ناشرون مصريون يمارسون الرقابة على كتب معروفة ويشوهونها: المقص يمر على أعمال طه حسين ونجيب محفوظ والعقاد والحجة تقريبها من القراء/ شريف الشافعي
لا يتوقف الجدل حول تحريف الأعمال الإبداعية الشهيرة لكبار الأدباء والمؤلفين، خصوصاً الراحلين منهم، حال إعادة نشرها في طبعات جديدة ذات طبيعة خاصة: تعليمية أو مدرسية أو مبسطة للناشئة والأطفال أو في صورة مختارات أو ملخصات، وما إلى ذلك. وتبقى هذه القضية مثارة وساخنة ومعلقة، ما دام القارئ العربي لا يزال يطالع كلاسيكيات طه حسين ونجيب محفوظ وعباس العقاد وغيرهم، وقد صدرت بعناوين غير عناوينها، وبمضامين وأساليب مختلفة، تحت دعاوى التخفيف أو الشعبوية أو الاختصار أو الرغبة في مخاطبة الأصغر سناً أو الأقل ثقافة وتعليماً.
وما يزيد تعقيد القضية، وجود منطقة ضبابية مربكة أو فجوة شائكة بين العقود القانونية التي يستند إليها الناشرون من جهة، والحقوق المعنوية المجردة للأدباء أنفسهم، وللأدب بذاته كقيمة مطلقة من جهة أخرى. فلربما يتيح القانون للناشرين، بموجب عقد مع المؤلف في حياته أو مع ورثته حال رحيله، أن يتناولوا أعمال الأديب بالتغيير، كما حدث بإصدار دار الشروق مثلاً روايتي “كفاح طيبة”، و”عبث الأقدار” لنجيب محفوظ بعنوانين مختلفين هما “كفاح أحمس”، و”عجائب الأقدار”، ومحتويين مغايرين، مع الإشارة على الغلافين، وفق العقد المبرم، إلى أن الروايتين المشغولتين في مصنع الدار تنتميان إلى فئة “الأعمال الميسرة للشباب”. ويتيح التعاقد في هذه الحالة لدار النشر القيام بهذا “التبسيط” المتفق عليه بمعرفتها، وعلى مسؤوليتها وحدها، بالاستعانة بمختصين في الكتابة والتحرير تنتقيهم الدار، ويتولون كافة أمور التلخيص وإعادة الصياغة، من دون الرجوع إلى أحد.
حالات متكررة
تتكرر الحالات والأمثلة، وأبرزها “عجائب الأقدار” لنجيب محفوظ بعنوانها المنطوي على تحفظ ملموس كبديل آمن عن العنوان الأصلي “عبث الأقدار”، وكذلك “كفاح أحمس” التي جرى إعدادها وتدريسها لطلاب المرحلة الإعدادية كصورة مختزلة من روايته “كفاح طيبة”، و”الأيام” لطه حسين، وأيضاً المختارات من مذكرات عميد الأدب العربي، التي أصدرتها إحدى المجلات في كتيب ابتعد كثيراً عن مذكراته الأصلية، و”عبقريات” العقاد في بعض صيغها التعليمية، وغيرها.
ومع استمرار هذه النوعية من الإصدارات، يتصاعد الصوت المعارض للأعمال التي تتبدل فيها العناوين والمضامين بدعوى التبسيط والتخفيف، حيث إنها تفتح الباب على مصراعيه للإساءة إلى ماهية المنتج الأدبي الرصين، وإهدار الحقوق المعنوية لكبار المؤلفين، لأسباب قد تكون تجارية أو سياسية، كما أن هذه الإصدارات المصنوعة قد توحي بممالقة التيارات الدينية الضاغطة، والاستجابة لها، بحذف ما لا يراه المتشددون لائقاً في المؤلفات الأصلية.
وقد وجه هذا الاتهام بالفعل لمن أعادوا صياغة أعمال طه حسين ونجيب محفوظ على وجه التحديد، فأشار الناقد ممدوح النابي في كتابه “استرداد طه حسين” الصادر حديثاً عن دار “خطوط وظلال” إلى أن ما قامت به إحدى المجلات العربية من إعادة نشر “مذكرات طه حسين” في كتاب تذكاري، يمثل جريمة تشويه مكتملة الأركان، بحيث قامت جهة النشر بما يشبه دور الرقيب الديني، فجرى الحذف والبتر والتبديل والتشويه، بحجة التخفيف وتقديم مختارات، وهذا “عبث بتراث الرجل، وتراث أمة بأكملها”. كذلك، فقد لمحت بيانات احتجاجية للمثقفين إلى أن تحريف عناوين روايات نجيب محفوظ ومضامينها في طبعاتها المخصصة للناشئة “يحيل إلى الرجعية الدينية المعادية للإنسان والحياة بمصر، ويستعيد الهجوم على رقبة نجيب محفوظ بالسكين”.
وإلى جانب إشكالية التحريف المحورية، تثار تساؤلات أخرى كثيرة ذات صلة، ينبغي طرحها في هذا السياق، منها: ما مدى أحقية المؤلف في تفويض غيره لإعادة صياغة أعماله، والعبث بها، سواء في حياته أو بعد مماته؟ وبأي منطق يكون لورثة المؤلف هذا الحق، في مسألة ليست تجارية فقط بطبيعة الحال، بل إن الأمور المعنوية فيها أهم من الأمور المادية؟ وأي رادع عملي يمكن به إبطال استغلال أسماء المبدعين على هذا النحو، وتشويه تراثهم، تحت مظلة القانون؟
تطرح “اندبندنت عربية” القضية من جوانبها المتعددة، مستطلعة آراء مجموعة من المثقفين والباحثين، للوقوف على تفاصيل الحقوق القانونية والأدبية للمؤلفين والناشرين على السواء بهذا الصدد، والوصول إلى نقطة التقاء تتيح إصدار الطبعات المبسطة للمبدعين، كما في سائر أرجاء العالم، لكن دون المساس بقيمتها، وبغير الإساءة إلى مؤلفيها البارزين، أو إهدار حقوقهم المعنوية التقديرية، كأصحاب أقلام رفيعة ينتظر منهم دائماً مستوى مرموق.
إجراءات تنظيمية
تنتشر في مصر والعالم العربي منذ عهد بعيد أعمال عالمية كبيرة ملخصة للفتية والناشئة، مثل “الحرب والسلام” و”دون كيخوته” وغيرهما، والفكرة في حد ذاتها لا غبار عليها، لأنها تقرب هذه الأعمال إلى أذهان الصغار، وقد تدفعهم عندما يكبرون إلى قراءة الأصول التي ربما لم يكونوا ليفهموها في هذه السن المبكرة.
وفي حديثه إلى “اندبندنت عربية” يشير الكاتب والناقد منير عتيبة إلى أن الإعداد المبسط معروف في سائر اللغات، وهذا الأمر “مثمر للغاية، بشرط عدم تغيير عنوان الكتاب الأصلي، لأن هذا يفقد الفكرة فحواها، وهي تقريب الأعمال الأصلية للصغار”. ويقترح عتيبة ألا يترك الأمر للناشر وورثة المؤلف، بل لا بد من إجراءات تنظيمية صارمة للتأكد من أن التبسيط لا يخل بجوهر العمل وأفكار الكاتب.
وإذا كان تبسيط الأعمال الكلاسيكية للناشئة أمراً متعارفاً عليه عالمياً، فإن السؤال هو: كيف يتم ذلك، وبأي جودة؟ وتزداد الأمور تعقيداً في المشهد المصري والعربي، لما فيه من قيود ومشكلات تخص حرية الإبداع والتفكير، فضلاً عن خلط الأوراق بالباطل وانتشار التربص وكيل الاتهامات.
ويرى الناشر إسلام عبد المعطي، مدير دار “روافد”، أن التجرد ومناقشة القضية بهدوء وعقلانية بعيداً عن المكايدة السياسية بداية الطريق إلى تصور يفيد فعل القراءة، وبعد ذلك يمكن وضع المعايير والضوابط لتنظيم آليات هذه الطبعات المبسطة.
ويتساءل عبد المعطي: “ماذا يكون موقف الرافضين، إذا كان الكاتب قد أبدى موافقته، وماذا يكون موقف المؤيدين إذا رفض الكاتب؟ هل يجوز لنا أن نسأل عن أحقية الكاتب في الموافقة أو الرفض؟”، تبدو التساؤلات كثيرة ومتشعبة، وتحتاج إلى البحث في أجواء هادئة.
تجربة كارثية
وإذا كان تبسيط النصوص الكبرى وتقديمها للأجيال حقاً يليق العمل عليه، فإنه لا يعني مطلقاً الإخلال بحقوق الكاتب والنص معاً، إيماناً بأن أي تغيير في لغة الكاتب قد يؤدي إلى الإخلال بقيمة النص، ويغير أفكاره عن مجراها.
وفي هذا الصدد، يشير الناقد مصطفى الضبع إلى “تجربة كارثية”، حين قررت وزارة التربية والتعليم بمصر تدريس رواية نجيب محفوظ “كفاح طيبة” لطلاب المرحلة الإعدادية، وكلفت لجنة بالقيام على إعداد العمل تربوياً (هكذا ادعت الوزارة)، وكانت النتيجة تقديم “عمل مهلهل”، وهي تجربة تستدعي المطالبة باتخاذ التدابير الوقائية.
من هذه التدابير، وفق مصطفى الضبع، ألا نمنح الناشر حق القيام بذلك من دون العودة للكاتب، بخاصة أن العمل يقدم عبر الوسيط الذي ارتضاه له صاحبه (اللغة المقروءة)، وهو ما يعني بالضرورة أن القضية لا تتوقف على موافقة الكاتب، بل يجب أن تكون موافقته مشروطة بإسناد التبسيط إلى من يحسن القيام به من ذوي التخصص، للحيلولة دون الإخلال بالتراث الإنساني، ومنع تخريب أعمال كتابنا الكبار من أمثال طه حسين والعقاد ومحفوظ وغيرهم.
وصاية مزدوجة
وفي حال رحيل المؤلف دون أن يوصي بطبعات مبسطة لأعماله، فالمنطق يقضي بأنه لا يحق لأحد التدخل في أعماله بعد موته، أو حتى بعد وضعه نقطة النهاية لعمله في حياته دون إذن منه، فالإرث الأدبي ثروة عالمية تخص الإنسان، ولا يحق للناشر ولا الورثة تغيير إرادة الكاتب الإبداعية.
وترى الكاتبة سهير المصادفة في حديثها إلى “اندبندنت عربية” أن التصرف في عمل المبدع بهذا الشكل يعني “الوصاية المزدوجة” على القارئ والكاتب معاً، والحجر على عقليهما، بافتراض أن القارئ، مهما كان عمره، لن يستطيع التمييز عند قراءته عملاً إبداعياً، وأن المبدع لم يقصد ما كتب بالضبط، ومن الممكن تبسيط كلماته أو حذف بعضها أو حتى تهذيبها، ما يؤدي في النهاية إلى تشويه منجز الكاتب.
وتأمل سهير المصادفة استعادة المكتبة المدرسية دورها التثقيفي والتنويري، لتتيح للطلاب الأدب العربي والعالمي كما هو من دون تحريف، وقد كانت تفعل ذلك قبل سيطرة العقول السلفية على اختيار ما ينبغي أن يقرأه الطالب وما لا ينبغي أن يقرأه، وتقول: “المدهش أن هذه الموجة الشرسة التي عملت على سلفنة المجتمع، أخيراً، كانت وهي تمنع الأدب والفكر من المناهج المدرسية ومكتبات المدارس، تسمح للتلاميذ بقراءة كتب الجهاد وعذاب القبر وتاريخ الجماعات الإرهابية”.
وإذا كان هناك إقرار بأن الناشر شريك للمبدع في نشر عمله، فإن دوره يقتصر على إظهار هذا العمل في أكمل صورة ممكنة من خلال الاضطلاع بمهام التصحيح والتدقيق اللغوي، والإخراج الفني، والطباعة الجيدة، والترويج الإعلامي، والتسويقي.
في هذا السياق، يقول الناشر إسلام شمس الدين مدير مؤسسة “شمس” للنشر والإعلام: “ليس للناشر التدخل مطلقاً بالتعديل أو التغيير في عنوان الكتاب أو محتواه بأي شكل من الأشكال، إلا في حدود الاقتراح والنصح وبالاتفاق مع المؤلف وموافقته، مع احتفاظ الناشر بحقه في قبول أو رفض نشر الكتاب حال عدم قناعته بالعمل”. أما التجرؤ بالسطو على حق أصيل من حقوق المؤلف، بالتعديل والتحريف، فهو أمر يصفه إسلام شمس الدين بـ”جريمة أدبية”، وهذه الجريمة تتعاظم إذا كانت في حق رموز أدبية بحجم طه حسين ونجيب محفوظ والعقاد.
اعتداء على الكاتب
من جهته، يرى الكاتب محمود الغيطاني أنه ليس من حق أي شخص التعديل أو التصرف بالحذف أو الإضافة أو حتى التبسيط والتيسير، كما يدعون، على ما كتبه الكاتب، حتى لو كان ذلك بإذن خطي من صاحب العمل، لأن ذلك اعتداء حقيقي وجريمة في حق ما كتبه الكاتب.
كذلك، فإن الكاتب نفسه ليس من حقه إعادة صياغة أو تعديل عمله بعد ما صدر وقرأه القراء؛ لأنه في هذه الحالة- التعديل- سنكون أمام نصين مختلفين للكاتب، وهما نصان يتناولان العالم ذاته، فكيف سيتعامل معهما الناقد أو الدارس أو المؤرخ، وهل سيفاضل بينهما، وأي منهما سيعتمد عليه في دراسته؟
كما أن القول بتبسيط النص، يعني بالضرورة أن النص مستغلق، أو أن الكاتب قدم شكلاً من الأحاجي التي هي في حاجة إلى التفسير والتبسيط من أجل فهمها، وهذا مفهوم لا يمكن أن يكون له علاقة بالكتابة الإبداعية؛ فالإبداع ليس مجموعة من الطلاسم التي تحتاج إلى التبسيط، أو التفسير.
وإذا كان من يذهبون هذا المذهب يرون أن الناشئة لن يفهموا محفوظ أو غيره كما كتب نصه، فإن هذا بعيد عن الحقيقة وفق الغيطاني، الذي يقول في حديثه إلى “اندبندنت عربية”: “قرأنا محفوظ منذ المرحلة الإعدادية وفهمناه، إنها رغبتهم في ممارسة الوصاية على الأجيال القادمة باعتبارها أجيالاً قاصرة، كما أنها نظرة مهينة لأبنائنا الذين نتصورهم أغبياء وغير قادرين على الفهم والاستيعاب، فلنكف عن تشويه النصوص بدعوى التبسيط”.