الأخيرة في “سيركجي”، والتي لا تزال تحتفظ بالمبنى القديم وجزء من خط سكة الحديد وبعض العربات ومتحف صغير خاص بقطار الشرق السريع.
وحتى الآن تُعرف الغرفة 411 باسم غرفة أغاثا كريستي. ولا تزال تحتفظ بأثاثها الأصلي العتيق والكثير من الأدوات لتكريم الكاتبة الراحلة. ومع ذلك، فإن الغموض الذي يكتنف الغرفة هو الذي يجعلها تحظى بشعبية كبيرة بين ضيوف اليوم. سيما لغز اختفاء كريستي في عام 1926 لمدة 11 يومًا. تم العثور على سيارتها بجوار بحيرة في الريف الإنكليزي، وقد اصطدمت بشجرة وتناثرت جميع متعلقاتها. وكان يعتقد أنها سقطت في البحيرة المجاورة وماتت. بعد أيام من البحث غير المثمر من قبل الشرطة وأهل المنطقة وحتى كتاب الجريمة الآخرين، شوهدت كريستي في فندق في هاروغيت، يوركشاير. وزعمت أنها لا تتذكر ما حدث في الأيام الفاصلة. وولد اختفاؤها الكثير من التكهنات والعديد من المقالات والكتب.
وفي عام 1979، ظهر فيلم أغاثا الذي قام ببطولته داستن هوفمان وفانيسا ريدغريف. وذهب صانعو الفيلم (وارنر براذرز) في البحث عن حل اللغز. واستعانوا بقارئة الكف والمنوّمة المغناطيسية الأميركية تمارا راند لتنظيم جلسة استماع لاستحضار روح كريستي. وبعد الاتصال المفترض بشبح كريستي، ادعت راند أن الإجابة على سر اختفاء كريستي كانت موجودة في الغرفة 411 في فندق بيرا في إسطنبول، الأمر الذي أثار ضجة إعلامية دولية كبيرة ودفع بوسائل الإعلام، سيما الأميركية لتنظيم اتصال وبث مباشر على الهواء من داخل الغرفة مع المنجمة، في تمام الخامسة مساءً في 7 مارس/آذار 1979، وأعطت راند تعليمات لتفكيك ألواح أرضية الغرفة، وتم العثور على مفتاح صدئ بطول 8 سم تحت الألواح بين إطار الباب والجدار. وفي هذه اللحظة، وضع مدير الفندق المفتاح تحت الحماية. وفي وقت لاحق عقد مؤتمرًا صحافيًا، أعلن فيه أن المفتاح يخص فندق بيرا ولن يتم تسليمه إلى شركة وارنر براذرز إلا إذا دفعوا مليوني دولار مقابل ذلك.
“ادعت المنجّمة راند أن الإجابة على سر اختفاء كريستي كانت موجودة في الغرفة 411 في فندق بيرا في إسطنبول، الأمر الذي أثار ضجة إعلامية دولية كبيرة ودفع بوسائل الإعلام لتنظيم بث مباشر على الهواء من داخل الغرفة”
وافقت الشركة الأميركية على دفع المبلغ، ثم نظمت جلسة استحضار أرواح أخرى مع راند ادعت فيها أن كريستي لديها أيضًا دفتر ملاحظات سري، وأنها لن تتمكن من العثور عليه، ما لم يكن لديها المفتاح في يدها، وتمت دعوة راند إلى إسطنبول لحضور اجتماع مخطط له في 20 يونيو/ حزيران 1979. ولكنه تم إلغاء الاجتماع بسبب نزاع بين الأطراف. وبدلًا من ذلك أقيمت الجلسة في لوس أنجلوس، وصرحت راند بأنها شاهدت دفتر الملاحظات، وأنه كان في صندوق كبير سيفتح بالمفتاح، ولكن لم يتم العثور على الصندوق مطلقًا، وسرعان ما تلاشت الضجة.
واليوم، يمكن للضيوف المقيمين في الغرفة 411 رؤية بعض قصاصات الصحف من القصص التي نُشرت في ذلك الوقت، وكلها مؤطرة ومعلقة على الحائط. لا يزال لغز اختفاء أغاثا كريستي دون حل، ولم يعرف أحد التفاصيل المتعلقة بكتابة الرواية (جريمة في قطار الشرق السريع). وهناك عدة روايات أحدها تقول إن كريستي كتبت في مواقع التنقيب أكثر مما كتبت في الفنادق، وفي محاولة لحل لغز اختفاء كريستي كتبت الروائية ماري بنديكت رواية أثارت الاهتمام “لغز السيدة كريستي”، وهي رواية مبنية على الحقائق وممزوجة بالخيال. هي محاولة تكريم قوية ورائعة للمرأة التي باعت أكثر من ملياري كتاب، وصنعت نجوما سوف يبقون أحياء مثل المحقق بوارو.
وتروي بنديكت قصة كريستي من خلال التراكيب المتوازية. في فصول متناوبة، تقدم من منظور الشخص الأول عن زواجها من الكولونيل أرشيبالد (أرشي) كريستي والأعراف الاجتماعية الخانقة في ذلك الوقت. تقضي أغاثا حياتها الصغيرة تتعلم من والدتها كيف تكون خاضعة للرجال وأن ترضيهم، ولكن هذا الزوج يضطهدها فتتطلق وتتزوج مالوان الذي كان يصغرها ب 10 أعوام، وحين تزوجا كان هو في الثلاثين.
مذكرات أغاثا صدرت عام 1946 تحت عنوان “تعال أخبرني كيف تعيش”. ولكنها لم تقدم ما يساعد على فك لغز اختفائها، وهناك من يعتقد بأنها كانت في مهمة سرية لحل لغز جريمة قتل حقيقية.
ضفة ثالثة