المنظمات غير الحكومية: دور وشبهة/ بلال خبيز
نشهد منذ عقود تعاظمًا لا سابق له في أدوار المنظمات غير الحكومية التي لا تتوخى الربح. هذه المنظمات باستقراء بنيتها الأساسية لا تستطيع السير إلا باتجاه واحد: من البلد المتقدم إلى البلد المتخلف حصرًا. ذلك أنها في أصل تشكيلها تفترض أن القيم التي تم التواطؤ عليها في البلدان المتقدمة هي الأصح والأفضل والأنسب لمستقبل البلاد الأخرى التي لا يزال موقعها في خانة التخلف أو النمو. التقسيم نفسه إلى بلدان متقدمة وأخرى متخلفة يفترض هذا الافتراض الذي حين يجري تبنيه على نطاق واسع يصبح من الصعب مناقشة آثاره ومترتباته ومساءلة مساراته على أي وجه من الوجوه. ورغم بعض المحاولات التي جرت لتمكين الناشطين المحليين في هذه المنظمات من التقرير في السياسات العامة المفترض أن تتبعها في تقديمها المساعدات المادية والثقافية على حد سواء، إلا أن هذه المحاولات الخجولة لم تغيّر الكثير في طبيعة الاتجاه الأحادي الذي تسير عليه المساعدات والأفكار والخدمات التي تقدمها وتسعى إليها هذه المنظمات.
إذًا الترتيب جاهز والمراتب معدة سلفًا: نحن، كمنظمات غير حكومية، نصدر من مركز العالم المتقدم. دولنا دول متقدمة على كل الأصعدة، ونسعى لمساعدة شعوب تعيش في ظل أنظمة حكم متخلفة وفاسدة، لتمكينها من التقدم في مسار الديمقراطية والتطور. لكن نشاط هذه المؤسسات في دول فقيرة، على ما لاحظ لوينيداس دونيسكس، ينحو إلى تعطيل عمل الدولة والحلول محلها تمامًا. لتصبح الدولة ومؤسساتها بعد وقت قصير عالة على المجتمع بأسره ومرتعًا لفساد لا يعود ممكنًا معه اجتثاثه أو وقفه. ففي هاييتي بات معظم النظام التعليمي والإغاثي في عهدة هذه المؤسسات. لكن سنوات من عمل هذه المؤسسات النشط لم تنتج أي تقدم في مستوى معيشة الهاييتين، فضلًا عن أن معظم موظفي هذه المؤسسات هم من الأجانب ويتقاضون رواتب مرتفعة، بخلاف أحوال الشعب الهاييتي الذي ما زال واحدًا من أفقر شعوب الأرض.
يرى أنتوني جدنز أن استشراء نشاط المنظمات غير الحكومية حصل متوافقاً ومتزامنًا مع صعود الليبرالية الجديدة، التي تتشكل من مزيج مضطرب من الداعين إلى تحرير الأسواق من كل رقابة حكومية وتقليص دور الدولة إلى حده الأدنى، من جهة أولى والمحافظين المتوجسين من كل الغرباء داخل الحدود وخارجها من جهة ثانية. وهذا زواج لم يلبث أن واجه فشله، لأن تحرير السوق يتناقض جذريًا مع الدعوة إلى الانعزال. لكن هذا الزواج يلقى رواجًا خارج حدود الدول المتقدمة. فالمحافظون في الدول المتقدمة الذين ينظرون بعين الريبة والشك إلى الأعراق والشعوب الأخرى، يساهمون، عن وعي أو من دون وعي، في تصنيف شعوبهم الصافية بمراتب أعلى من الشعوب الأخرى، وتاليًا في اعتبار قيمها وأفكارها وثقافتها جديرة بأن تسود لدى الشعوب الأقل تقدمًا، وعلى النحو نفسه فإن تحرير السوق يعني بالنسبة لأربابه، ابتكار المنتجات واختراع الحاجة إليها بعد ابتكارها، ما يعني في حقيقة الأمر، أن فرض الحاجات على الشعوب “المتخلفة” يتبع فرض للمنتجات التي تلبي هذه الحاجات. وهذا ما يخلق على نحو أكيد، فئات من الشعوب “المتخلفة” ترى في علمها وثقافتها، واتصالها بالعصر، ما يؤهلها لتكون أعلى كعبًا من الشعب الذي ما زال يعيش في حظيرة التقليد. وهؤلاء هم الذين أوكلت إليهم مهمات التقرير في السياسات العامة لهذه المنظمات في بلدانهم. وغالبًا ما يتماهى هؤلاء المحليون مع خطاب الممول بافتراض أن المحليين غير “المعاصرين” لا خطاب لهم أصلًا، أو أنهم يملكون خطابًا معوقًا، ويجدر بهم التخلص منه. هكذا استُوردت في العقود الماضية أفكار مبتسرة عن الديمقراطية والتقدم والمعاصرة، واعتُمدت وسائل ومنصات لتوعية المحليين “المتخلفين” والارتقاء بهم إلى مرتبة الشعوب المتقدمة.
لكن الأزمات لا تجد حلولًا لها رغم حيوية ناشطي هذه المنظمات، وكثيرًا ما يضرب اليأس من التقدم قطاعات واسعة من هذه المؤسسات. فلا يعود ثمة من خطاب يجيدون ترداده سوى نعي البلاد الذين وظفوا لتطويرها، والطلب الموارب والصريح لتمكينهم من الهجرة إلى حيث تنتمي ثقافتهم وطريقة عيشهم في البلدان المتقدمة.
ليست هذه المنظمات مجهولة في منطقتنا العربية. ثمة نشاط حيوي يقوم بها ناشطوها في معظم دول الأزمات، من مصر إلى فلسطين إلى لبنان وسوريا وحتى الأردن. ورغم أن بعض هذه المنظمات تعمل وفق مبادئها، بحسن نية وصفاء سريرة. إلا أن كثيرًا من الناشطين في هذه المنظمات يتحولون بعد وقت من التواصل الحصري مع الممولين، إلى السعي لتلبية أهواء هؤلاء الممولين ورغباتهم حصرًا، ويصبحون يومًا بعد يوم أضيق صدرًا بأي نقد يوجه لهم، وأكثر جرأة على وصم المعترضين على سياساتهم بالمتخلفين والمرضى والجاهلين الأميين.
في لبنان لم تتردد ناشطة معروفة في وصم منتقدي هذه المؤسسات بالمرض والجهل في وقت واحد، بافتراض أن ناشطي هذه المؤسسات هم الأصحاء حقًا، بدليل أن الغرب المتقدم اختارهم لتنوير أهل هذا البلد وتعليمهم كيف يجدر بهم أن يعيشوا.
الترا صوت