لكي تكون الديمقراطية ممكنة/ راتب شعبو
ترتطم الديمقراطية كل يوم بهذا السؤال: كيف تحسم معارك اختبارات القوة في الشارع خارج المؤسسات؟ نقصد المعارك التي لا تخضع لسلطة مقرِّرة ولا لمبدأ الحسم بالتصويت. في فرنسا مثلاً، حيث لا يكفّ الشعب عن الاحتجاج، ماذا لو لم تستجب الحكومة لمطالب المتظاهرين أو المضربين عن العمل؟ الاحتجاج لا يمكن أن يكون لا نهائياً، ولا توجد وسيلة أخرى لفرض مطالب المحتجين على الحكومة، فما المخرج؟ من هو الطرف الذي سوف يقبل التراجع أو الهزيمة؟ وكيف يمكن أن تنتهي الأمور إذا رفض كل طرفٍ التراجع أمام الطرف الآخر؟ هل يمكن، تحت ضغط الاحتجاجات، أن تتحطّم مؤسسات الحكم الديمقراطي حين لا تستجيب لمطالب المحتجّين، أو أن ترتدّ هذه المؤسسات بالعنف حتى تخمد الاحتجاجات؟
قد يبدو هذا السؤال غليظاً على ضوء المنطق الديمقراطي، أو قد يبدو سؤالاً “ديكتاتورياً” على النظام الديمقراطي، ذلك لأنه (السؤال) ينطلق من مبدأ الغالب والمغلوب، من مبدأ أن الصراع يجب أن ينتهي لصالح أحد الطرفين، في حين أن نتيجة الصراع في النظام الديمقراطي تجمع الطرفين بطريقة “التسوية” التي فيها من التأليف أكثر مما فيها من الكسر، أي كما لو أن هناك طرفاً ثالثاً تنتهي إليه النتائج، وهذا الطرف يمثل محصلة الصراعات، وما يمكن أن يعبر بالعموم عن “المصلحة العامة” التي تستقر على توازن دقيق تحققه آليات النظام الديمقراطي.
لا تستطيع السلطة المنتخبة في نظام ديمقراطي مكتمل الأركان أن تتمادى في صدّ الشارع وعدم الإصغاء له، لأنها في النهاية تستمد سلطتها منه. كما أن الشارع لا يستطيع أن يتمادى في الاحتجاج زمنياً، لأن الاحتجاج ليس “وظيفة” لها مردود تعيش عليه الأسرة، ولا بد من العودة إلى العمل لكسب العيش، أو يتم تخصيص العطلة الأسبوعية للاحتجاج، وهذا بدوره ليس بلا حدود. الأمر نفسه ينسحب على الإضرابات العمالية التي يتوقف خلالها دخل المضربين. ومن ناحية ثانية، لا يتجذّر الاحتجاج ليتحول إلى العنف، نظراً إلى ما لهذا التحول من رفض عام، من دون أن يمنع هذا من وجود نسبة متزايدة من العنف في الاحتجاجات، مردّها أن الاحتجاج السلمي الهادئ أقل تأثيراً على الحكومات، قياساً بتأثير الاحتجاج العنيف، مثل التكسير والحرق وبعض الاحتكاك مع الشرطة، ويشكّل هذا سقف العنف الذي تشهده الاحتجاجات.
من نافل القول إن أجهزة الحكومة، في الأنظمة الديمقراطية الراسخة، قادرة على قمع الاحتجاجات التي تخرج ضدها، ولكنها لا تفعل، ولا يعود ذلك بالتأكيد إلى طبيعة “سامية” للحكام في هذه البلدان، بل إلى حساباتٍ سياسية تدرس ردود الفعل المحلية وانعكاسها على حكوماتهم، وتدرس ردود الفعل الخارجية للحكومات التي ترتبط مع حكومتهم بالمجال الجيوسياسي. حتى لو شاءت نخبةٌ حاكمةٌ في نظام ديمقراطي أن “تخون” الديمقراطية وتتفلت من نواظمها، فإنها تجد الباب موصداً في وجهها، وتجد أن مصلحتها تكمن في عدم التمادي في القمع، وفي التقيد بحدودٍ معينةٍ من احترام حقوق الناس في التظاهر والإضراب وأشكال الاحتجاج المختلفة، وفي إيجاد تسويةٍ ما مع المحتجين الذين بدورهم يدركون حدود الاحتجاج، ويقبلون التفاوض والتسويات، ويبقون جاهزين للوقوف عند حقوقهم.
هناك إذن حدود داخلية تضبط الصراع، ويمكن أن ينعكس عدم احترام هذه الحدود سلباً على الطرف الذي ينتهكها. لا يعني هذا أن هذه الحدود الداخلية تجعل الصراعات تسير على صراط مستقيم، فالغالب، في سياق هذه الصراعات، أن تميل الكفّة إلى هذه الجهة أو تلك، لكن من دون أن ينكسر الميزان. في غياب الحدود الداخلية المذكورة، يفقد النظام الديمقراطي معناه “الديمقراطي”، وقد يتحول إلى نظام قمع ظاهر أو مستور، أو قد يتفكّك إلى فوضى. غير أن ثبات هذه الحدود وقدرتها على منع تحول الصراع إلى صراع غير تسووي، أو إلى صراع سيطرة، يحتاج أولاً إلى تموضع أو تنصيب مكتمل للنظام الديمقراطي، سواء في العلاقات البينية بين المؤسسات، أو في الوعي العام.
من أجل ذلك، لا غنى عن توفر عنصرين مترابطين، الأول النسيج الهوياتي المشترك للشعب (شعور بهوية مشتركة وبوحدة المصير)، والثاني حدود دنيا من القيم المشتركة، ليس فقط بمعنى الإيمان المشترك بقيم مجرّدة، بل الأهم هو الإيمان بهذه القيم تجاه كل شرائح المجتمع وفئاته، وعدم القبول أو التساهل بانتهاك هذه القيم مع جماعة دون أخرى (سياسية أو قومية أو عرقية أو دينية أو مناطقية… إلخ). توفر هذين العنصرين يمنع التباينات السياسية بين شرائح المجتمع من تمزيق النسيج المشترك، ومن أن تتحوّل إلى صراعات إلغاء وسيطرة.
في الصراعات بين الحكومة والمحتجين ضمن النظام الديمقراطي، يوجد دائماً طرفٌ ثالث لا يشارك مباشرة في الصراع، ولكنه حاضر وفاعل فيه مع ذلك، هذا الطرف هو بقية الشعب. إذا كان طرفا الصراع في لحظة معينة هما أبطال المسرح، فهذا الطرف الثالث هو الجمهور، وهو حاضرٌ في ذهن طرفي الصراع. غالباً لا يملك هذا “الجمهور” موقفاً واحداً من المتصارعين، بعضه ينحاز إلى هذا الطرف، وبعضه للطرف الآخر، وبعضه لا مبال أو ليس له موقف محدّد أو منته، ولكنه يشترك في رفض تجاوز “الحدود الديمقراطية”، ما يجعل طرفي الصراع محكومين، إلى حد لا بأس به، لهذه الحدود. هذا يكرّس الحدود الداخلية للصراع على المستويين، الشعبي والسياسي، فضلاً عن دور المؤسسات القضائية الراسخة التي تحيل هذه الحدود إلى قوانين جاهزة لمحاسبة من يتجاوزها.
غياب الشعور العميق بانتماء مشترك قادر على مسك النسيج المجتمعي، بكل تبايناته السياسية وغير السياسية، يهدّد القيم المشتركة نفسها. رفض قتل البريء مثلاً هي قيمة مشتركة، حين يقتصر احترام هذه القيمة على دائرة من المجتمع دون غيرها، أي حين نجرّم قتل بريء هنا، ونتجاوز أو نتساهل أو نبرر قتل بريء في مكان آخر أو من جماعة أخرى… إلخ، فإننا نقتل هذه القيمة. أي يتفوق الموقف السياسي أو الطائفي أو القومي على هذه القيمة الأساسية.
توجد علاقة أو تغذية متبادلة بين تموضع نظام ديمقراطي في مجتمع ووجود نسيج مشترك وقيم مشتركة ذات احترام عام غير تمييزي. النظام الديمقراطي يقوي النسيج الاجتماعي المشترك، ويعزز القيم المشتركة، وهذا بدوره يوفر ركيزة أكثر ثباتاً للنظام الديمقراطي.
العربي الجديد