معتقلو شمال شرقي سوريا.. “الإدارة الذاتية” تخرق التزاماتها/ صالح ملص | نينار خليفة
“في الساعة الثانية بعد منتصف ليل الـ17 أو الـ18 من تموز الماضي، اقتحمت دورية مشتركة مؤلفة من قوى الأمن الداخلي (أسايش)، ووحدات مكافحة الإرهاب، التابعة لـ(قوات سوريا الديمقراطية) منزل أخي برزان حسين محمد، الكائن في بلدة المعبدة (كركي لكي) بريف الحسكة، واعتقلته دون توجيه أي تهم له، أو إبراز مذكرة اعتقال قانونية بحقه”.
بهذه الكلمات وصف كولال، أخ المعتقل برزان حسين محمد المعروف باسم برزان لياني، عملية اعتقال أخيه، التي روّعت عائلته كونها حصلت في ساعة متأخرة من الليل ودون سابق إنذار، فضلًا عن ارتداء المسلحين أقنعة تخفي وجوههم، وعدم التعريف عن أنفسهم أو تبيان سبب اقتحامهم، وعلاوة على ذلك عمد أحد المسلحين إلى تصوير عملية الاعتقال دون مراعاة خصوصية أفراد العائلة واستجدائهم بإيقاف التصوير.
وفي تفاصيل ما حدث، قال كولال لعنب بلدي، “يعمل أخي برزان صحفيًا في برنامج (آرك) الذي يبث على قناة (زاغروس)، وهو عضو في (اتحاد الكتاب الكرد) وعضو اللجنة الفرعية للحزب الديمقراطي الكردستاني (سوريا)، وقد اُعتقل بالتزامن مع اعتقال ثلاثة أشخاص آخرين هم: الصحفي عز الدين ملا، وعضو الهيئة الاستشارية في الحزب الديمقراطي الكردستاني محمد دحام أيو، وعضو المجلس المنطقي للحزب محمد صالح شلال، وبينما أُفرج عن عز الدين لا يزال المحتجزون الثلاثة قيد الاعتقال” (حتى لحظة إعداد الملف).
وحول التهم الموجهة لبرزان ورفاقه، أشار كولال إلى عدم وجود أي شيء واضح بهذا الخصوص، لافتًا إلى أن عز الدين أخبرهم فور الإفراج عنه، أنه لم يجرِ أي تحقيق معهم، بل مجرد تسجيل لأسمائهم.
منذ سبعة أعوام، تمارس “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) سلطتها الفعلية على شمال شرقي سوريا، بتقديم “الإدارة الذاتية”، التي أُسست عام 2014، كنموذج مدني للإشراف على المنطقة بمؤسساتها المختلفة، فأنشأت مجالس تحاكي الوزارات، ومحاكم قضائية، وقوة شرطية وأمنية.
في 2019، أعلنت “قسد” بدعم من “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة استعادة آخر البلدات التي كان يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، وأسست لقوانين ونظم عدالة اجتماعية.
إلا أن تلك القوانين لم تكن رادعة لمنع ممارسة الاعتقال التعسفي، إذ انتهكت “قسد” سلامة الإجراءات القانونية وأخفقت في معالجة ذلك.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف قضية الاعتقال التعسفي في شمال شرقي سوريا، بتسليطها الضوء على بعض شهادات أفراد تعرضت حقوقهم لانتهاكات في المنطقة، مع التركيز على دور القوانين في ضبط هذه الممارسات وضمان عدم تكرارها، بالإضافة إلى الآليات القانونية والمساحة القضائية المتاحة لمحاسبة مرتكبي تلك الانتهاكات.
تفاصيل بعيدة عن العدالة
حول التهم الموجهة لبرزان ورفاقه، أشار كولال (أخوه) إلى عدم وجود أي شيء واضح بهذا الخصوص، لافتًا إلى أن عز الدين أخبرهم فور الإفراج عنه، أنه لم يجرِ أي تحقيق معهم، بل مجرد تسجيل لأسمائهم.
ويرى كولال أن عملية الاعتقال التي قامت بها الأجهزة التابعة لـ”الإدارة الذاتية” بحق أشخاص ينتمون إلى الحزب “الديمقراطي الكردستاني” جاءت كرد فعل على احتجاز حكومة إقليم كردستان العراق في وقت سابق ممثلين عن حزب “الاتحاد الديمقراطي” في أثناء توجههم إلى مطار “أربيل”، معتبرًا أنه تم احتجاز الناشطين الأربعة كرهائن، ليتم الإفراج عنهم مقابل إطلاق سراح المجموعة المعتقلة الأخرى.
من جانبها، نقلت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في تقرير سرد تفاصيل اعتقال الناشطين الأربعة، عن عائلات المحتجزين اعتقادهم أن الدافع وراء عمليات الاعتقال سياسي، إذ ينتمي معظم المعتقلين إلى الحزب “الديمقراطي الكردستاني (سوريا)”، المعروف بمعارضته الشديدة لـ”الإدارة الذاتية”.
وكان “المجلس الوطني الكردي” استنكر، في بيان أصدره في 18 من تموز الماضي، عمليات اعتقال عدد من أعضائه على يد “الإدارة الذاتية”، معتبرًا أنها تشكّل “استهتارًا بالرأي العام وتعميمًا لمناخ الاستبداد وقمع الرأي الآخر”، وأنها “تهدف إلى نسف المفاوضات المأمولة والتي تم التمهيد لاستئنافها والتفاؤل بالوصول إلى اتفاق يوحد الموقف الكردي”.
كما أدانت منظمة “مراسلون بلا حدود”، في بيان لها أصدرته بتاريخ 20 من تموز، استهداف صحفيين سوريين من بينهم برزان لياني وعز الدين ملا ومحمد صالح، وقالت رئيسة مكتب الشرق الأوسط في المنظمة، صابرين النوي، “تُظهر هذه الانتهاكات الخطيرة لحرية الصحافة أن سوريا لا تزال بلدًا خطيرًا على الصحفيين أينما كانوا ومهما كانت القوات الموجودة هناك”، وهو ما نفته “الإدارة الذاتية” في توضيح نشرته بتاريخ 25 من تموز، وردت بالقول إن “بعض المنظمات والمؤسسات الدولية المدافعة عن حقوق الصحفيين بدأت باستغلال بعض الحوادث الجنائية في مناطق (الإدارة الذاتية) لتحوّلها إلى قضايا إعلامية، وتروّج للأمر وكأنه استهداف للصحفيين وتضييق عليهم وعلى حرية العمل الإعلامي”.
وتتكرر حالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، وتخلل بعضها عمليات ضرب وتعذيب وموت بسبب التعذيب، بينما خلت أخرى من ذلك.
تهم تتعلق بـ”الإرهاب”
يستذكر حسن قصاب من أهالي مدينة الطبقة بريف الرقة الغربي حادثة اعتقاله على يد عناصر تابعين لـ”قسد”، في 16 من آب عام 2019، إذ وجهت له تهمة “تمويل الإرهاب”، ليتم الإفراج عنه لاحقًا في 29 من تشرين الأول بعد 75 يومًا من احتجازه.
يروي حسن لعنب بلدي تفاصيل اعتقاله والتحقيق معه من قبل “قسد” و”التحالف الدولي”، في الفترة التي كان يشغل فيها منصب منسق “مشروع فرات” المموَّل من الخارجية الأمريكية، ويقول، “في اليوم التالي لزفافي تمت مداهمة منزلي واعتقالي من قبل قوات الأمن العام التابعة لـ(قسد) بتهمة تمويل المنظمات للقيام بأعمال إرهابية دون إعطاء أي تفاصيل حول أسماء هذه المنظمات أو أي معلومات أخرى عنها”.
ويضيف، “أما السبب الأساسي للاعتقال من وجهة نظري فهو عملي ببرنامج (فرات) وهو أكبر مانح في شمال شرقي سوريا، وكان المسؤول عن محطات المياه والكهرباء والطرق وغيرها، إذ كان “مجلس الرقة المدني” يحاول الحصول على تعهدات المياه والكهرباء عن طريق شركات خاصة تابعة له مثل شركة (الشمال)، وكنا من باب الشفافية نمنع حصوله على المناقصات، وبعد عدة محاولات وجدوا أنه لا جدوى من الكلام فحاولوا إخراجنا من كامل المشهد”، وفق تعبيره.
ويتابع، “بعد عودتي إلى سوريا لإتمام مراسم زفافي، إذ كنت حينها أتابع دراستي في الخارج، تم اعتقالي مع المنسق الميداني للبرنامج، وأربعة أشخاص يعملون في منظمة (صناع المستقبل)، ورئيس مجلس إدارة منظمة (إنماء) وكلها منظمات مدعومة من جهات أمريكية، واتهمونا بتمويل الإرهاب والارتباط مع جهات خارجية، وبعد 17 جلسة تحقيق قامت بها (قسد) و(التحالف الدولي) تبيّن في النهاية أن لا صحة لهذه التهم، وقالوا لنا وصلتنا تقارير كيدية تبيّن أنها كاذبة، ونحن مجبورون أن نسأل ونتحرى”.
لم يتعرض حسن ورفاقه للضرب أو الإهانة في أثناء اعتقالهم، لكنه كان شاهدًا على عمليات تعذيب شملت كبارًا بالسن، إلى جانب وجود أطفال صغار داخل السجن.
يقول بهذا الصدد، “بحكم أننا ناشطون، كانوا حريصين على عدم تصدير أي صورة خاطئة عنهم حتى لا نتحدث عنهم عند خروجنا، وفي جلسات التحقيق حافظوا على حدود دنيا من الاحترام، كما أوصوا السجانين بعدم ضربنا، ولكن هذه الطريقة في التعامل كانت لا تنطبق على الجميع، فقد شاهدتُ عمليات ضرب وتعذيب طالت أطفالًا وكبارًا في السن”.
قوانين لا تردع الاعتقالات أو الاختطاف
يشوب نظام العدالة الذي تديره “الإدارة الذاتية” عدة إشكاليات قانونية تقوّض الحقوق في سلامة الإجراءات والمحاكمة العادلة، خصوصًا في القضايا ذات الصبغة السياسية.
ففي أغلب الأوقات، تخفق “قوى الأمن الداخلي” (أسايش) التي تمثل الذراع الأمنية لـ”قسد” في تقديم تصريح عند توقيف المدنيين، مع عدم إخطار المعتقلين بأن لهم الحق في الاستعانة بمحامٍ، أو دون وجود أمر من النيابة العامة، وفق ما قاله المحامي محمد أيوب في حديث إلى عنب بلدي، وهو يعمل ضمن المحاكم التي تشرف عليها “الإدارة الذاتية”.
كما أن تحقيقات النيابة وما يتلوها من إجراءات تعتبر باطلة لعدم وجود دعوة محامٍ أو انتداب محامٍ للمتهم عند وجوده، وذلك عند استجواب المتهم في حالة اعترافه أو الانتقاص من حقوقه، وفق ما قاله المحامي، ما يؤثر على مركزه القانوني للغاية التي يبتغيها القانون في الاستجواب والتحقيق.
ويجب السماح للمحامي بالاطلاع على التحقيق في الاستجواب أو المواجهة ما لم يقرر عضو النيابة المحقق غير ذلك، طبقًا لما تقتضيه مصلحة التحقيق.
ويغفل بعض القضاة عند إصدار حكمهم بسجن المتهمين، أن هناك شكاوى تفيد بأن المحققين انتزعوا الاعترافات تحت التعذيب.
وفي حزيران الماضي، أدانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إخفاء “قسد” القسري لأمين العلي ثم تعذيبه حتى الموت، مشيرة إلى أن الإخفاء القسري والتعذيب صارا بمثابة “استراتيجية” لدى “قسد”.
كان أمين العلي يقيم في مدينة الحسكة، وهو عضو في اللجنة الفرعية للحزب “الديمقراطي الكردستاني (سوريا)”، ووفقًا لتقرير “الشبكة”، فقد داهمت دورية تابعة لـ”قسد” منزل أمين في 22 من أيار الماضي دون وجود أي مذكرة قضائية، واُعتقل تعسفيًا.
وفي اليوم التالي، توجهت عائلة أمين إلى المقرات الأمنية التابعة لـ“أسايش” ليتبين لهم أنه موقوف لدى النيابة العسكرية في مدينة الحسكة، ولم تحصل عائلته على أي معلومات رسمية حول التهم الموجهة إليه طوال مدة اعتقاله، كما لم تتمكن من توكيل محامٍ أو زيارته على الرغم من محاولاتها المتكررة.
في كانون الثاني عام 2014، تم التصديق على القانون المسمى “ميثاق العقد الاجتماعي” في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” كي يعزز بعض المعايير الحقوقية المهمة، ضمن تسعة أبواب ضمت 95 مادة، ويعد بمثابة الدستور الخاص بـ”الإدارة الذاتية”.
وتبعت هذا “الميثاق” تعديلات عدة، وخلال آب الحالي، تعمل “الإدارة الذاتية” على تعديله كخطوة استباقية لإجراء انتخابات محلية في عموم المناطق التي تديرها.
ويأمل المحامي محمد أيوب أن تركز لجنة إعادة صياغة “الميثاق” هذه المرة على منع أي اعتقال للمدنيين من قبل قوى الأمن دون إبراز أمر من النيابة العامة.
ومجموعة الإجراءات المتعلقة بأصول المحاكمات المدنية والجزائية والأحكام العامة ورفع الدعاوى وقيودها، بالإضافة إلى مواضيع الدفوع، واختصام الغير، حُددت ضمن قانون “الإجراءات لنظام العدالة الاجتماعية”، كذلك تفاصيل تتعلق بالأفراد والآلية التي يجب اتباعها في أثناء التقدم بالدعاوى القضائية، وعرض تفصيلي لآلية إصدار مذكرات الإخطار والإحضار والتوقيف، ومعلومات عن آلية إجراء الجلسات القضائية ونظامها.
تناقض بين الأنظمة الداخلية والواقع
يعتبر هدف “قوى الأمن الداخلي” (أسايش) هو “الحفاظ على النظام العام والسلم الأهلي والاجتماعي وفق مبادئ قانونية ناظمة لها”، وفق ما قاله أحد عناصر “أسايش” في حديث إلى عنب بلدي.
و”لدينا عدة فروع في كل مدينة أو قرية حسب الحاجة”، بحسب ما أضافه العنصر (الذي تحفظ على ذكر اسمه لدواعٍ أمنية)، وفيما يخص اتهام “أسايش” من قبل منظمات حقوقية بممارسة الاعتقال التعسفي، قال “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص إلا بإذن من الجهة القضائية، ومن يمارس أي انتهاك لهذا النظام، يعاقَب ويحاكَم بالسجن حسب الجرم المرتكب بحق المواطن”.
ومن ضمن المحظورات في اللوائح الداخلية لـ”أسايش”، “توقيف أي شخص على ذمة التحقيق أكثر من 24 ساعة قابلة للتمديد من الجهة القضائية المختصة على ألا تتجاوز مدة التوقيف سبعة أيام ليحال الموقوف بعدها للقضاء”.
و”السجون داخلها مهاجع، مثل السجن المركزي في الرقة، عدد المهاجع فيه 20، ويتسع المهجع الواحد لما يقارب 100 شخص، ويحال السجين إلى السجن المركزي بعد توقيف مبدئي من أجل التحقيق فقط”، وفق ما قاله عنصر قوى الأمن، “وبعدها يحال إلى المحكمة، ثم إلى السجن، وهذا على مستوى مدينة الرقة”.
وتواصلت عنب بلدي مع المستشار لدى “الإدارة الذاتية”، بدران جيا كرد، للوقوف على أبرز أسباب عمليات الاعتقال في المناطق التابعة لـ”الإدارة”، إلا أنه امتنع عن تقديم أي إجابة.
كما توجهت عنب بلدي بأسئلة إلى “التحالف الدولي” بشأن موقفه من انتهاك سلامة الإجراءات القانونية في أثناء اعتقال المدنيين بمناطق سيطرة “القسد”، ودوره في معالجتها، إلا أن تلك الأسئلة لم تلقَ أي إجابات.
ويلعب “التحالف الدولي” دورًا أساسيًا في دعم قوات “قسد” بعمليات عسكرية ضد خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، ويشرف رسميًا على تنفيذ مشاريع خدمية تندرج في شمال شرقي سوريا تحت “برنامج إعادة الإعمار”.
وعلى الرغم من نص اللوائح الداخلية لـ”أسايش” على عدم إيذاء أو اعتقال الأفراد دون مذكرة قضائية، فإن ذلك لا يطبق في الواقع، وفق ما ذكره “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” خلال بيان نشره في تموز الماضي، إذ تمارس “قسد” الاختطاف والإخفاء القسري ضد الناشطين السياسيين، وينتهك ذلك الحق في الحرية والسلامة الجسدية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمعتقلين والمغيبين ولأفراد عائلاتهم.
في 21 من كانون الثاني عام 2014، أُسست “الإدارة الذاتية في إقليم الجزيرة”، لتتبعها “إدارات ذاتية ومدنية”، توحدت في 6 من أيلول عام 2018، تحت اسم “الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا”، حسبما أعلن “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، الذارع السياسية لـ”قسد”.
تعاقبت فصائل متعددة على حكم المنطقة، التي كانت الرقة أولى المحافظات التي خرجت فيها عن سيطرة النظام السوري، في آذار من عام 2013، ولم يتمكن أي منها أن يكون بديلًا حقيقيًا عن مؤسساته.
سيطرت “قسد” على مدينة الرقة، في 17 من تشرين الأول عام 2017، بعد معارك دامت 166 يومًا ضد التنظيم، بدعم من “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان يوفر الغطاء الجوي والدعم اللوجستي للقوات المقاتلة على الأرض.
وبعد تمكن “قسد” من إبعاد قوات التنظيم عن المنطقة، أُعلن قيام “الإدارة”، التي ذكر “مسد” أن الهدف منها هو “تشكيل هيكل إداري ينسق الخدمات بين المناطق، ولملء الفراغ الإداري والأمني”.
سلوك يستقوي بالسلاح فقط
العشائر عاجزة عن الحد من الانتهاكات
في عام 2019، عقد “مجلس سوريا الديمقراطية” (الذراع السياسية لـ”قسد”) مؤتمرًا للعشائر العربية في منطقة عين عيسى بريف الرقة الشمالي.
عُقد المؤتمر تحت عنوان “العشائر السورية تحمي المجتمع السوري وتصون عقده الاجتماعي“، وحضره مشايخ عشائر من المنطقة الشرقية من سوريا، والرئيس السابق لحزب “الاتحاد الديمقراطي” (الكردي)، صالح مسلم، إلى جانب مسؤولين في “مجلس سوريا الديمقراطية” على رأسهم إلهام أحمد.
جاء انعقاد المؤتمر في حين تشهد مناطق في شمال شرقي سوريا توترًا ومظاهرات رافضة للممارسات التي تقوم بها “قسد” من انتهاكات ضد المدنيين وسط توترات أمنية.
ويعوّل على المجتمع العشائري التي تتميز به المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا بتحقيق الأمن الاجتماعي من خلال الوعي السياسي والاجتماعي بالتعاون مع السلطة الفعلية للمنطقة.
وتتكون التركيبة الاجتماعية لـ”قوى الأمن الداخلي” (أسايش) من عشائر المنطقة نفسها، وبذلك يكون حجم الخوف من عناصر الأمن ضئيلًا إذا ما قورن بحالة عدم وجود أي صلات اجتماعية بين عناصر الأمن والمجتمع العشائري.
لكن هذه الخصوصية العشائرية لا أثر لها في الحد أو معالجة الانتهاكات ضد حقوق المعتقلين في شمال شرقي سوريا، وفق ما يراه الصحفي المتخصص في منطقة شرق الفرات سامر الأحمد في حديث إلى عنب بلدي.
وفي الواقع، لا يوجد أي رادع قانوني أو اجتماعي لسلوك “قسد” غير الإنساني في تعاملها مع معتقليها، فهي “تسلك سلوك بقية الميليشيات المسلحة المنتشرة على مختلف المناطق السورية”، بحسب ما أضافه الصحفي الأحمد، فلا يوجد أي حساب لخصوصية عشائرية لأن “(قسد) تستقوي بالسلاح فقط”.
اشتغلت “قسد” على تفكيك البنية العشائرية في المنطقة، بحسب الأحمد، من خلال تغييب أغلب زعاماتها، فلم يعد لديها أي دور في صنع القرار السياسي أو الأمني.
وتعاني العشائر العربية في المنطقة من انقسام داخل بنيتها الاجتماعية، جعلها رهينة تجزئة أبناء العشيرة الواحدة إلى جانب كل طرف من أطراف النزاع.
هل من آليات للمحاسبة
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، تحدث لعنب بلدي عن الآليات المتاحة لمحاسبة الضالعين في عمليات الاعتقال التعسفي لدى “الإدارة الذاتية”، مؤكدًا أهمية بقاء موضوع المحاسبة على الطاولة بشكل رئيس، وأن يشمل جميع أطراف النزاع السوري على حد سواء.
وبيّن أنه في ظل عدم توفر آلية محاسبة دولية للسوريين في الوقت الحالي، يمكن اللجوء إلى “لجنة التحقيق الدولية” التابعة للأمم المتحدة، التي تُصدر تقارير علنية عن سوريا، ومحاولة تشجيعها على تبني ملفات وقضايا معتقلي “الإدارة الذاتية” ومشاركتها مع الرأي العام، لأن ذلك يشكّل نوعًا من الضغط والحرج على “الإدارة”، على أمل تعزيز فرص الإفراج عن المعتقلين وكشف مصير المفقودين.
كما يمكن مشاركة الأدلة المتعلقة بهذا الصدد مع “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” التابعة للأمم المتحدة، والتي تعمل على بناء قضايا وملفات قانونية، لكنها ستكون مستقبلية.
أما على الصعيد الداخلي فإن آليات التقاضي المحلية المتمثلة بالمحاكم التابعة لـ”الإدارة الذاتية” ليست ذات جدوى كبيرة، باعتبار أن “الإدارة” هي من أنشأتها.
وأكد العبد الله أهمية استقلالية القضاء، وتمتعه بسلطة فعلية، فعلى سبيل المثال، إذا أمرت محكمة “الإدارة” بإخراج معتقل من السجن، على أجهزة الأمن التابعة لها الالتزام بذلك، وهو ما لا يطبق حاليًا لغياب وجود سلطة فعلية واضحة للقضاء.
تحقيق علني بالانتهاكات
أشار العبد الله إلى أنه في بعض الحالات التي اتضح وجود تعذيب أو موت تحت التعذيب لمعتقلين لدى “الإدارة الذاتية”، لم يتم التحقيق بشكل علني وشفاف من قبلها، ورغم محاولتها القيام ببعض الجهود بهذا الصدد، لا تزال أدنى من المعايير المقبولة بشكل واضح، بحسب تعبيره.
وأضاف العبد الله أنه عُقد مؤخرًا مؤتمر صحفي للأطباء الشرعيين للحديث عن جثة أمين عيسى العلي، وعرضوا ما لديهم من أدلة، لكن لم يجرِ تحقيق رسمي من قبل “الإدارة” حول الحادثة.
وكانت عائلة أمين تحدثت عن تعرّضه لتعذيب أفضى إلى موته، ونشرت صورًا ومقاطع مصوّرة تظهر آثار التعذيب على مناطق مختلفة من جسده، وهو الأمر الذي نفته “الإدارة الذاتية” عازية وفاته إلى “تعرّضه لجلطة دماغية”.
واعتبر العبد الله أن الحل الوحيد المتاح حاليًا بشكل واقعي، هو اللجوء إلى عوامل الضغط السياسي على “الإدارة”، إما عن طريق توجيه نصائح لها بشكل مباشر، “بأن هذا الملف يضر بكم ولا يجب أن تقوموا باعتقال هؤلاء الأشخاص”، وإما أن يتم الضغط عليها من قبل الحكومات الحليفة، الأمريكية أو الفرنسية أو السويدية، وهو ما تم اللجوء إليه بأكثر من حالة من حالات الاعتقال، منها عندما اعتقل الصحفي حسام القس، إذ أُخلي سبيله نتيجة ضغط أمريكي- فرنسي سريع على “الإدارة”.
فصل ملف “الإرهاب”
نوّه محمد العبد الله إلى ما تسببه الاعتقالات التعسفية والسياسية من إساءة للصورة التي تعمل “الإدارة الذاتية” على بنائها والترويج لها، وإلى محاولتها تقديم نفسها كسلطة قانون تشيع السلام.
ومن جانب آخر، تحدث اعتقالات في مناطق “الإدارة الذاتية” على خلفية ملف “الإرهاب”، لوجود أشخاص أو خلايا تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” بمناطق شمال شرقي سوريا، وهو ما يجب أن يتم بشفافية مطلقة، بحسب العبد الله، إذ لا يمكن لـ”الإدارة” أن تهرب من قضايا الاعتقال السياسي أو التعسفي بغطاء “مكافحة الإرهاب”، فقد حصل سابقًا اعتقال ناشطين مدنيين بحجة اتهامهم بأنهم خلايا من التنظيم، ومن ثم الإفراج عنهم بعد عدة أسابيع.
وأشار العبد الله إلى أن موضوع مكافحة “الإرهاب” والمعتقلين على خلفية “الإرهاب”، شائك ومعقد وقد فشلت بالتعامل معه معظم الدول، فعلى سبيل المثال حدثت في العراق اعتقالات سياسية وتصفيات بتهم الانتماء لتنظيم “الدولة”، كما يعتقل النظام السوري الناشطين المدنيين ويسميهم “إرهابيين” ويحولهم إلى محكمة “الإرهاب”.
وتعد محكمة “الدفاع عن الشعب” (محكمة الإرهاب) إحدى مؤسسات العدالة الاجتماعية في أقاليم “الإدارة الذاتية”، وأُسّست في بداية عام 2014، بدعوى النظر في الجنايات المرتكبة بحق أبناء مناطق شمال شرقي سوريا.
وأكد مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” أن غياب الشفافية في هذا الإطار وعدم تعزيز الحريات وحمايتها يؤدي إلى انزلاق “الإدارة” باتجاه سلوكيات الأنظمة الحاكمة في المنطقة، وهو ما يشكّل خطرًا دائمًا.
عنب بلدي