وحشية بلا حدود/ فضل عبد الغني
ترجمة أحمد عيشة
تعرّض عشرات الآلاف من السوريين للاعتقالات التعسّفية، معظمها اعتقالات قامت بها قوات الأمن التابعة للنظام السوري، على إثر مواجهتها الحركة الشعبية التي بدأت في آذار/ مارس 2011. وقد عانى السوريون جميعًا نوعًا واحدًا على الأقلّ من التعذيب، وعادة ما تكون أشكال التعذيب متعددة.
وتُظهر قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن ما لا يقلّ عن (14,506) شخص لقوا حتفهم بسبب التعذيب، على أيدي الأطراف الرئيسة في الصراع في سورية، منهم (180) طفلًا و (92) امرأة (إناث بالغات).
يحظر القانون الدولي -من دون تحفظ- التعذيب وغيره من أشكال المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 4)، ويعدّ ذلك قاعدة عرفية لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها أو معاملتها على قدم المساواة مع غيرها من الحقوق أو القيم، حتى في حالة الطوارئ. ويعدّ التعذيب المنتظم على نطاق واسع جريمةً ضد الإنسانية (ميثاق روما الأساسي، المادة 7 (1-ف)، وانتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان (اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 32)؛ ويرقى إلى جرائم الحرب (ميثاق روما الأساسي، المادة 8 (2 -أ-2).
هناك أربعة جوانب رئيسة، تحدد التعذيب في سورية على مدى الأعوام العشرة الماضية:
النظام السوري مسؤول عن الغالبية العظمى من الوفيات بسبب التعذيب
ترتَكب جميع أطراف الصراع جرائم التعذيب؛ غير أن النظام السوري، الذي يسيطر على الجيش وقوات الأمن والمحاكم، مارس التعذيب في مراكز احتجازه على نطاق واسع وبطريقة منهجية، وهو ما يشكل جريمة ضد الإنسانية، وظهر ذلك في كثير من التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، وعلى الأخص في التقرير الخاص عن التعذيب داخل مراكز احتجاز النظام.
ومن خلال ممارسة التعذيب هذه، يهدف النظام إلى خلق حالة من الخوف بين المحتجزين وأسرهم، وأي شخص في المجتمع يعبّر عن أي معارضة، وذلك بهدف سحق إرادتهم وجعلهم مضرب المثل في سوء المصير لأي شخص يجرؤ على التشكيك في الحكومة، بأي شكل من الأشكال.
إن النظام مسؤول عن (98) في المئة من جميع الوفيات الموثقة في سورية منذ بداية الصراع بسبب التعذيب؛ ووفقًا لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان؛ يسيطر النظام سيطرة تامة على جميع مراكز الاحتجاز التابعة للدولة، ولذلك من غير المحتمل إلى حد كبير أن تحدث أي من حالات التعذيب، وما ينتج عنها من وفيات، من دون علم النظام ومؤسساته. وعلى الرغم من تقارير لجنة التحقيق المستقلة، وصور قيصر، فضلًا عن الآلاف من التقارير الإخبارية، لم يبدأ أي تحقيق حكومي حتى الآن. وإضافة إلى ذلك، أصدر النظام السوري قوانين تتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتشرعن التعذيب على المستوى المحلي.
على سبيل المثال:
المرسوم التشريعي رقم 14 المؤرخ 25 كانون الثاني/ يناير 1969.
المادة 74 من المرسوم التشريعي رقم 549 المؤرخ 25 أيار/مايو 1969.
المرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2008، المادة 1 (أ)، والمادة 1 (ب).
المرسوم رقم 55 لعام 2011 المتعلق بمكافحة الإرهاب، المادة 1.
وتبيّن هذه المراسيم أن النظام كان راضيًا عن ممارسة التعذيب الوحشية، بل إنه فرض قوة تشريعية إضافية، بذريعة “الأمن” لضمان الحماية الكاملة من أي ملاحقة محتملة له ولأفراد قوات الأمن التابعة له بموجب القانون المحلي، وهو ما ضاعف فعليًا هذه الجريمة.
هناك أطراف أخرى في الصراع في سورية، منها “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد، والجماعات الإسلامية المتطرفة، وجميع فصائل المعارضة المسلحة، طبقت استراتيجيات وممارسات مماثلة لتلك التي يتبعها النظام السوري، بدرجة أقل منه، ولم تكن تلك الممارسات منهجية، لكنها تستخدم أساليب التعذيب نفسها في مراكز احتجازها.
الغالبية العظمى من الوفيات نتيجة التعذيب ناجمة عن انتشار الأمراض بين المحتجزين، نتيجة للاكتظاظ وانعدام الرعاية الصحية والرعاية الطبية
يقترن الاحتجاز في مراكز الاعتقال التابعة للنظام بحرمان متعمد من الرعاية الصحية، يليه سوء التغذية. ولا تفي هذه الظروف بأبسط معايير النظافة والعناية والتهوية، حيث تُحشر أعداد كبيرة من المحتجزين في زنزانات صغيرة وقذرة، لا تناسب هذه الأعداد الكبيرة والمتزايدة. يُحتَجز في كل زنزانة ذات الأبعاد الوسطية (6 × 4) م2، نحو 50 معتقلًا، أي أن حصة كل معتقل ليست أكثر من (70) سم2، يقف فيها ويجلس وينام أيضًا. وعادة ما يتناوب المعتقلون بالجلوس أو النوم، عندما تتجاوز أعدادهم سعة الزنزانة. وهذه الممارسات تكتيك يستخدمه النظام السوري عمدًا بقصد إلحاق مزيد من التعذيب بالمعتقلين، وخلق بيئة سيئة مليئة بالأمراض، وهو يحجب الرعاية الطبية عمدًا ويهمل العلاج. ويتسبب ذلك في مزيد من المعاناة الجسدية والنفسية والصدمات والمعاناة للمعتقلين، وهي عوامل تؤدي إلى وفاتهم.
وثق تقرير سابق أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان 72 طريقة للتعذيب البدني والنفسي والجنسي، باعتبارها أبرز الأشكال التي استخدمها النظام السوري في مراكز احتجازه ومشافيه العسكرية؛ ولكن الحرمان المتعمد من الرعاية الصحية وإهمال صحة المحتجزين يظلّ السبب الرئيس للوفاة بين المحتجزين. وإضافة إلى القسوة والوحشية التي يتعرض لها المعتقل، فإن هذه الطريقة صادمة أيضًا لزملائه المحتجزين الذين يضطرون إلى مشاهدة رفيق زنزانتهم يعاني أسباب الموت، وهم لا يستطيعون تقديم أي شيء لإنقاذ حياته.
استخدام النظام السوري للتعذيب كوسيلة لانتزاع اعترافات مطلوبة لإدانة المحتجزين
يتعرض عدد كبير من المحتجزين للتعذيب، بغية الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها. وبعد ذلك، تسلم قوات الأمن هذه “الاعترافات” المنتزعة بالإكراه إلى النيابة العامة، التي تستخدمها كأساس للتهم الموجهة ضد المعتقلين. وهذا يؤكد سيطرة النظام وسيطرته على النظام القضائي وإساءة استعماله. ولن يجرؤ أي مدع عام على رفض أو تدقيق الملفات التي تسلمها قوات الأمن. وتحال هذه القضايا دائمًا إلى محاكم خاصة أنشأها النظام للقضاء على معارضته السياسية، وهي محكمة مكافحة الإرهاب، والمحكمة العسكرية الميدانية. منذ عام 2012، لم تكن هناك أي إحالة إلى المحاكم العادية.
النظام السوري لا يبلغ عائلات المحتجزين “بمصير أحبائهم”، حتى بعد الموت، ولا يسلّم جثثهم
ولا يُعلِم النظام أبدًا عائلات المحتجزين عندما يموت أحباؤهم نتيجة التعذيب؛ وهذا أسلوب مقصود، يزيد من الإهانة ومن رضّة الأسر النفسية، والمجتمع الأوسع نطاقًا وإذلاله ومعاناته. ويستفيد النظام أيضًا من الناحية المالية من خلال شبكات الابتزاز التي أنشِئت بالتنسيق مع قوات الأمن التي تُجبر أسر المعتقلين على دفع مبالغ باهظة في كثير من الأحيان، للحصول على معلومات عن أحبائهم. ومن الواضح أن هذه المعلومات غير دقيقة عمومًا.
في أوائل عام 2018، أعلن النظام السوري خبر مقتل مئات من الأشخاص المختفين قسرًا، من خلال السجل المدني. وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالفعل ما لا يقل عن 836 حالة أُعلن نبأ وفاتها في هذا الوقت، من بينهم تسعة أطفال وامرأتان. ولم تسلم جثث الذين أعلن النظام مقتلهم إلى عائلاتهم، وكان من الواضح من السجلات أن معظم هؤلاء المعتقلين قد لقوا حتفهم قبل أعوام. وسُجِّلت كل هذه الحالات على أنها وفياتٌ بسبب “نوبات قلبية”، على الرغم من أن عائلات المحتجزين أكدت أن أحباءهم كانوا في حالة صحية جيدة عند اعتقالهم، وهو ما يشير إلى أن وفاتهم كانت بسبب التعذيب. لم يفتح النظام تحقيقًا واحدًا في القضايا المذكورة أعلاه.
ينتظر عشرات الآلاف الذين لا يزالون محتجزين عند النظام السوري مصيرًا مماثلًا لمصير الضحايا التي ظهرت صورها بين صور قيصر
صُدِم العالم أجمع من رؤية صور المعتقلين السوريين التي سرّبها مصور سابق كان مسؤولًا عن التقاط صور للمحتجزين بعد وفاتهم في معتقلات النظام. أظهرت هذه الصور القبح والوحشية والشرّ المطلق لأساليب التعذيب التي يستخدمها النظام السوري.
تشير قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن ما لا يقل عن (131) ألف معتقلًا ما زالوا رهن الاعتقال أو الإخفاء القسري، ولا يوجد سبب واحد للاعتقاد بأن الحكومة أوقفت آلية التعذيب هذه. إن القانون الدولي واضح في تحميل القادة وغيرهم من كبار المسؤولين المسؤولية الجنائية (القانون الإنساني الدولي العرفي، المادة 152) عن جرائم الحرب التي يرتكبها مرؤوسوهم (القانون الإنساني الدولي العرفي، المادة 153). ووسع ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نطاق هذه المسؤولية، ليشمل الرؤساء المدنيين والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في أوقات الحرب وفي أوقات السلام (ميثاق روما الأساسي، المادة 28).
إن التعذيب في سورية، وخاصة على أيدي النظام السوري، واسع النطاق وهمجي على عكس أي مكان آخر في العالم الحديث. وبوسع المرء أن يزعم أن مبادرة هولندا في أيلول/ سبتمبر الماضي، لمحاسبة مرتكبي جريمة التعذيب أمام محكمة العدل الدولية وفقًا لاتفاقية مناهضة التعذيب، تشكل خطوة أولى. كما يمكن اعتبار خطوة كندا، بناء على هذه الدعوى، فكرة أخرى في الاتجاه الصحيح، من أجل مساءلة النظام وفضحه أمام محكمة الأمم المتحدة.
ومع أن هذه إحدى أدوات المساءلة، فمن غير المرجح أن يتوقف النظام السوري عن تعذيب المحتجزين، لأن جميع فروعه متورطة في هذه الجريمة، وسيواصلون ممارستها إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سياسية. وبالنسبة إلى النظام، فإن هؤلاء المحتجزين رهائن وورقة بين يديه للمفاوضات، ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يعجّل بالانتقال السياسي لمنع موت مزيد من السوريين بسبب التعذيب.
اسم المقالة الأصلي Unlimited Brutality
الكاتب * فضل عبد الغني، Fadel Abdul Ghany
مكان النشر وتاريخه Volkerrechtsblog، 26/7/2021
رابط المقالة https://bit.ly/3x8mwdL
عدد الكلمات 1320
ترجمة وحدة الترجمة/ أحمد عيشة
مركز حرمون