البشير الى المحكمة الجنائية الدولية، متى يحين موعد بشار -مقالات مختارة-
تسليم البشير: مكاييل الجنائية الدولية ومعايير الحساب/ صبحي حديدي
أحدث أخبار المحكمة الجنائية الدولية أنّ مجلس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان قرر تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة، ولائحة هؤلاء تضمّ دكتاتور البلد السابق عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الداخلية الأسبق أحمد هارون، وعبد الله بندة أحد قادة الجنجويد؛ وكان زميله علي كوشيب، المطلوب للمحكمة بدوره، قد بادر إلى تسليم نفسه، وهو قيد التوقيف في لاهاي، هولندا، حيث مقرّ الجنائية الدولية. وأن تكون هذه أحدث الأخبار أمر لا يعني أنها الأكثر جاذبية للساسة أو لوسائل الإعلام أو المعلّقين في كثير من بلدان العالم، وخاصة في الديمقراطيات الغربية التي كانت قوى استعمارية أو تظلّ ذات هيمنة تسلطية اقتصادية وسياسية وثقافية إمبريالية الطابع.
وأن ترحب وزارة الخارجية الأمريكية بالقرار السوداني أمر لا يمحو من الذاكرة حقيقة أنّ المحكمة، منذ تأسيسها بموجب ميثاق روما لعام 1998، ظلت رجيمة في ناظر مختلف الإدارات الأمريكية. حتى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، الذي صادق على انضمام الولايات المتحدة إلى الميثاق والمحكمة في سنة 2000، اشترط عدم عرض الميثاق على مجلس الشيوخ لإقراره، وبالتالي كان يسيراً على خَلَفه جورج بوش الابن أن يلغي تصديق سلفه كلنتون بعد أقلّ من عام أعقب وصوله إلى البيت الأبيض. هيلاري كلنتون، على رأس الدبلوماسية الأمريكية في رئاسة باراك أوباما الأولى، ابتدعت تخريجة عجيبة لتبرير تملّص الولايات المتحدة من الاعتراف بالمحكمة: طالما أنّ أمريكا هي البلد الوحيد الذي ينشر قواته العسكرية في طول العالم وعرضه، ولديه أكثر من 20 قاعدة عسكرية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، فمن غير العدل أن يوضع جنوده في مصافّ مقاضاة واحدة مع أبناء الدول الأخرى. وبالطبع، ذهب الرئيس السابق دونالد ترامب إلى مدى أبعد حين فرض على المحكمة عقوبات شتى، وحظر على المدعية فاتو بنسودا دخول الولايات المتحدة.
ولم تتغير الحال كثيراً مع عودة الرئيس الجديد جو بايدن إلى المحكمة، وجرى إعادة إنتاج مواقف العداء القديمة ذاتها من خلال التعاطف الأقصى مع حملات دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الجنائية الدولية، والاستعانة بالتهمة العتيقة إياها: العداء للسامية. أكثر من هذا، لم يكتفِ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال السابق، بحكاية العداء للسامية؛ بل اتهم بنسودا وقضاتها بشنّ «هجوم شامل» على الديمقراطية الإسرائيلية وعلى «حقّ الشعب اليهودي في العيش داخل إسرائيل»؛ ولم يتردد في التشديد على أنّ ممارسة السيادة الإسرائيلية لا يتوجب أن يعيقها أي قانون دولي أو التزامات جنائية من أي نوع. وليس خافياً أنّ نتنياهو كان في هذا يتكئ على اعتبارات عديدة، تتجاوز ما تتمتع به دولة الاحتلال من حصانة ودلال لدى القوى الكبرى؛ وكان ضمنياً يستذكر حقيقة أولى كبرى هي الاستهانة الأمريكية بكلّ وأيّ ميثاق حول جرائم الحرب والإبادة وانتهاكات حقوق الإنسان، وحقيقة ثانية تشير إلى أنّ الجنائية الدولية لم «تتشاطر» حتى الساعة إلا على نفر من ساسة أفريقيا.
وأن تبقى بلا عقاب ولا حساب جرائمُ الجيوش الأمريكية والإسرائيلية والاستعمارية القديمة/ الحديثة، والجرائم المعاصرة في أفغانستان والعراق وفلسطين وسوريا، ويسرح مجرم حرب مثل بشار الأسد طليقاً يوغل كلّ يوم في دماء السوريين، ومثله الميليشيات المذهبية والجهادية على اختلاف ولاءاتها وعقائدها؛ وأن تظلّ الجنائية الدولية عاجزة عن تثبيت مبدأ الحدّ الأدنى ضدّ الإفلات من العقاب، لأسباب تتصل أوّلاً بتواطؤ القوى العظمى في مجلس الأمن الدولي على بعثرة المسؤولية وتبديد الحساب… كل هذه، وسواها، اعتبارات لا تلغي أهمية المحكمة من زاوية أنها إنجاز متقدم على طريق إحقاق الحقوق حتى في حدود دنيا، ولا تنتقص من أهمية دنوّ المحكمة من ساعة وضع البشير وأمثاله في قفص الاتهام والمحاكمة. بعد لأيٍ، وشدّ وجذب كما يتوجب التذكير، لأنّ المحكمة، في غمرة يأسها من استكمال ملف دارفور، قررت حفظ التحقيقات، وأحالت الملفّ إلى مجلس الأمن الدولي (كما فعلت سابقاً، مراراً في الواقع، لأنّ السودان، قبل كينيا وجيبوتي ومالي والكونغو وتشاد، لم تتعاون مع المحكمة في القبض على البشير).
ثمة، إلى هذا، اختبار ميداني واجهته المحكمة في صيف 2015 وكان معيارياً في نهاية المطاف؛ حين كانت دولة مثل جنوب أفريقيا، ذات ماضٍ كفاحي وحقوقي عريق ينتمي إلى إرث نلسون مانديلا ومناهضة نظام الأبارتيد العنصري الصريح، قد امتنعت عن تنفيذ أمر الجنائية الدولية وسمحت للبشير أن يزور البلاد ويشارك في قمة الاتحاد الأفريقي ويغادرها آمناً. ذلك الصدام لم يكن قضائياً، في أوّل المطاف مثل نهايته، بين حاكم انقلابي دكتاتوري مطلوب للمثول أمام قضاء أممي؛ وبين القاضي هانز فابريشيوس الذي أصدر مذكرة التحفظ على البشير، ويُعرف في جنوب أفريقيا بالشجاعة والرصانة والقرارات التاريخية. لقد كانت صداماً بين المؤسسة القضائية في البلد، التي طبّقت القانون واحترمت الدستور؛ وبين السلطة التنفيذية، ممثلة بالرئاسة أوّلاً، التي اعتبرت أنّ البشير رئيس قائم على رأس عمله، وهو ضيف البلد و»منظمة الوحدة الأفريقية» وهو لهذا يتمتع بحصانة لا يجوز المساس بها.
على مستوى آخر، أبدى بعض منظّري حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» غضبهم لأنّ هذه الحكمة لا تمارس سلطاتها إلا على القادة الأفارقة، وتتحامل على الدول الفقيرة وحدها، وهذا صحيح، بالطبع؛ وهي أداة من أدوات الإمبريالية المعاصرة، وفي هذا كثير من الخطل، حتى إذا كان جوهر الحجة سليماً من حيث مآلات عمل المحكمة، وليس من حيث تكوينها أو نظامها الداخلي. لافت، إلى هذا، أنّ الهجوم على المحكمة كان بمثابة طعن ضمني بنزاهة القضاء في جنوب أفريقيا أوّلاً؛ وكذلك ـ ولعله تفصيل لم يكن أقلّ خطورة ـ بمثابة تراجع عن خطّ أخلاقي في العلاقات الدولية، استنّه مانديلا وقامت ركيزته الكبرى على ضرورة ربط السياسة الخارجية بمعايير حقوق الإنسان.
وهذه سطور لا تحمل، البتة، أيّ مقدار من التعاطف مع البشير، وتسلّم استطراداً بأنه جدير بالمثول أمام المحكمة، وترى في القرار السوداني الأخير خطوة دبلوماسية وسياسية وقضائية صائبة تقرّب البلد أكثر من مجتمعات القانون والمحاسبة وطيّ صفحات الإفلات من العقاب. غير أنّ ما كان سيعطي الجنائية الدولية مصداقية أكبر، وأشدّ وضوحاً وعدلاً ومساواة، ويُسقط عن الممارسة بأسرها صفات النفاق والانتقائية والكيل بعشرات المكاييل المتباينة؛ لو حدث أن سُجّلت سابقة أولى ضدّ كبار مجرمي الحرب قبل صغارهم، في الأنظمة الديمقراطية والمتقدّمة قبل تلك الشمولية أو النامية أو الفقيرة من طراز أوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى والسودان. ثمة، في طليعة الأمثلة على عتاة مجرمي الحرب الكبار، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في غزو العراق وأفغانستان، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في الملفات ذاتها؛ ورؤساء حكومات الاحتلال من بنيامين نتنياهو وإيهود أولمرت وأرييل شارون، إلى إيهود باراك وإسحق شامير وإسحق رابين ومناحيم بيغن…
قد تبدو مطالبة كهذه أقرب إلى أضغاث أحلام، غير أنها من حيث المبدأ تظلّ معياراً واجب المناقشة في كلّ تقييم لأعمال الجنائية الدولية؛ فمساندة المحكمة خيار أخلاقي وسياسي وحقوقي، ومثله خيار وضعها على محكّ الكيل بمكاييل متماثلة، حتى إذا عزّ التنفيذ وماطل المنفذون وهيمن النفاق و»التشاطر» على الضعفاء وحدهم.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
—————————
بين البشير وبشّار…/ خيرالله خيرالله
تظلّ العدالة الانتقائية أفضل من الغياب الكامل للعدالة. أن يعاقب عمر حسن البشير بعدما أمضى ثلاثين عاما يتحكّم بالسودان ومصير السودانيين أفضل من ألّا يعاقب. سيأتي تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية تتويجا لنضال طويل خاضه الشعب السوداني من أجل التخلّص من نير الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف الذي حوّل بلدا واعدا مثل السودان إلى بلد يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل العودة إلى حكم مدني. لا يزال السودان يحتاج في أيّامنا هذه رعاية العسكر، ولكن إلى عسكر مستنيرين يعرفون كيفية التمهيد لتسليم السلطة إلى المدنيين في مرحلة معيّنة.
ثمّة من سيقول إنّ هناك من ارتكب فظائع تفوق بكثير ما ارتكبه البشير والذين كانوا حوله. التركيز في هذا المجال على ما فعله بشّار الأسد الذي ورث سوريا عن والده وحوّلها إلى بلد تحت خمسة احتلالات صار معظم أهله مشرّدين أو مهجّرين. على الرغم من ذلك، لا يزال بشار متمسّكا بالسلطة رافضا أن يأخذ علما بما يدور في سوريا وعدد القتلى الذين ذهبوا ضحية نظامه. تقدّر الهيئات الدوليّة المحايدة عدد ضحايا الأسد الابن بنحو نصف مليون. بالنسبة إليه، لم يحصل شيء في سوريا التي تكفّل بتفتيتها…
المقارنة بين فظائع البشير وفظائع بشّار ليست كافية لتبرير ما ارتكبه الرئيس السوداني السابق في حقّ السودان والسودانيين المقارنة بين فظائع البشير وفظائع بشّار ليست كافية لتبرير ما ارتكبه الرئيس السوداني السابق في حقّ السودان والسودانيين
ليست المقارنة بين فظائع البشير وفظائع بشّار كافية لتبرير ما ارتكبه الرئيس السوداني السابق في حقّ السودان والسودانيين. ليست المقارنة كافية للقول إنّ تسليمه المتوقّع للمحكمة الجنائيّة بمثابة ظلم له نظرا إلى أن بشّار مازال حرّا طليقا يسرح ويمرح في دمشق ومحيطها.
المهمّ في الأمر أنّ الموقف الذي اتخذته السلطات السودانية والقاضي بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة يظلّ محطة تحتاج إلى التوقف عندها. يعود ذلك إلى أنّ مجرّد وجود المحكمة الجنائيّة الدوليّة يثبت أنّ هناك عدالة دوليّة تلاحق المجرمين وأنّ لا مجال للإفلات من العقاب في نهاية المطاف. هذا ما حصل مع مرتكبي الجرائم في يوغوسلافيا في الحروب التي خاضتها شعوبها بين بعضها البعض. ارتكب جنرالات ومسؤولون صرب مجازر في حق الآخرين، خصوصا في البوسنة. وجد أخيرا من يضع حدّا لهؤلاء ويؤكّد أنّ ثمّة نوعا من العدالة في هذا العالم… وأن السياسة شيء والبهلوانيات شيء آخر.
مارس البشير كلّ أنواع البهلوانيات منذ تولى السلطة إثر انقلاب عسكري برعاية حسن الترابي في العام 1989. استطاع التخلّص من الترابي الذي اعتقد أنّ في استطاعته استخدام صغار الضباط خدمة لمشروع كان يؤمن به. كان هذا المشروع، الذي ذهب زعيم الإخوان المسلمين في السودان ضحيّته، غير قابل للحياة وقد استخدم البشير أخطاء الترابي ليضع حدّا لطموحاته. كاد ينفّذ حكم الإعدام بالترابي مرّتين لولا تدخّل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي ربطته به علاقة جيّدة لسنوات طويلة.
في كلّ ما قام به البشير طوال ثلاثين عاما، لم يكن لديه من همّ سوى الاحتفاظ بالسلطة. أطلق ميليشياته في كلّ الاتجاهات من أجل إثبات أن لا أحد يمكن أن يتفوّق عليه في القمع في الداخل السوداني. تبقى أحداث دارفور وما ارتكبه الجنجويد خير دليل على ذلك… وعلى مدى شبقه إلى السلطة.
كان مثيرا أنّ البشير امتلك شخصيات عدّة. عندما وجد أن القمع لا ينفع، لجأ إلى المرونة. في التاسع من تموز– يوليو من العام 2011 انفصلت جمهورية جنوب السودان عن الشمال لتصبح أحدث دولة مستقلة في العالم، وذلك نتيجة لاتفاق سلام أبرم في العام 2005 أنهى أطول حرب أهلية في أفريقيا.
من أجل السلطة، كان كلّ شيء مبرّرا من وجهة نظر البشير الذي استخفّ بالمحكمة الجنائيّة الدوليّة في البداية. اعتقد أن مجرّد قبوله بتقسيم السودان سيكفل له البقاء في السلطة إلى مدى الحياة. لم يكتشف سوى متأخّرا أن الشعب السوداني ما زال يمتلك القدرة على مقاومة نظامه المتخلّف وذلك على الرغم من الفشل الذريع للسياسيين السودانيين والأحزاب التي يمثلونها في كلّ مرّة تسلموا فيها السلطة منذ الاستقلال في العام 1956. سهل السياسيون السودانيون تولي اللواء إبراهيم عبود السلطة في تشرين الثاني – نوفمبر 1958 قبل أن يخلعه الشعب في 1964 في ظلّ تظاهرات كان شعارها “إلى الثكنات يا حشرات”. أجبر السودانيون العسكر على العودة إلى ثكناتهم ليقوم مجددا حكم مدني أنهاه جعفر النميري في 1969 مناديا بشعارات وحدوية مضحكة مبكية من نوع تلك التي كان يستخدمها جمال عبدالناصر!
تظلّ العدالة الانتقائية أفضل من الغياب الكامل للعدالة
يبقى أن تجربة السودان مع البشير والمحكمة الجنائية تبعث ببعض الأمل في اتجاهين. الأوّل أن يتعلّم السودانيون من التجارب التي مروا بها منذ الاستقلال وأن تكون المرحلة الانتقالية الحالية فرصة كي يلتقط البلد أنفاسه. ما يدعو إلى التفاؤل، وإن نسبيا، أن هناك نوعا من التوازن بين العسكر والمدنيين… في انتظار ولادة سودان جديد بعيدا عن شعارات البشير والنميري. أي سودان على تماس مع ما كلّ ما هو حضاري في المنطقة والعالم، لا علاقة له بالشعارات الناصريّة والإخوانيّة في الوقت ذاته. سودان متصالح مع نفسه أوّلا.
أمّا الاتجاه الثاني الذي يدعو إلى التمسّك بالأمل، فهو أنّ العدالة آتية يوما. لا يمكن لما ارتكبه النظام السوري في حربه المستمرّة بطريقة أو بأخرى على السوريين أن يبقى من دون عقاب.
كان البشير رئيس الدولة العربي الوحيد الذي زار دمشق في مرحلة ما بعد بدء الثورة الشعبيّة في سوريا في العام 2011. التقى بشّار. الأكيد أنّهما بحثا في أفضل الوسائل التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعبين السوري والسوداني. ليس ما يشير إلى الآن أن بشّار تعلّم شيئا من البشير، لكن ما لا بدّ من الإشارة إليه أنّ خيطا رفيعا يجمع بين الرجلين. بين البشير وبشّار. يتمثّل هذا الخيط في الاعتقاد بأنّ البهلوانيات يمكن أن تحلّ مكان السياسة الواضحة… التي تعني قبل أيّ شيء آخر أن بلدانا مثل السودان وسوريا تحتاج إلى تغيير في العمق يتجاوز الأشخاص إلى طبيعة النظام وإلى التوقف عن المتاجرة بالشعارات والتنقل بين إيران وروسيا أو بين روسيا وإيران. فما كشفته الأحداث أن أكثر ما يجمع بين البشير وبشّار أنّ أيا منهما لم يعرف ما هو شعبه وما طبيعة هذا الشعب. البشير لم يعرف السودانيين… وبشّار لم يعرف السوريين!
إعلامي لبناني
العرب
———————————-
البشير الى المحكمة الدولية ما هي الرسالة؟ / محمد الرميحي
يبدوأن الأمر استقر لدى القيادة السودانية على تسليم الرئيس السابق عمر البشير وعدد من معاونيه الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي من أجل محاكمته بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية، وهي تهمة ثقيلة وربما تحتاج الى سنوات من التقاضي. دوافع القيادة السودانية عديدة، منها عدم تورطها في محاكمة محلية قد لا ترضي مخرجاتها أطرافاً سودانية فيبدأ الخلاف وثم الشقاق وربما الاقتتال من جديد، فهي بذلك تبعد ذلك الاحتمال، وثانياً التعامل مع المجتمع الدولي كما يتوقع، بخاصة أن السودان يحتاج الى الكثير من حسن النوايا والمساعدات من العالم. آخر لقاء قام به البشير مع قيادة عربية كان مع الرئيس بشار الأسد، منتصف كانون الاول (ديسمبر) 2017 بعد أيام قليلة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في شوارع السودان والتي أفضت الى تغيير النظام، وقد أثار وقتها سخط المعارضة السورية وكذلك السودانية. كان يبحث عن حليف في مخيم (المقاومة) من أجل أن تمده إيران بالعون، وهي من المفروض تشترك معه في أيديولوجية الحكم بهوامش واسعة، إلا أنه لم يكن باستطاعتها ذلك، كان حمل البشير السياسي والاقتصادي ثقيلاً حتى على من يريد المساعدة.
حكم البشير وحزبه (الإنقاذ) ثلاثين عاماً حصد فيها السودان المر، فقد دخل في حرب مع الجنوب حتى العظم، ثم رضخ بعد استهلاك الموارد للتقسيم، وكان الجنوب قد أعطي الكثير من الوقود المعنوي والسياسي منذ أن أصدر الرئيس جعفر النُميري قوانين 1983 التي أعلن فيها تطبيق الشريعة الإسلامية وكونه (إمام المسلمين) والتي كانت فراراً من واقع اليم زينه له العراب حسن الترابي، من وقتها بدأ الشقاق الشمالي الجنوبي ولكنه زاد بعد ما سمي بثورة الإنقاذ 1989 والتي هي انقلاب يسبق انقلاب كما قال البشير في أحاديثه الى رهطه، والتي كان من المفروض أن تكون سرية، ولكن أشرطة الاجتماعات حصلت عليها محطة “العربية” التلفزيونية واذاعتها متسلسلة.
وكما قال البشير إنه استبق عام 1989 انقلاباً آخر على الحكم الديموقراطي السوداني وقتها، لأن هناك مجموعة من الضباط البعثيين السودانيين كانوا ينوون الانقلاب فسبقناهم، ثم قال بفخر في تلك الأشرطة انهم اعدموا! ولم تعرف مقابرهم إلا بعد الثورة الشعبية الأخيرة التي انتصرت في نيسان (أبريل) 2019 بعد تضحيات كبيرة.
نقل عن قادة الجنوب تهكماً انه لولا الحياء لأقيم تمثال في جوبا العاصمة الجنوبية لرجال الإنقاذ على مساهمتهم الجليلة في الدفع بأبناء الجنوب لمقاومتهم جراء تصرفاتهم الخرقاء. أزمة إقليم دارفور السوداني وهو نقطة تماس بما يعرف بالحزام الفرانكفوني (الدول الأفريقية التي كانت تحكمها فرنسا) غني بالمواد الخام وبخاصة النفط فقامت بين قبائله صراعات دموية كانت حكومة البشير طرفاً فيها، ولما طال النزاع قبلت حكومة البشير بنشر قوات دولية لحفظ الأمن بعد أن ارتكبت مجازر في حق أبناء الإقليم، وها هو اليوم الذي يطالب فيه بتسليم البشير للمحاكمة الدولية بسبب تلك الأفعال.
اذا تم تسليم البشير الى محكمة العدل الدولية، فهو أول رئيس عربي سابق يخضع لهذا الإجراء، وهنا أهمية التسليم. معنى ذلك أن السودان يصبح سابقة قد تحتذى، أو يتوقع المجتمع الدولي أن تحتذى لتسليم كل من قام بإبادة جماعية لشعبه الى المحكمة. صحيح أن هناك سابقة دولية بإقامة محكمة دولية للنظر في مقتل رفيق الحريري، إلا أن تلك المحكمة كانت خاصة، أما المحكمة الجنائية الدولية التي تأسست عام 2002 فهي أول محكمة دولية مؤسسية من أجل النظر (بمحاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب) بحسب قانون روما الذي أنشأها. ليس هناك قلة ممن تقع عليهم شبهة (ارتكاب جرائم ضد الإنسانية) في منطقتنا، إلا أن قانون المحكمة وضع شروطاً صعبة لقيامها بعملها، وهي شروط ربما فرضها الحرص على أن لا يسلم أي متهم من دون أن تكتمل إجراءات التدقيق في أعماله في بلده الأصلي، ويبدو أن القيادة السودانية فعلت ذلك.
تداعيات مثول البشير والمجموعة المصاحبة له ستكون كبيرة على المنطقة. سوف يجري سباق لإخفاء الأدلة وتغييب الشهود من قبل أولئك الذين ولغوا في دماء شعوبهم في العقود القليلة السابقة في الساحة العربية، وقد يتحرز بعضهم أكثر، الآن الحقائق التي قد تظهر في سير المحاكمة قد تُظهر الكثير من المعلومات في من عاون وساعد على ارتكاب جرائم دارفور، وربما أخرى، بل قد يتطرق النقاش في قاعة المحكمة الى النظر على أي قاعدة أيديولوجية تم ارتكاب تلك المجازر، لأن نظام البشير لم يكن فقط نظاماً عسكرياً، بل الى جانب ذلك كان نظاماً ايديولوجياً، ارتكبت بعض الأفعال الشائنة في حق الآخرين تحت شعاراته.
النهار العربي
—————————–
بشير واحد لا يكفي/ إبراهيم الزبيدي
في العام 2003 تمرد مسلحون من أهالي دارفور جنوب الصحراء ضد نظام الرئيس السوداني المعتقل حاليا عمر البشير، فردَّ يومها بحملة قصف جوي ضد تجمعات المسلحين والمدنيين، مع مداهمات رافقتها جرائم قتل واغتصاب جماعي. وتقول المحكمة الجنائية الدولية إن عدد القتلى والمشردين وصل إلى 300 ألفا.
وبعد ست سنوات من التحقيقات المعقدة المطولة أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 مذكرة توقيف بحق عمر البشير.
ونكاية بالعدالة الدولية أعيد انتخابه في 2010 لفترة رئاسية ثانية. وفي انتخابات عام 2015 حصل على 5 ملايين و252 ألفا و478 صوتًا من مجموع المصوتين البالغ 5 ملايين و584 ألفا و863 صوتًا. أي أن 279 فقط من الناخبين لم يصوتوا للرئيس، ربما بسبب ظروف طارئة منعتهم من التصويت!
وحين تقرر إنهاء حكم البشير خرجت الجماهير السودانية لا للهتاف بحياة المجاهد عمر البشير هذه المرة، بل بسقوطه وبطانته، فأجبرته في أبريل 2019 على التنحي ليتسلم المسؤولية مجلسٌ عسكري انتقالي بقيادة النائب الأول للرئيس وزير الدفاع الفريق أحمد عوض بن عوف.
ولكن الجماهير الغاضبة أصرت على طرده، باعتباره من بقايا النظام السابق، فتقدم باستقالته، وحل محله الفريق أول عبدالفتاح البرهان الذي قاد حركة التطبيع مع إسرائيل، وتصالح مع أميركا، ورفع السودان من قائمة الدول راعية الإرهاب.
وفي السابع عشر من أبريل 2019 نُقل البشير من الإقامة الجبرية إلى سجن الخرطوم، وحوكم بتهمة “التحريض والمشاركة” في قتل المُتظاهرين، وبالفساد بعد العثور على 130 مليون دولار في منزله.
الحكومة السودانية أعلنت عن تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلى هنا والحكاية تبدو وكأنها عدالة دولية حقيقية، لكن المسألة التي ينبغي أن تناقش هي أن هذه العدالة الانتقائية تمسك بناس وتعمى عن ناس
وقبل أيام وبعد اثنتي عشرة سنة، أعلنت الحكومة السودانية عن تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهم الرئيس ووزير دفاعه ووالي شمال كردفان السابق.
إلى هنا والحكاية تبدو وكأنها عدالة دولية حقيقية لا تسكت ولا تتسامح مع الحكام الذين ينتهكون حقوق الإنسان، ويهددون السلم والأمن الدوليين.
ولكن المسألة التي ينبغي أن تناقش هي أن هذه العدالة الانتقائية تمسك بناس وتعمى عن ناس.
فرغم فداحة جرائم عمر البشير ضد مواطنيه فإنه يبقى تلميذا فاشلا صغيرا إذا ما قورن ببشار الأسد وبوتين والمرشد الأعلى الإيراني وحسن نصرالله وقادة الميليشيات العراقية والحوثيين.
فلم يمر يوم واحد على بشار، مثلا، منذ أوائل العام 2011 وحتى اليوم، بدون قصف مدن وقرى وأحياء بالمدافع والقنابل والبراميل المتفجرة، إضافة إلى الاعتقالات الجماعية والتعذيب والتهجير والتغييب.
ورغم كل ذلك فقد أدى اليمين الدستورية في السادس عشر من يوليو 2014 لسبع سنوات أخرى، بعد حصوله على 88.7 في المئة من الأصوات. ثم أُعيد انتخابه لولاية جديدة في مايو الماضي ولغاية 2028.
ومع جيوش بشار الأسد وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية المكلفة من النظام الإيراني بحماية النظام السوري فإن قوات الاحتلال الروسي في سوريا، من جانبها، منذ دخولها إلى سوريا في 2015 وحتى اليوم، تشنُّ حملات قتل جماعي عام شامل ضد المدنيين في حلب وإدلب ودير الزور ومناطق أخرى من سوريا مستخدمة أنواعا جديدة من الأسلحة مثل الخراطيم المتفجرة والنابالم والقنابل العنقودية والقنابل الحارقة والفوسفور الأبيض المحرم دوليًا.
ثم إن ما فعله النظام الإيراني وما يفعله في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن والخليج العربي وخليج عمان، منذ قيامه في العام 1979 وحتى اليوم، يجعل جرائم الروس والأسد والبشير، مجتمعةً، بعوضةً أمام جمل.
ولكن بدلا من أن تغضب العدالة الدولية وترسل قوات غزو مسلحة عالمية لإلقاء القبض على المرشد الأعلى الإيراني ومساعديه العسكريين والأمنيين والمدنيين، ومنهم ابراهيم رئيسي قاتل 30 ألف مواطن إيراني، فقد شارك الاتحاد الأوروبي في حفل تنصيبه رئيسا للجمهورية، وتتمنى الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية أن يتواضع ويتساهل ويعود إلى طاولة المفاوضات.
ولا يخفى على المحكمة الجنائية الدولية سجلُّ الحشد الشعبي الإيراني العراقي المليء بانتهاكاتٍ ترقى إلى درجة “تطهير عرقي” مارسها في المدن والقرى المحررة من “داعش”، بحسب منظمات محلية ودولية. وقد تنوعت جرائمه في المناطق السنية بين القتل والإخفاء القسري، وقتل مدنيين وأسرى تحت التعذيب، ونهب الآلاف من المنازل قبل حرقها ونسفها، بالإضافة إلى تدمير قرى بالكامل ومنع أهلها من العودة إليها بهدف تغيير التركيبة السكانية فيها.
كما أن الميليشيات الولائية التابعة لإيران تواصل جرائم القتل العمد والاغتيال والخطف والاغتصاب ومصادرة الأراضي والأموال، ثم يسجلها القضاء العراقي ضد مجهول.
الجماهير الغاضبة أصرت على طرده
والأخطر من كل ذلك أن المنتسبين إلى الحشد الشعبي مكفولون من قبل الحكومة العراقية ويحملون سلاحها ويرتدون ملابسها ويقتلون باسمها علنا دون خوف ولا حياء.
أما حزب الله اللبناني فيكفي أن متخصصين أميركيين في مجال مكافحة الإرهاب وثقوا أنشطةً مشبوهة وعمليات إرهابية نفذها على مدار 38 عاما.
وتستند العملية الأرشيفية لأنشطة حزب الله على وثائق من مصادر أساسية وتقارير حكومية رُفعت عنها السرية، إضافة إلى وثائق محاكم وشهادات تم الإدلاء بها أمام الكونغرس الأميركي.
ويقول القائمون على الخارطة إنها أكبر قاعدة بيانات للوثائق المفتوحة المصدر حول أنشطة حزب الله الموالي لإيران والمتهم بتنفيذ خططها التخريبية في منطقة الشرق الأوسط ودول العالم.
أما سجلُّ الحوثيين في الانتهاكات التي اعتبرها العالم الغربي نفسُه جرائم ضد الإنسانية فليس بقليل.
فقد أصدرت مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان تقريرا يؤكد ارتفاع عدد جبهات القتال بين أطراف النزاع في اليمن من 36 في عام 2019 إلى نحو 50 جبهة قتال في مطلع عام 2021، كان آخرها تصعيد جماعة الحوثيين غير المبرر في مأرب شمال اليمن، وهو التصعيد الذي يهدد حياة الآلاف من المدنيين، فضلاً عن تهديد 800 ألف نازح كنتيجة مباشرة لتصاعد الأعمال العدائية من قبل جماعة الحوثي. ويشير التقرير إلى ارتكاب الحوثيين في عام 2020 لنحو 1700 انتهاك تتعلق بالاستهداف المباشر للمدنيين، ناهيك عن المسيّرات التي يرسلها الحوثيون إلى مدن سعودية وسفن تجارية تنفيذا لأوامر النظام الإيراني.
أليس من العدل والضروري القول بأن عمرا بشيرا واحدا لا يكفي؟
كاتب عراقي
العرب
———————————-
=======================