صفحات الحوار

لؤي صافي: المعارضة السورية لن تحصل على احترام دولي ما لم تشكّل تيّارًا له رؤية واحدة

غسان ناصر

يؤكّد الكاتب والمفكّر والأكاديميّ السياسيّ السوريّ المعارض الدكتور لؤي صافي، في حواره مع مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ضرورة تشكيل تيّار سياسيّ وطنيّ عابر للمكوّنات السوريّة المختلفة، يقوم على التشبيك بين مشاريع ومبادرات ومنظّمات حقوقيّة ومدنيّة وسياسيّة، ويعمل وفق خطّة مشتركة. ويعدّ هذا الطرح فكرة جديدة على الفضاء السياسيّ السوريّ، القصد منها تشكيل البديل السياسيّ الضروريّ للدفع بمطالب التحوّل الديمقراطيّ في البلاد.

ضيفنا من مواليد مدينة دمشق، وتلقّى علومه الثانويّة والجامعيّة فيها، ثمّ حصل على البكالوريوس في الهندسة المدنيّة، وأتبعها بتحصيل الماجستير، ثمّ الدكتوراه في العلوم السياسيّة من “جامعة وين” في ولاية ميشغن الأميركيّة. ويعدّ صاحب «دولة المواطنة» من أبرز الناشطين السوريّين في دعم ثورة الحرّيّة الكرامة، منذ اندلاعها في منتصف آذار/ مارس 2011، وأحد قادتها السياسيّين المؤثّرين فيها، وهو من الداعين إلى الوحدة الوطنيّة بين أبناء الشعب السوريّ، على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة والإثنيّة والثقافيّة والسياسيّة، تحت لواء دولة مدنيّة تعدّديّة تقوم على سيادة القانون وتساوي المواطنين في الحقوق، وهو من الداعمين الرئيسيّين للمعارضة السوريّة الديمقراطيّة في سورية منذ عام 2005، وتُعَدُّ جهوده في هذا المجال امتدادًا لمساهماته في حركات التحوّل الديمقراطيّ في الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ.

قاد الدكتور لؤي صافي “لقاء التنسيق الديمقراطيّ” الذي وضع الأسس لقيام “المجلس الوطنيّ السوريّ”، ضمن ثلّة من الناشطين أصبحت تعرف باسم “الكتلة الوطنيّة المؤسّسة”. وساهم في النقاشات التي أدّت إلى الإعلان عن “المجلس”، في الثاني من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2011، في مدينة إسطنبول، بوصفه عضوًا في اللجنة التحضيريّة ورئيسًا للجنة الإداريّة فيها، وهو حاليًّا عضو في أمانة “المجلس الوطنيّ السوريّ” العامّة، وكان عضوًا في الهيئة السياسيّة في “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة” والمتحدّث الرسميّ باسمه. وسبق أن ساهم في تأسيس “المجلس السوريّ الأميركيّ”، وتولّى رئاسته منذ تأسيسه عام 2005، و“المجلس” عبارة عن منظّمة أهليّة ناشطة في الولايات المتّحدة، تمثّل أكبر تجمع سوري في المهجر. وهو عضو مؤسّس في مجلس إدارة “مركز دراسة الإسلام والديمقراطيّة”، وزميل في “معهد دراسة السياسات الاجتماعيّة”، وزميل في “مركز التفاهم الإسلاميّ المسيحيّ” في “جامعة إنديانا” و“جامعة بيردو” في أنديانابولس من ولاية إنديانا الأميركيّة.

ويُعَدُّ صاحب «إعمال العقل من النظرة التجزيئيّة إلى الرؤية التكامليّة» من الناشطين الحقوقيّين المنافحين عن حقوق الجالية العربيّة والإسلاميّة، في الولايات المتّحدة الأميركيّة والغرب عمومًا، وتغطي كتاباته عددًا من القضايا، من أهمّها قضايا حقوق الإنسان والدين والثقافة والسياسات العامّة والإسلام والعولمة.

هنا نصّ حوارنا معه:

بداية، كيف تقدّم الدكتور لؤي صافي لقرّاء مركز حرمون؟ وما طبيعة العمل الذي تقوم به الآن؟

شغلتني منذ مرحلة مبكرة من حياتي قضيةٌ ملأت تفكيري واهتمامي وقادتني إلى المسار الذي ميّز معظم جهودي وأعمالي: حالة الفوضى والتناقضات التي يعيشها المجتمع السوريّ والمجتمعات العربيّة عمومًا.

نشأتُ في مجتمع يعتبر نفسه سليل حضارة عريقة، يفتخر بالانتماء إليها ويباهي بها العالم، ولكنّه لم يقدّم خلال القرنين الماضيين أيّ مساهمة حضارية متميّزة. وترعرعت في بيئة شامية تتباهى بخصال وامتيازات حاكتها في مخيالها الجمعي وردّدتها في خطابها المحلّي، ولكنّها عجزت عن التمثّل بها في سلوكها العامّ، لأنّها قامت على وعي زائف تولّد عبر قراءة حالمة للذات العربيّة صاغها شعراء وأدباء وخطباء معاصرون، وردّدها الفنانون والسياسيّون والوعاظ الذين حوّلوا الفشل إلى نجاح والهزيمة إلى انتصار، كما حوّلوا تمجيد أصحاب المال والسلطة إلى خطاب قوميّ ودينيّ رنّان.

التناقضات التي عشتها في حياتي اليوميّة، وأنا شاب يافع يبحث عن معنى وجوده ودوره في الحياة ويسعى إلى معرفة جذور المفارقات العجيبة التي يراها بين كلام المتصدّرين للمشهد العامّ وأفعالهم، دفعتني إلى القراءة والبحث لفهم أبعاد الفوضى الفكريّة والاجتماعيّة التي نشأت فيها. التناقضات الواضحة بين الوعي والحقيقة، وبين القول والفعل، التي عايشتها مبكرًا مع بداية تشكّل وعيي في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي كثيرة. من تلك التناقضات التي شهدتها في مقبل حياتي، على سبيل المثال، التفاوت الاجتماعي الكبير بين المدينة والقرية. نشأتُ في أسرة متوسطة من الأسر الدمشقية، ولكنّني صدمت بالتفاوت الاجتماعي الكبير في مستوى المعيشة والتعليم بين مدينة دمشق التي نشأتُ فيها وقراها التي تحيط بها من كلّ جانب، ولا تبعد عنها سوى أميال قليلة، مثل قرى داريّا ودوما والضمير وقطنا والمزّة. الأمور تغيّرت بصورة كبيرة منذ ذاك التاريخ، ولكنّها تغيّرت بطريقة زادت من عمق الفجوة التي تفصل بين السوريّين، وولّدت تناقضات جديدة لم يعرفها المجتمع السوريّ والعربيّ سابقًا، وأدّت إلى تراجع القيم الإنسانيّة وانتشار الفساد وسوء استخدام المؤسّسات العامّة الذي ما زال ينخر في المجتمع السوريّ وينقله من قاع إلى قاع.

اخترتُ دراسة الهندسة المدنيّة في المرحلة الجامعيّة، ولكنّي أمضيت الجزء الأكبر من وقتي في قراءة كتب التاريخ والسياسة والاقتصاد والفلسفة بكلّ أشكالها. اهتماماتي الفكريّة قادتني أخيرًا إلى دراسة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، بعد سفري إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، ودفعتني إلى استبدال المسار الهندسيّ والمهنيّ بمسار فكريّ أكاديميّ، بعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسيّة عام 1992. عملت في جامعات وبلدان عديدة منذ ذاك الحين، وتنقلت بين جامعات الولايات المتّحدة وجنوب شرق آسيا والخليج العربيّ.

اهتماماتي الفكريّة دفعتني أيضًا إلى ممارسة النشاط العامّ، وإنشاء العديد من مراكز البحوث والدراسات والتفكير التي اهتمّت بالإصلاح الثقافيّ والسياسيّ والفكريّ، ودعم جهود التحوّل الديمقراطيّ. حاضرتُ، خلال العقود الثلاثة الماضية، في عشرات المدن من شرق آسيا وجنوب شرق آسيا إلى أوروبا وأميركا، مرورًا بشبه القارة الهنديّة والدول العربيّة. وكتبت خلال تلك الفترة 20 كتابًا، وعددًا كبيرًا من الأبحاث والدراسات، نصفها باللغة الإنكليزيّة. كما انخرطت في جهود مكثفة للدفع نحو تحوّل ديمقراطيّ منذ أن تولّيت رئاسة “المجلس السوريّ الأميركيّ”، الذي ساهمت وثلّة من السوريّين الأميركيّين بتأسيسه عام 2005.

من مؤلفات صافي

الثورة قامت عمليًّا بتفكيك نظام الأسد

أين تقف اليوم تجاه “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”؟ وماذا تقول، لو قُيّض لك تقييم تجربتك في العمل السياسيّ في العقد السوريّ الدامي؟

“الائتلاف” منظّمة أسّسها المعارضون السوريّون في ظروف صعبة، وكان لي الشرف أن شاركت في الحوارات التي انتهت بالإعلان عن تأسيسه في نهاية عام 2012. وكنت واحدًا من الذين وضعوا فيه آمالًا كبيرة لتجاوز حالة الاستبداد والفساد في سورية، ولكنّها تحوّلت بسبب عبث الدول الداعمة، وغياب الرؤية الوطنيّة الواضحة، وفقدان الانضباط التنظيميّ الذي يحترم قيم وقواعد العمل العامّ، والافتقار إلى التخطيط الإستراتيجيّ الذي يضع الأولويّات ويستفيد من المهارات والقدرات، إلى أداةٍ استخدمتها الدول الإقليميّة لتحقيق مصالحها الخاصّة، بعيدًا عن الغايات التي قامت الثورة السوريّة العظيمة لتحقيقها.

يمكن إعادة عجز “الائتلاف” عن تحقيق الأهداف التي قام من أجلها، إلى جملةٍ من الأسباب الداخليّة والخارجيّة، وهي أسباب ترتبط في تقديري في المقام الأوّل بالمشكلة الثقافيّة السياسيّة السوريّة، التي تدفع السوريّين إلى التنافس على مواقع القيادة السياسيّة بأيّ ثمن، ودون قواعد وقيم أخلاقيّة تحترم المصلحة العامّة، وهو تنافس غالبًا ما يؤدّي إلى شق الصفوف وتدمير المؤسّسات العامّة وتكريس الاستبداد والفساد.

“الائتلاف” شكّل، منذ اللحظة الأولى، خطوة مليئة بالآمال والوعود، وهي خطوة كانت ضروريّة في تقديري، بعدما عجز “المجلس الوطنيّ السوريّ” عن بناء مؤسّسة فاعلة لقيادة الثورة السوريّة خلال ظروف إقليميّة ودوليّة معقّدة.

كنتُ من مؤسّسي “المجلس الوطنيّ السوريّ”، وقد قدتُ، خلال شهري تمّوز/ يوليو وآب/ أغسطس من عام 2011، اللجنة التحضيريّة التي تمكّنت من تطوير بنية مناسبة لضمّ القوى السياسيّة السوريّة، لتكون البديل للمؤتمرات العديدة التي دعت إليها مجموعات مختلفة من الناشطين السوريّين. العامل الذي قوّض فرص “الائتلاف” في قيادة قوى الثورة والمعارضة هو نفسه الذي قوّض جهود المجلس الوطنيّ، الفوضى السياسيّة وغياب الانضباط بالنظام الداخليّ، ورفض تطوير إستراتيجيّة عمل مشتركة، والتهرّب من توزيع المهام على من يمتلك القدرة والخبرة، والاتكال الكامل على حسن نيات الدول التي أدركت أبعاد ما يجري على مصالحها في المنطقة، فبادرت إلى إرسال دبلوماسيّيها وقادة مؤسّساتها الاستخباريّة إلى المنطقة، لضبط إيقاع العمل السياسيّ وفق مصالحها الخاصّة لا وفق مصالح الشعب السوريّ. وبدلًا من أن يقود “الائتلاف” القرار الوطنيّ، تحوّل تدريجيًّا إلى حلبة صراع بين أصحاب المال السياسيّ، الذين مثّلوا مصالح دول إقليميّة مكّنتهم عبر الدعم الماليّ والدبلوماسيّ من تصدّر المشهد. الأمر المذهل والصادم في حالة “الائتلاف” أنّ وسطاء المال السياسيّ، عديمي الخبرة والدراية بالعمل السياسيّ، شكّلوا الأقطاب الفاعليّة في “الائتلاف”، بعدما التفّ حولهم معظم الناشطين، وكرّسوا أوقاتًا كثيرة للتحضير لصراعات انتخابيّة أضاعت كثيرًا من الوقت والجهد.

من السهل وضع المسؤوليّة كاملة على قيادات المعارضة التي لم ترتفع إلى مستوى المسؤوليّة، في تعاملها مع الصراع حول مستقبل الوطن، لكن الإنصاف يقتضي تحميل نظام الأسد أوّلًا، ثمّ الدول الإقليميّة التي حوّلت سورية إلى ساحة صراع لتحقيق مصالح ضيّقة على حساب مصلحة الشعب السوريّ، المسؤوليّة الأكبر في تدهور الواقع السوريّ إلى المشهد الهابط الذي نراه اليوم في الساحة السياسيّة السوريّة. إفشال الثورة كان عملًا مخطّطًا، قادته أجهزة دوليّة تتمتّع بخبرات عمليّة وقدرات ماليّة وتخطيطيّة. ولكنّني ما زلتُ أعتقد أنّ قيادات المعارضة وناشطيها ساهموا، من حيث يدرون أو لا يدرون، في تراجع المعارضة وتشتّت جهودها، بسبب ضيق الآفاق السياسيّة وغياب الانضباط التنظيمي والتخطيط الإستراتيجيّ، والتعامل مع ممثّلي الدول المعنيّة من خلال الثقة الساذجة بأنّهم سيعلمون على إنجاز التحوّل السياسيّ في سورية وتقديم رغبات السوريّين في التحرّر من الاستبداد على مصالح دولهم وأنظمتهم المتناقضة مع أهداف الثورة.

كيف تنظر إلى ما أنجزنه قوى الثورة والمعارضة على مدى عشر سنوات من عمر ثورة الحرّيّة والكرامة؟ وإلى أين نحن ماضون؟

على الرغم من غياب التخطيط والتنسيق بين قوى الثورة والمعارضة، فقد تمكّنت هذه القوى من هزيمة النظام في مكمن قوّته؛ في المواجهة العسكريّة التي أعد النظام جيشه ومقاتليه لضمان استمرار حكم بيت الأسد إلى الأبد. لكنّ شجاعة السوريّين وتضحياتهم أظهرت أنّ السوريّين لا يمكن حكمهم عبر جيش طائفيّ وقوى أمن تقودها طغمة من المترفين الذين ورثوا السلطة واعتبروها امتيازًا يرتبط بأشخاصهم وأسرهم، لا استحقاقًا ينبع من التفاعل مع المواطنين وتمثيل طموحاتهم وبناء دولة تحترم حقوقهم. انهيار النظام عسكريًّا جرى في منتصف عام 2015، عندما طلب بشار الأسد المساعدة العسكريّة المباشرة من روسيا، وهي اللحظة التي دفعت روسيا إلى التدخّل، بمباركة من حكومة بنيامين نتنياهو ومواقفة الولايات المتّحدة.

“الانتصار العسكريّ” للنظام جاء من خلال تحويل سورية إلى دولة خاضعة للوصاية الروسيّة والإيرانيّة. الثورة قامت عمليًّا بتفكيك نظام الأسد. وأنا لا أرى أنّ النظام قادر اليوم على إعادة البلاد إلى الحكم الطائفيّ المطلق الذي أسّس له حافظ الأسد، وسعى بشار الأسد من بعده إلى الاحتفاظ به بصفاقة عجيبة وبتدمير ما تبقى من مؤسّسات الدولة السوريّة.

الثورة قامت، من دون شكّ، بتفكيك نظام الاستبداد، ولكنّها لم تستطع تقديم البديل الضروريّ لقيام نظام سياسيّ يقوم على احترام الحرّيّات وبناء دولة القانون. لكن الثورة أظهرت أيضًا أنّ قوى الثورة والمعارضة في بنيتها الحاليّة لا تمتلك القدرة على التأسيس لمجتمع سياسيّ يقوم على أساس الحرّيّة المسؤولة واحترام القانون.

الحرّيّة والقانون ما زالا مفهومين ضبابيين في دوائر الثورة والمعارضة، والإضاءة عليهما ثمّ تحويلهما من شعارات، إلى ممارسات وقيم عميقة، هي مسؤوليّة النخب المثقّفة التي تسعى إلى التغيير.

ضعف الثورة اليوم نابع من غياب عمل وطنيّ يقوم على تعاون حقيقيّ بين القوى السوريّة المعارضة، والعمل وفق إستراتيجيّة عمل مشتركة تعيد أهداف الثورة إلى الواجهة، وتبني الجسور بين القوى الوطنيّة المطالبة بالإصلاح السياسيّ، وإنهاء حكم الفرد والأسرة والطائفة والعشيرة. الثورة تقف اليوم في موقع متوسط، بين تفكيك نظام الاستبداد وبناء البديل الديمقراطيّ. تطوير البنى والقدرات الضروريّة لبناء البديل هو المهمّة الملقاة اليوم على قادة النخب المثقّفة والقياديّة للمعارضة السوريّة، على اختلاف هويّاتهم الدينيّة والثقافيّة واللغويّة.

سعيت خلال الأشهر الماضية إلى التعاون مع قيادات المعارضة السوريّة، لإطلاق مشروع وطنيّ يتحرّك لتقديم مبادرات وطنيّة للخروج من الجمود الحاليّ في المسألة السوريّة. ما مآل هذا السعي؟ وكيف تلقّت هذه القيادات دعوتك؟

المشروع الوطنيّ الذي أعمل عليه، مع ثلّة من الناشطين السياسيّين، يهدف إلى توليد البنية الوطنيّة الضروريّة لتطوير البديل الذي أشرتُ إليه آنفًا. ثمّة حاجة اليوم إلى مشروع وطنيّ يسعى إلى توظيف قدرات السوريّين، والعمل وفق إستراتيجيّة تسمح بتلاحم المبادرات السوريّة العديدة التي يقودها سوريّون وطنيّون، داخل البلاد وخارجها. الحوار حول المشروع الوطنيّ مستمرّ منذ فترة طويلة، ولعلّ الخطوات التي اتّخذها “الائتلاف” لإنشاء “مفوضيّة انتخابات” كان لها دور مهمّ في زيادة جهود قادة المعارضة السوريّة، بعدما استشعر الجميع الخطر من حالة الإنهاك وتراجع آفاق العاملين ضمن مؤسّسات المعارضة الرسميّة، ونجاح الدول النافذة في الملفّ السوريّ في الضغط على تلك المؤسّسات، خلال الظروف الصعبة، لتحويل مطالب الثورة إلى مشاركة شكليّة في عمليّات انتخابيّة إلى جانب النظام.

اللقاءات مستمرّة، وثمّة تقدّم في منحى تطوير بنية سياسيّة تقوم على التشبيك بين القوى والمنظّمات الفاعلة في ملفّ الثورة، داخل سورية وخارجها. فكرة بناء تيّار وطنيّ يقوم على التشبيك بين مشاريع ومبادرات ومنظّمات حقوقيّة ومدنيّة وسياسيّة والعمل وفق خطّة مشتركة فكرة جديدة على الفضاء السياسيّ السوريّ، ولذلك بدت غريبة للعديد من قيادات المعارضة، في بادئ الأمر، لكن ثمّة تفاعل أوسع معها اليوم. الفكرة تقوم على تطوير بنية سياسيّة تسمح بالتنسيق بين المبادرات التي يقودها سوريّون في الشمال السوريّ ودول الجوار ودول المغترب، يمكن أن تُولِّد تيّارًا وطنيًّا عابرًا للمكوّنات. العمل المشترك والتنسيق حول المسائل الوطنيّة المشتركة يساعد في بناء الثقة بين القوى والمكوّنات المختلفة، ويسمح بتوليد إستراتيجيّات عمل مشتركة تتضافر من خلالها الجهود، وتتقارب عبرها التصوّرات، وينبثق منها تيّار وطنيّ متماسك، يمكن أن يشكّل البديل السياسيّ الضروري للدفع بمطالب التحوّل الديمقراطيّ في البلاد.

العمل السياسيّ في سورية قام لعقود طويلة على فكرة التنظيم المركزيّ الهرميّ، وهو ما انتهت إليه مؤسّسات المعارضة. البناء الهرميّ المركزيّ يعيد تكريس الأشكال السياسيّة التي بُنيّ عليها نظام الاستبداد، لأنّها تسمح لأصحاب الطموح والدهاء بالتحكّم في المشهد السياسيّ، واستخدام المؤسّسات العامّة لمشاريع خاصّة وضيّقة. البديل الناجع في هذه المرحلة من تاريخ العمل السياسيّ هو النظام الشبكي المرن الذي يجمع بين الفاعلين الذين أثبتوا قدرتهم على قيادة مبادرات وطنيّة، ويربط قدرة القيادة على الفعل واتّخاذ القرار، بقدرات مكوّنات العمل الوطنيّ المعارض، ومن ثمّ يحول دون نشوء عنق زجاجة يتحكّم في القرار بعيدًا عن الإنجاز.

هناك من يُحمّل تيّار الإسلام السياسيّ (أو تيّارات الإسلام السياسيّ وأحزابه) في سورية فشل الثورة، ما موقفكم من هذا الرأي؟ وإلى أيّ مدى تتّفق مع رأي المفكر الدكتور برهان غليون أنّ غالبيّة المثقّفين كثيرًا ما يستخدمون تضخيم دور التنظيمات الإسلاميّة للتهرّب من الاعتراف بالأخطاء والنقائص الذاتيّة، التي حالت دون بناء قوّة تغيير فعّالة وناجعة؟

منظّمات التيّار الإسلاميّ الفاعليّة في الثورة السوريّة تتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤوليّة عجز الثورة عن الانتقال من عمليّة التفكيك إلى عمليّة البناء، لكنّها -بالتأكيد- لا تتحمّل وحدها تراجع زخم الثورة. دور المنظّمات الإسلاميّة في سورية كان كبيرًا في تحريك الشارع وتنظيمه، كما الحال في جميع ثورات الربيع العربيّ، لذلك لا اتّفق مع القول بمحدوديّة دورها، ولا أرى فائدة من تقليل تأثيرها في مسار الثورة. توصيف دورها الصحيح، بمناحيه الإيجابيّة والسلبيّة، ضروريّ لعمليّة المراجعة، وفهم مكامن القوّة والضعف في الحراك الثوريّ السوريّ. لكني اتّفق مع القول بأنّ هذه المنظّمات عمومًا تحوّلت إلى شماعة لوضع أخطاء المعارضة عليها والتهرّب من المسؤوليّة. إن المثقّفين السوريّين جميعًا ارتكبوا أخطاء عديدة، وأهمّها تجاهل أهمّيّة بناء تيّار وطنيّ يتلاحم فيه المثقّف مع الشارع الثائر. التلاحم عبر الخطاب الثوريّ والكلمات الرنّانة ليس كافيًا لقيام تيّار وطنيّ، بل لا بدّ من التواصل المستمرّ مع الشارع، والتعاطي مع همومه والتحدّيات التي ولّدتها الثورة، وهي كثيرة.

المثقّف السوريّ عوّل كثيرًا على طرح الشعارات وتطوير الخطاب السياسيّ والظهور الإعلامي واللقاءات الدبلوماسيّة مع الأطراف الدوليّة، ووضع ثقته الكاملة في الدول النافذة في الملفّ السوريّ، بدلًا من وضعها في الشارع المنتفض، والتلاحم مع مشكلات المواطن وزيادة الوعي العامّ بطبيعة الصراع القائم في سورية، وتوليد تيّار وطنيّ متناغم. المثقّف السوريّ قلّل من أهمّيّة التنظيم والتخطيط، ولم يبذل الجهد الضروريّ لتوحيد الصفوف وتطوير البنى التنظيميّة ووضع الخطط الضروريّة للتعاطي مع صراع معقّد، تديره أجهزة ومؤسّسات دوليّة على درجة عالية من التنظيم والتخطيط والانضباط.

الثورة السوريّة تحمل مشروعًا تحرّريًّا يدعو إلى البناء

ما الدور المطلوب من القوى الاجتماعيّة والسياسيّة الرافضة لنظام الاستبداد في هذه المرحلة، بعد أن تمكّنت القوى الدوليّة النافذة في المشرق من تصوير الصراع السوريّ على أنّه صراع بين نظام استبدادي وقوى متشدّدة إرهابيّة لا تصلح أن تكون بديلًا عن النظام، وعملت على وضع سورية تحت الوصاية الدوليّة عبر تفاهمات خاصّة بينها؟

المطلوب أن يعمل الناشطون السوريّون على محورين: المحور الأوّل بناء مؤسّسات المجتمع المدنيّ وشبكات العلاقات التي تربط السوريّين في جهد وطنيّ على أساس القيم المشتركة التي تجمعهم. وهذا يستدعي بناء الثقة بين المنظّمات والمكوّنات السوريّة المختلفة، من خلال مشاريع التعاون المشتركة، كما يستدعي توضيح أهمّيّة بناء الحياة السياسيّة على المشتركات القيميّة والأخلاقيّة للسوريّين، وجعلها أساس الحياة السياسيّة والقانونية المشتركة. ما نحتاج إليه ليس الكلام وحسب، بل تطوير النماذج المجتمعيّة والتنظيميّة على أرض الواقع، لأنّها وحدها يمكن أن تعيد ثقة السوريّين بالكلمة التي فقدوها نتيجة حالة الانفصام بين الخطاب السياسيّ والواقع العمليّ. تطوير نماذج عمليّة تترجم المعاني والكلمات إلى سلوك اجتماعيّ ضروريّ، بعد عقودٍ من التناقض الهائل، بين الخطاب والسلوك السياسيّ في سورية، الذي كرّسه “حزب البعث” الذي رفع شعارات (الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة)، ولكنّه عمل على تمزيق الصف الوطنيّ والعربيّ، باسم الوحدة، وكرّس الاستبداد، باسم الحرّيّة، وزاد من التفاوت الاجتماعي والطبقي، باسم الاشتراكيّة.

المحور الآخر يتعلّق في كسب دعم المجتمعات المدنيّة في الدول النافذة في الصراع السوريّ، خاصّة في أوروبا وأميركا الشماليّة. فالثورة السوريّة تحمل مشروعًا تحرّريًّا يدعو إلى البناء على قيم إنسانيّة كلّيّة، هي قيم العدل والمساواة والحرّيّة والتعدّديّة ورفض الهيمنة الطبقيّة والعنصريّة. هذا المشروع يتوافق مع حركة عالميّة تمتدّ عبر الدول الغربيّة، وترفض هيمنة الليبراليّة – المحدثة (neoliberalism) التي تسعى إلى تكريس هيمنتها على المجتمعات الغربيّة، كما سعت منذ نهاية الخمسينيات إلى تكريس هيمنتها على مجتمعات الدول النامية، في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبيّة، ومنها الدول العربيّة. وجود جاليّات سوريّة وعربيّة كبيرة في أوروبا وأميركا يمكن أن يكون الوسيط في خلق صداقات وجهود تعاون خارج الإطار الرسمي تنعكس على السياسات الغربيّة في المنطقة.

لماذا خسرت المعارضة السوريّة ممثّلة بـ “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة” الدعم الدوليّ؟ وكيف يمكن صياغة إستراتيجيّة لمواجهة وتجاوز هذه الحالة؟

السبب الرئيسي -في تقديري- هو استعداد الناشطين السوريّين للتعاون مع كلّ من يعِدُهم ويُمنّيهم بدعم خاصّ من دبلوماسيّي الدول الإقليميّة والقوى الكبرى، بدلًا من الالتفاف حول مشروع وطنيّ والتحرّك جميعًا، من خلال قرار يمثّل التيّار المعارض الواسع، ومما ساهم في تراجع المعارضة، استبعادُ الذين تصدّروا المشهد السياسيّ المعارض لأصحاب الكفاءة والالتزام الوطنيّ، والاحتفاظ بالموالين والأنصار وتفضيلهم عليهم، في مشهدٍ يذكرنا بأساليب “حزب البعث”. المعارضة لن تحصل على احترام القوى الدوليّة، ما لم تشكّل تيّارًا واسعًا يتحرّك وفق رؤية واحدة ويتحدّث بصوت واحد. المشكلة كما تلاحظ واضحة جليّة من الناحية الوصفيّة، لكنّها عصيّة على الفهم ضمن ثقافة سياسيّة اعتادت الانقياد لمن يبني علاقات شخصيّة مع دول نافذة في الملفّ السوريّ. هذا النوع من الحراك السياسيّ يُولّد سياسات الاستزلام التي تحوّل القيادات السوريّة إلى أزلام للدول النافذة، تستمدّ منها دعمها وشرعيّتها، وتتحوّل القيادات الشعبيّة إلى أزلام لمن بيده السلطة، كما حال المجتمعات العربيّة اليوم التي انتفض الناشطون للخلاص من فسادها، ولكنّهم لا يدركون أنّهم يسيرون في المسار الذي قاد إلى حالة التبعيّة والفساد التي يرفضوها.

الإستراتيجيّة المطلوبة يجب أن تنبني على التعاون الداخليّ بين السوريّين، وصولًا إلى موقف وطنيّ واحد يشكّل قاعدة الحوار مع الدول الإقليميّة والدول النافذة حول المصالح المشتركة للجميع، لا المصالح الخاصّة لطبقة حاكمة تتناقض مصالحها مع مصالح شعوبها. هذا التغيير سيحتاج إلى وقت كي يبلغ شكله المتقدّم، ولكن ثماره الأولى يمكن أن تقتطف عند ولادة كتلة حرجة بين السوريّين، تدرك أنّ كرامة أبناء الوطن -على اختلاف مواقعهم ونفوذهم- تنبع من تلاحمهم الداخليّ، وتطوير آليّات للوصول إلى سياسات تحترم مصالح الجميع وتعتمد على القيم الإنسانيّة والوطنيّة المشتركة التي تجمعهم. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى بعيد المنال، ولكنّ الوصول إليه ممكن، في وقت معقول، إذا تمكّنا من تقديم نماذج من التعاون الوطنيّ الذي يعود بالنفع على جميع المنخرطين فيه.

بتقديرك، إلى أيّ مدى أصاب أو أخطأ “الائتلاف الوطنيّ” في احتواء قضايا الأقلّيّات في سورية؟

شاركت الأقلّيّات الدينيّة والعرقيّة في مقارعة النظام، منذ اللحظة الأولى لتأسيس “المجلس الوطنيّ السوريّ”، الذي ضمّ كتلًا مثّلت الأقلّيّات الآشوريّة والسريانيّة والكرديّة والتركمانيّة، كما ضمّ “المجلس الوطنيّ” ومن بعده “الائتلاف”، ممثّلين عن المكوّنات الدرزيّة والإسماعيليّة والعلويّة، إضافة إلى معارضين مسيحيّين. واستمرّ تمثيل التنوّع السوريّ في “الائتلاف” الذي ضمّ ممثّلين لجميع المكوّنات السوريّة، على الرغم من أنّ الغاية الأساسيّة من تنظيم المعارضة هي الاستفادة من كلّ سوري يسعى إلى الخلاص من الحكم الطائفيّ الذي وظف التنوّع السوريّ للسيطرة على مفاصل الدولة، واعتمد سياسة توزيع المناصب السياسيّة باعتبارها جوائز ترضيّة يقدّمها لداعميه، واستطاع بذلك استخدام التنوّع الكاذب واجهة لإخفاء سياساته العنصريّة.

لا شكّ في أنّ توظيف النظام لورقة الأقلّيّات كان جزءًا من مسعاه لإخفاء الطبيعة الفرديّة والطائفيّة للنظام الذي أسّس له حافظ الأسد، وترك آثارًا سلبيّة على البلاد، خاصّة أنّ هذه اللعبة القذرة التي قام بها شملت أيضًا الورقة القوميّة. وهكذا ولّدت سياسات النظام شكوكًا ومخاوف عميقة ضمن الشارع السوريّ لدى الأغلبيّة والأقلّيّات جميعًا. قيادة المعارضة كانت على دراية بالجروح التي خلفتها سنوات حكم البعث تحت قيادة حافظ الأسد، وسعت للتواصل مع الجميع وتأكيد الهويّة الوطنيّة. بيد أنّ حالة التشرذم، مع سعي بعض الشخصيّات المؤثّرة للتشكيك في نيّات الجماعات السكّانيّة التي تشكّل الفسيفساء السوريّة الجميلة (انطلاقًا من تصريحات البعض)، وسعي بعض الأحزاب إلى تأكيد خصوصيّاتها، عقّدت الصورة، وألقى ذلك بظلال ثقيلة على العمل الوطنيّ المشترك.

المشكلة برزت بصورة أساسيّة في وجود بعض التباين في طرح القوى الكرديّة لأهداف الثورة وطرح الأغلبيّة العربيّة لها، نتيجة لاختلاف طبيعة التحدّيات التي شكّلها النظام، لكلّ من هذين المكوّنين من جهة، والخطاب الحصريّ الذي برز داخل الفصائل الإسلاميّة المقاتلة، التي أسرفت في استخدام الشعارات الإسلاميّة، على حساب التمسّك بالقيم الإسلاميّة التي ساهمت عبر التاريخ في التعايش السلميّ ضمن مجتمع سياسيّ حافظ على تنوّعه الدينيّ والقوميّ لقرون طويلة. هذا الجانب من عمل “الائتلاف” يمثّل في تقديري عنصرًا إيجابيًّا في الدور الذي لعبه خلال السنوات الثلاثة الأولى من تأسيسه.

ماذا عن تعاطي “الائتلاف” مع المسألة الكرديّة؟

يعود التعاون العربيّ الكرديّ في مواجهة استبداد نظام الأسد إلى بدايات “ربيع دمشق”، قبل انطلاقة الثورة السوريّة، لذلك كان من الطبيعي أن يضمّ “ربيع دمشق” قيادات كرديّة. كذلك شارك الكرد منذ البداية في تشكيل “المجلس الوطنيّ السوريّ”، وانضمّ الصديق عبد الباسط سيدا إلى اللجنة التحضيريّة التي كان لي شرف رئاستها، وأصبح لاحقًا الرئيس الثاني لـ “المجلس الوطنيّ”. وبعد تشكيل “الائتلاف”، دعت لجنته السياسيّة “المجلس الوطنيّ الكرديّ” للمشاركة في “الائتلاف”، وتمّ فعلًا ضمّ ممثّلين عنه لقيادة “الائتلاف”.

لكن من الواضح أنّ أهداف بعض الأحزاب الكرديّة والعربيّة لم تتوحّد، وبقي هناك حضور واضح لمن يبحث عن دولة قوميّة كرديّة، تقوم على أنقاض الصراع من أجل التحرّر، كما بقي من السوريّين العرب من يتجاهل الحقوق الثقافيّة الكرديّة. إن تطابق الأهداف ضروريّ في هذه المرحلة، لتقوية مشروع التحرّر من الاستبداد في سورية، وأرجو أن يستمرّ التلاحم العربيّ الكرديّ في سورية في اتّجاه واحد، يحقّق الكرامة والحرّيّة والحياة السياسيّة الفاعلة للجميع.

كيف حصل أن تمّ الصمت الدولي على الفصل -من قبل النظام وموسكو – بين المسار الدستوريّ والانتخابات الرئاسيّة؛ بالرغم من أنّ القرار 2254 يتحدّث عن دستور جديد، وبناءً عليه تنظّم انتخابات حرّة ونزيهة؟ ما أسباب صمت الإدارة الأميركيّة تحديدًا؟

المسار الدستوريّ محاولة روسيّة لتجاوز القرار الأمميّ رقم 2254، الذي يطالب ببدء العمليّة الانتقاليّة عبر تشكيل هيئة حكم انتقاليّة، وبالتالي فإنّ العمل على دستور جديد مهمّة لاحقة للعمليّة الانتقاليّة وليست سابقة لها. لكن روسيا غير معنيّة بالعمليّة الانتقاليّة، وتريد الإبقاء على نظام فاسد خاضع كلّيًّا لها، ولذلك بادرت إلى تأسيس “اللجنة الدستوريّة”، خارج المسار الأمميّ وعبر مفاوضات سوتشي التي حذرنا “الائتلاف” من المشاركة بها. العمليّة الانتقاليّة شرطٌ ضروريّ لقيام أيّ انتخابات حرّة نزيهة، لأنّ النظام عمل على مدار نصف قرن على تزوير العمليّة الانتخابيّة، وتحويلها إلى شكلٍ بلا مضمون، وحركات بلا معاني، تتدخّل في كلّ خطوة من خطواتها الأجهزة الأمنيّة، فتحدّد من يحقّ له الترشّح للانتخابات، وتقوم بالإشراف على كلّ خطوة من خطواتها، ثمّ تحدّد نسبة نجاح كلّ مرشّح، حتى المرشّح الرئاسيّ. ولا يمكن ضمان نزاهة الانتخابات دون تغيير البنية الداخليّة للدولة، وإخراج الأجهزة الأمنيّة من العمليّة، ووضعها بين أيدي لجان انتخابيّة مستقلّة، يشرف عليها ممثّلو الأحزاب والمرشّحون للمناصب التنفيذيّة والنيابيّة. لذلك فإنّ الحديث عن استخدام مراقبين من الأمم المتّحدة، لمراقبة عمليّة انتخابيّة تديرها الأجهزة الأمنيّة للنظام السوريّ، نكتة سمجة لا تنطلي على العارفين بطريقة إدارة الانتخابات.

إن المراقبين الدوليّين مارسوا الرقابة على العمليّة الانتخابيّة في مصر عام 2005، في أوّل تجربة انتخابات يواجه فيها الرئيس المصري منافسين في العمليّة الانتخابيّة، بدفع من واشنطن والاتّحاد الأوروبيّ، ولكن النتائج الانتخابيّة أظهرت عجز المراقبين الدوليّين عن منع عمليّة التزوير التي أعطت حسني مبارك 77٪ من الأصوات. وقامت الأجهزة الأمنيّة المصريّة باعتقال أيمن نور، بعد انتهاء الانتخابات وعودة المراقبين الدوليّين إلى بلادهم، بحجّج واهية لجعله عبرة لمن يحاول تحدّي رأس السلطة، على الرغم من أنّه لم يُمنح سوى 5٪ من الأصوات.

الطبيعة الأمنيّة للنظام السوريّ، وعدم قدرة الأطراف الخارجيّة على منع التلاعب بالانتخابات، تجعل فكرة تعديل الدستور والمشاركة في الانتخابات، قبل البدء بخطوات التحوّل السياسيّ، حالة عبث وتلاعب بإرادة الشعب السوريّ واستخفاف بعقول الناس. والصمت الأميركيّ على هذه المهزلة والسماح لروسيا أن تتلاعب بالمعارضة السوريّة يؤكّد أنّها غير معنيّة عمليًّا بالتحوّل الديمقراطيّ، وأنّ مقاربتها للمأساة السوريّة تتوقّف على منع أيّ من الطرفين المتصارعين في البلاد من ربح المعركة، وفق معادلة أن “لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم”.

ضرورة بناء تيّار سياسيّ وطنيّ واسع

اليوم، لا أحد من اللاعبين الكبار يتحدّث عن “الانتقال السياسيّ”، بل يجري الحديث عن عمليّة سياسيّة وتنفيذ القرار الدولي 2254، فيما يرى اللاعب الأبرز (روسيا) ضرورة تجاوز تنفيذ القرار 2254؟ ما رأيك أنت؟

كما بيّنتُ آنفًا، المجتمع الدولي ليس معنيًّا بانتصار الديمقراطيّة في سورية، وهو حريص على توفير الدعم لمن يكفل المصالح الغربيّة، ولو كان مستبدًّا، وفي مقدّمة تلك المصالح الحفاظ على أمن إسرائيل التي يراها القادة الأميركيّون، ومنهم جو بايدن، ذراعًا ممتدًّا لهم في منطقة المشرق الحساسة. وهذا ما يقلّل من فرص نجاح القوى الوطنيّة التي لا تجيد البحث عن تقاطع المصالح الوطنيّة والدوليّة. وهذا مع الأسف دأب قوى المعارضة السوريّة. روسيا أيضًا تشارك الدول الغربيّة في هذا التوجّه، ولذلك فإنّنا نجد تعاونًا واضحًا بينها وبين القيادات السياسيّة الأميركيّة والفرنسيّة.

السياسات الغربيّة مسؤولة، منذ الخمسينيات، عن دعم الأنظمة الاستبداديّة في المشرق، وجهودها في استبدال الحكومات المنتخبة بحكومات عسكريّة مطلقة موثّق في مذكرات ووثائق رسميّة. والفاعلون في الملفّات الأمنيّة الغربيّة برّروا تاريخيًّا دعم الانقلابات العسكريّة في المشرق، بالخوف من وصول اليسار إلى السلطة، كما حدث في دعمهم الانقلاب ضدّ حكومة رئيس الوزراء الإيرانيّ محمد مصدّق، المنتخبة في خمسينيات القرن الماضي، أو كما حدث في دعمهم للانقلاب العسكريّ في الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي لمنع “جبهة الإنقاذ” من تولّي السلطة، بعد نجاحها في الانتخابات العامّة. وثائق وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة تؤكّد دعم إدارة الرئيس هاري ترومان لانقلاب حسني الزعيم، ضدّ حكومة شكري القوتلي المنتخبة شعبيًّا، بالرغم من توجّهاتها الليبراليّة بحجّة أنّها غير قادرة على منع وصول الاشتراكيّين إلى السلطة. ولذلك، أرى أنّ أيّ جهد لتحرير الدولة السوريّة من الحكم العسكريّ يجب أن يعتمد بالدرجة الأولى على بناء تيّار وطنيّ واسع، يجعل من الصعب على القوّة الدوليّة التلاعب بالخلافات بين المكوّنات المجتمعيّة والقوى السياسيّة السوريّة للتحكّم في المشهد الوطنيّ. إيجاد تيّار سياسيّ واسع ضروريّ أيضًا لتطوير مواقف وطنيّة، واللعب على الخلافات بين القوى الدوليّة المتنازعة على المنطقة، لا من خلال الخضوع لطرف منها، بل عبر البحث عن تقاطع المصالح، وفق معادلة تحقّق الربح لتحالف القوى الوطنيّة.

ما موقع إيران، بعد فوز الرئيس إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، في مسارات الحلّ السياسيّ في سورية؟

الموقع الأكثر تأثيرًا، في السياسات الخارجيّة والأمنيّة في إيران، هو موقع المرشد العامّ، لا رئيس الجمهوريّة. وإن وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهوريّة (بدعمٍ من الخامنئي الذي عمل على إبعاد مرشّحين أكثر ضلاعة في العمل السياسيّ) يعكس رغبة الزعامات الدينيّة في تحضير “رئيسي” ليكون خليفة للخامنئي. ونحن أمام جهود واضحة في إيران، لضمان استمرار السياسات القائمة التي وضعها الخميني، وفق عقيدة ولاية الفقيه التي تمنح المشيخيّة الشيعيّة السيطرة الكاملة على السياسات الداخليّة والخارجيّة، وبالتالي يجب ألّا نتوقّع تغيّرًا في المسار السياسيّ الإيرانيّ تجاه سورية، في أيّ وقت قريب.

عدم المساهمة في حلّ الصراع السوريّ، بكلّ تعقيداته، يعني أنّ النظام العالميّ ليس فاعلًا. أين يكمن الخلل بتقديرك؟ ومن هو برأيك المسؤول الأكبر عن المأساة؟

عدم الوصول إلى حلّ سياسيّ في سورية هو الموقف الذي اختاره الفاعلون السياسيّون العالميّون، وهو يعكس لذلك طبيعة الإرادة الدوليّة تجاه الصراع السوريّ. فروسيا مثلًا لا تريد حلًّا يولّد تغييرًا حقيقيًّا في السلطة القائمة، وما زالت تلعب على مسرحيّة اللجان الدستوريّة، وتقليص الصراع بين النظام والثورة إلى خلاف دستوريّ. وبالمثل نجد أنّ الولايات المتّحدة غير راغبة في إنجاز عمليّة التغيير، خوفًا من تغيير المعادلة الإقليميّة التي خدمت سياساتها الرامية إلى تعزيز الحضور الإسرائيليّ في المنطقة، ومنع قيام أيّ نظام عربيّ يسعى إلى تطوير المجتمعات العربيّة، بطريقة يعتقد الغرب أنّها تهدّد المعادلة الصفريّة بين العرب وإسرائيل المعتمدة منذ خمسينيات القرن الماضي. القيادة الأميركيّة لديها سبب آخر لترك الأمور على ما هي عليه، إضافة إلى اعتقادها بعدم وجود قوّة بديلة عن النظام قادرة على حكم البلاد، يتعلّق برغبتها في استخدام الصراع الجاري على الأرض السوريّة لتصفية حساباتها مع إيران وروسيا، واستنزاف القدرات العسكريّة والماليّة لأبناء المنطقة، ضمن حالة من توازنات القوى تحرم القوى المتصارعة من تحقيق حسم سياسيّ أو عسكريّ على الأرض السوريّة.

أما المسؤول الأكبر عن المأساة السوريّة، فهو بطبيعة الحال النظام السوريّ، ومن يقف خلفه داخل البلاد وخارجها، لأنّ النظام يخوض حربًا على شريحة واسعة من الشعب السوريّ، مصدر قوّة الدولة السوريّة التي تلاشت خلال السنوات العشرة الماضية. وتتحمّل كلّ من إيران وروسيا حصّة الأسد في إيصال البلاد إلى المأساة التي تعيشها اليوم، بعد أن وضعت كلّ عقبة ممكنة أمام القرار 2254 الذي قبلته المعارضة ورفضه النظام. سورية التي كانت يومًا ورقة صعبة في المشرق تحوّلت إلى مجتمع منهك ضعيف، لا يملك قيادات سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة حقيقيّة، بل تحوّل إلى ساحة يدخلها كلّ أفّاق مرتزق مريب للتكسب السريع من مأساة السوريّين ودمائهم.

طبعًا، أنا لا أعفي المعارضة من المسؤوليّة، خاصّة أنّها اختارت ممارسة الصراع البينيّ الداخليّ للتحكّم في مؤسّسات المعارضة، وتحقيق مكاسب سياسيّة قبل إنجاز التحوّل الديمقراطيّ في البلاد. وهذا سيسمها -بتقديري- بالضعف والعجز والتفريط في أيّ قراءة تاريخيّة تقوم بها الأجيال القادمة، ما لم تتدارك قيادات المعارضة الأمر، وتسعى إلى تطوير تيّار سياسيّ يتعامل مع المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها سورية بكفاءة وصدقيّة والتزام بمشروع التغيير نحو دولة القانون والمشاركة السياسيّة الحرّة.

من مؤلفات صافي

لو كان ممكنًا أن تُصمّم شكل التسوية للصراع المستمرّ منذ نحو عقد بناء على الوقائع التي يعيشها السوريّون على الأرض، كيف ستكون؟ ما هي ملامحها؟

التسوية المطلوبة يجب أن تقوم على سلسلة من الخطوات لنقل سورية، من دولة تحكمها إرادة حاكم مطلق إلى دولة يشارك فيها جميع السوريّين. وهذا يستدعي الدخول في مفاوضات تؤدّي إلى تشكيل حكومة أو هيئة حكم انتقاليّة تحوز دعم كلّ من المعارضة والموالاة، وتتحرّك وفق مبادئ فوق دستوريّة تحترم حقوق جميع السوريّين، ومن ثمّ تشكيل قوى أمنيّة تحقّق توازن بين القوى الفاعلة في المشهد السوريّ، وتحضر لانتخاب مؤتمر تأسيسيّ يمثّل التنوّع السوريّ، ويعمل على إقرار دستور جديد للبلاد. هذه الخطوات يمكن أن تنتهي بانتخابات حرّة ونزيهة.  

السوريّون اليوم بعيدون كلّ البعد عن هذا التصوّر، بسبب غياب المساعي لخلق حوار حقيقيّ بين المكوّنات والقوى السوريّة، ولعلّ العقبة الكأداء هي نظام الأسد نفسه، الذي يعمل بكامل قوّته لتعميق الخلافات بين السوريّين، وبناء الجدران والخنادق للفصل بينهم، بدلًا من بناء الجسور لخلق حوار سوريّ – سوريّ يمكن أن يُنهي المعاناة الحاليّة، ويحول دون استمرارها واشتدادها في السنوات القادمة، إذا ما أصرّ على عناده. ولأنّ النظام لن يفعل ذلك، ما دام في قبضة آل الأسد، فإنّ المعارضة تتحمّل اليوم المسؤوليّة الوطنيّة والأخلاقيّة في العمل لتطوير هذا الحوار الداخليّ، وتشكيل تيّار وطنيّ عابر للمكوّنات والتقسيمات السياسيّة، مستفيدة من ضعف الدولة المتزايد، والحاجة إلى قيام تعاون بين منظّمات المجتمع المدنيّ للتخفيف حدّة الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة المتفاقمة في البلاد.

بالنظر إلى وجود خمسة جيوش محتلّة في سورية. هل لديك قلق من تصعيد عسكريّ مفاجئ من قبل قوات النظام والروس، خاصّة في الشمال السوريّ، يعيد الصراع إلى المربع الأوّل؟ من برأيك الضامن الرئيسيّ لعدم توتّر الأوضاع مجدّدًا؟

وجود جيوش محتلّة يهدف إلى إخضاع منطقة المشرق لتغيّرات تتوافق مع رؤية النخب الغربيّة لما يجب أن تكون عليه. استمرار التصعيد العسكريّ ممكن ومقلق، لأنّه يمسّ حياة المدنيّين في مناطق الصراع ويحوّلها إلى جحيم. ولا أبالغ إن قلت إنّ حياة الناس اليوم في جحيم، حتّى في الأماكن التي لا يمسّها صراع عسكريّ، لأنّ الصراع مع الجوع والفقر وغياب الكهرباء والماء والعمل الذي تعانيه سورية أكثر فتكًا من الصراع العسكريّ.

السنوات العشر الماضية كانت كافية كي نتعلم ألّا ضامن لأمن المواطنين ومستقبلهم إلّا بالاعتماد على الذات الوطنيّة والأخذ بزمام المبادرة، والكفّ عن انتظار الحلّ من خارج البيت السوريّ. ثمّة حاجة ماسّة لإعادة النظر بالمقاربات التي اتّبعتها المعارضة خلال السنوات السابقة، بالتعويل الكامل على الدول النافذة. وهذا برأيي خطأ فادح. الحلّ السوريّ لن يكون إلّا بالاعتماد أوّلًا على التعاون والتلاحم السوريّ والالتقاء على القيم الإنسانيّة والرساليّة والوطنيّة المشتركة التي تجمع بين السوريّين، والتركيز على المصالح الوطنيّة المشتركة، لا مصلحة فصيل أو مكوّن سوري منفرد. فالسوريّون إمّا أن يقفوا معًا أو يسقطوا معًا، ضمن منظومة سياسيّة دوليّة تقوم على تحقيق المصالح المتبادلة بين الأطراف لا المساهمة المجّانيّة لطرف في إصلاح أحوال الأطراف الأخرى.

اعتماد السوريّين على أنفسهم لا يعني تجاهل القوى الفاعلة في الملفّ السوريّ، فهذا غير ممكن حتّى لدول إقليميّة بحجم تركيا أو إيران. اعتماد السوريّين على أنفسهم ووضع مصالحهم الوطنيّة المشتركة قبل أيّ مصلحة أخرى يسمح لهم بتطوير إستراتيجيّة مشتركة، يمكن اعتمادها للتعاطي مع دول الجوار والقوى الدوليّة، بدلًا من التحوّل إلى أدوات تحرّكها الدول دون امتلاكها أيّ رؤية ذاتيّة أو عمق وطنيّ.

تركيا دولة مهمّة جدًا لمستقبل الصراع على سورية

ألا يمكن، بعد كلّ هذا النزيف والمعاناة، أن يتمّ العمل على تأسيس مظلّة دوليّة تدعم المسار السوريّ وصولًا إلى الحلّ، كما حدث في ليبيا أخيرًا؟

جوابي عن هذا السؤال يبدأ حيث ينتهي جوابي عن السؤال السابق، فلكي تحقّق أيّ مظلة دوليّة المصالح الوطنيّة يجب تشكيل صوت وطنيّ موحّد يعبّر عن المصالح السوريّة. مصالح السوريّين لا يمكن أن ترى من خارج البيت الوطنيّ السوريّ. ما حدث في ليبيا يختلف عمّا يحدث في سورية، نظرًا للترابط الوثيق بين القيادات السياسيّة والعسكريّة في ليبيا، وغياب مثل هذا الترابط في سورية. تشرذم المعارضة السوريّة بين أقطاب عديدة تدعهم دول متنافسة يجعل الحالة السوريّة مختلفة تمامًا عن الحالة الليبية. “الائتلاف”، مثلًا، لا يشرف على الجيش الوطنيّ، وقادة الجيش الوطنيّ لا يعودون في قراراتهم إليه، بل إلى القيادات التركيّة التي توفّر الإمداد الضروريّ لبقائهم. بل إننا نجد أنّ بعض من يتحرّك سياسيًّا باسم المعارضة السوريّة قد تماهى مع الإرادة التركيّة، باعتبار تركيا الداعم الوحيد الذي يقدّم إمدادًا عسكريًّا وغطاءً سياسيًّا اليوم. أنا لا اختلف مع من يقول بأنّ تركيا دولة مهمّة جدًا لمستقبل الصراع على سورية، وأنّ استمرار دعمها ضروريّ لمنع سقوط مناطق سوريّة في الشمال بأيدي الحلف الروسيّ الإيرانيّ. ولكنّ هذا لا يعني إلغاء دور السوريّين وتجاهل أولويّاتهم وحاجتهم إلى التحرّك لزيادة الفرص لكسب الدعم الوطنيّ. من وجهة نظر الأتراك، وكثير من الدول النافذة في المنطقة وخارجها، ليس ثمّة قيادة سوريّة، بل مجموعات سوريّة صغيرة تتنافس على كسب ودّ الدول، لتلقّي دعم خاصّ بها بدلًا من الانخراط في عمل وطنيّ مشترك، وتأجيل التنافس السياسيّ إلى مرحلة قيام مؤسّسات نيابيّة وديمقراطيّة حقيقيّة في البلاد.

كيف تنظر إلى العقوبات الأوروبيّة، والأميركيّة بخاصّة “قانون قيصر”، التي فرضت على نظام الأسد، والتي يعاني من جرائها الشعب السوريّ في الداخل الأمرّين؟

لنكن واضحين، أوّلًا في أنّ الشعب السوريّ لا يعاني بسبب عقوبات أميركيّة وأوروبيّة، بل بسبب تعنّت الطغمة الحاكمة ورفضها الحلّ السياسيّ الذي يمكن أن يعيد المهجّرين السوريّين إلى البلاد. الوضع الاقتصاديّ المتردّي لا يتعلّق في المقام الأوّل بالعقوبات الخارجيّة، بل بغياب العنصر الإنسانيّ الفاعل في بناء الاقتصاد، ثمّ في الفساد وسوء استخدام السلطة. المال العامّ يصرف اليوم لتحقيق مكاسب للرجل القابع على رأس الهرم السلطويّ في سورية ومن يحيط به، على حساب الشعب السوريّ. السبب الثاني في التراجع الاقتصاديّ في سورية يعود إلى سياسات النظام الماليّة والضريبيّة والأمنيّة. فتدهور الاقتصاد السوريّ يعود إلى تراجع الإنتاج، بسبب تهجير المنتجين وانهيار الليرة السوريّة، وإلى الزيادة الكبيرة في الضرائب المفروضة على من بقي من أصحاب الأعمال، وعلى أولوية الإنفاق على الحرب الداخليّة ضدّ السوريّين وتقديم الامتيازات الاقتصاديّة لروسيا وإيران، في مقابل مساهمتها في الحفظ على نظام سياسيّ واقتصاديّ فاسد.

وبالرغم من وجود “قانون قيصر”، فإنّ ملايين الدولارات تصل إلى النظام، من خلال مساعدات الأمم المتّحدة ليقوم بإنفاقها كما يشاء ولمن يريد، بعيدًا عن أيّ رقابة داخليّة من “مجلس الشعب” (النواب)، الذي تحوّل خلال حكم الأسد إلى بوق للدعاية له وتقديم آيات الامتنان والثناء، مقابل المناصب والهبات التي توزّع على نواب النظام من خلال إرادة قادة أجهزته الأمنيّة لا من خلال الإرادة الشعبيّة.

“قانون قيصر” يمنع التعامل مع الشركات التي ترتبط بشخص الأسد والطغمة الحاكمة التي تحيط به. والنظام قادر على إنهاء القانون بالدخول في شراكة مع المواطنين السوريّين والمعارضة التي كانت منذ البداية مستعدّة للدخول في مفاوضات وصولًا إلى حلّ عادل للمأساة السوريّة. وفي اللحظة التي يتغيّر فيها موقف النظام، فإنّ المشكلة الماليّة، التي لا يمكن حملها على “قانون قيصر” وحده، ستنتهي إلى غير رجعة.

لا يخفى على أحدٍ أنّ الخلافات الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة ساهمت في تفكيك جسم الثورة، وشتّتت هدفها الأساسيّ ألا وهو إسقاط نظام الأسد. سؤالنا ما هي الأولويّات اليوم لرأب التصدعات في المجتمع السوريّ لبناء سورية المستقبل؟

الخلافات الدينيّة والطائفيّة والقوميّة تعود إلى غياب الهويّة الوطنيّة الجامعة التي تقوم على قيم عُليا مشتركة، ولجوء الناس إلى الهويّات المرتبطة بالجماعات السكّانيّة المختلفة، لتأمين أمنهم ومصالحهم اليوميّة. ولا بأس أن ننبّه هنا إلى أنّ الهويّة الدينيّة ليست هي الدين، بوصفه جملة من القيم والتصوّرات الكلّيّة التي توجّه السلوك، بل تتعلّق بتماثل الناس في التقاليد والشعور بالانتماء إلى كتلة سكّانيّة متميّزة.

الهويّة الوطنيّة لا تتعارض مع القيم الدينيّة في المجتمع السوريّ، لأنّ السوريّين يشتركون في القيم التي دعت إليها الرسالات التوحيديّة، مثل العدل والتساوي بين الناس، بوصفهم إخوة في الأصل الإنسانيّ وفي الكرامة، ومثل العناية بالفقير والمحتاج والتعاون لمنع الفساد والعدوان، واعتماد الكفاءة، لا الرشوة والولاءات الخاصّة، للوصول إلى المنصب العامّ والوظائف الحكوميّة. هذه القيم الكلّيّة هي الأساس الذي يقوم عليه القانون العامّ والحقوق الإنسانيّة التي ترتبط بتساوي الناس بالكرامة. المشكلة في سورية ليست تعدّد الهويّات الدينيّة والطائفيّة، بل تحوّلها إلى هويّات سياسيّة يتضامن الناس على أساسها لتحقيق امتيازات خاصّة على حساب المصلحة العامّة المشتركة. استبدال الهويّة الوطنيّة الجامعة بهويّات حصريّة هو ما ولّد الظلم والعدوان على الحقوق وغياب العدل، ومن ثم أدّى إلى التناقض الفعليّ بين الهويّة الوطنيّة والهويّات الحصريّة الذي انتهى إلى صراع الهويّات.

المشكلة في الحالة السوريّة والعربيّة عمومًا أنّ القيادات السياسيّة لم تسعَ إلى بناء الدولة على أساس القوانين التي تتوافق مع القيم الإنسانيّة الكلّيّة التي جاءت رسالات السماء لتأكيدها، بل على أساس التشابه القوميّ أو الدينيّ. لذلك غلبت دعوات بناء الوحدة القوميّة أو الوحدة الدينيّة على الوحدة الوطنيّة، علمًا بأنّ بناء وحدة وطنيّة هي الخطوة الأولى والطبيعيّة لقيام وحدات أخرى، لا تتناقض مع وحدة أبناء المجتمع السياسيّ الواحد.

الأولويّات اليوم يجب أن ترتبط بسعي قادة الرأي والنخب المثقّفة إلى التأسيس لوحدة وطنيّة، وفق مبادئ العدل والمساواة، والحرّيّات الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة، ودولة القانون التي تقوم على دستور يحتضن القيم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد، على اختلاف هويّاتهم الثانويّة. وأقصد بالتأسيس هنا بناء المؤسّسات التي تعكس هذه القيم، وعدم الاكتفاء بالحديث عنها والتغني بها في الخطاب السياسيّ على حين أن واقع الحال يتناقض مع ما يقال.

أخيرًا، ما هي رسالتك للسوريّين؟

أدعو السوريّين إلى تحمّل مسؤوليّاتهم الوطنيّة والدينيّة والإنسانيّة، في العمل على بناء المجتمع السياسيّ الحرّ الذي يقوم على مبدأ العدل واحترام القيم المشتركة والقوانين. المواطن السوريّ يجب أن يرفض من يدعو إلى التمييز بين السوريّين، باسم الدين والطائفة والعشيرة والفئة، لأنّ هذا التمييز هو الذي ولّد صراع الهويّات وأوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم. المطلوب من الجميع الالتفاف حول مشاريع توحيد السوريّين، والحكم بينهم وفق قيم وقوانين عادلة منصفة، واختيار القيادات في انتخابات حرّة على أساس الخدمات التي يقدّمها هؤلاء للمجتمع، لا المحسوبيّات التي يسعون من خلالها إلى التحكّم في الجميع، وقيادتهم دون رضاهم إلى الاقتتال الداخليّ وتضييع الجهود والمقدّرات. فالظلم في أيّ مكان من الوطن هو خطر على المجتمع برمّته. فمن يظلم الكرد سيظلم العرب، ومن يميّز بين المسلم والمسيحيّ أو السنيّ والشيعيّ، بعيدًا عن قانون يتساوى أمامه الجميع، سيظلم جميع المواطنين باتّخاذ قرارات تصبّ في مصلحته الشخصيّة لا المصلحة الوطنيّة. وهذا ما حدث في سورية. رأس النظام، ومن أحاط به، أراد الحفاظ على امتيازات “ورثها” عن أبيه، واستخدم فئة من السوريّين لسحق المطالبين بالعدل والمساواة والمشاركة في المسؤوليّة الوطنيّة، فقادت خياراته الظالمة المُجحفة إلى تقسيم الدولة والمجتمع، وفتح الباب على مصراعيه أمام الهيمنة الروسيّة والإيرانيّة على البلاد.

كما أدعو المثقّفين وقادة الرأي من السوريّين إلى تجاوز الخلافات السياسيّة التي تفرّق بينهم، والتوحّد على تحرير المجتمع من الاستبداد، والالتقاء على المبادئ الضروريّة لقيام دولة حرّة ونظام سياسيّ، يسمح للسوريّين باختيار نوابهم وفق انتخابات حرّة نزيهة. التنافس السياسيّ على السياسات العامّة ضروريّ ومطلوب، ولكن هذا يوجب أوّلًا وجود دولة مستقلّة في قرارها، يُحترم فيها الدستور والقانون. وهذه يجب أن تكون الأولوية لجميع السوريّين.

قد يبدو الكلام حالمًا، في سياق التحدّيات التي تُحيق بسورية اليوم، ولكنّه كلام يؤكّد حقيقة تاريخيّة تتعلّق بشكل الدول وارتقاء الحياة السياسيّة، وارتباط هذا الارتقاء بالتضامن الداخليّ للمواطنين، والتنافس الشريف الذي يقوم على الاحترام المتبادل، بالرغم من الاختلاف، واتّخاذ القرار وفق آليّات التشاور التي تُولِّد القرار العامّ الأقرب لتحقيق المصلحة المشتركة. ولنتذكر أنّ رياح السياسة لا تسير طويلًا في اتّجاه واحد، وأنّ الأيّام القادمة حبلى بكثير من الاحتمالات القمينة بتغيير المعادلة السياسيّة في المنطقة. وعندها ستكون الفرصة الأعلى في تقرير توجّه البلاد للكتلة الاجتماعيّة الحرجة. فلتكن هذه الكتلة هي “التيّار الوطنيّ” الذي تتكامل فيه جهود المواطنين وقياداتهم السياسيّة.

أدعو السوريّين أخيرًا إلى عدم التخلي عن الكفاح النبيل من أجل حياة كريمة تليق بالإنسان، على الرغم من تثبيط أصحاب النفوس المهزومة والمرهقة لمثل هذا الجهد، فالمستقبل لمن يسعى إلى ما ينفع الناس، لا لمن يدغدغ كبرياء أصحاب الذوات المتورّمة والمصالح الضيّقة والادّعاءات الفارغة.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى