نقد ومقالات

“أدب سوريا العقد الثاني” أدب يحاول الخروج من حتمية توريطه مع أحد الأطراف/ لمى الحسنية

في مقال سباق بعنوان “اغتيال الحرب … بالأدب”، تم استعراض أعمال أدب الحرب عبر التاريخ، بدءاً من الإلياذة، أول ملحمة شعرية في التاريخ تُمجّد حرب طروادة، حتى القرن العشرين وأدب الحربين العالميتين، والعديد من العناوين ذائعة الصيت في مجال أدب الحرب مثل: “عطيل”، “الحرب والسلام”، “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”، “المسلخ رقم خمسة”، “الشعر الجاهلي”، “أدب الفتوحات الإسلامية”، “شعر المتنبي”…

أدب المقتلة السورية

ما يسترعي الانتباه ليس كثافة الحرب في الأدب فحسب، حيث تكاد لا تخلو رواية أو قصة قصيرة أو قصيدة من موضوع حرب ضروس أو حرب تأجج عواطف، بل أيضاً امتدادها التاريخي والجغرافي، حيث وُثّقت الحروب بسرد أدبي عبر العصور وعلى كافة أرجاء المعمورة.

وسوريا ليست استثناء، بل تكاد تكون قاعدة لأدب الحرب المعاصر؛ ومن المرجّح أنه بعد عقود سيتم تأسيس لمدرسة أو تيار أو حقبة “أدب الحرب السوري”، كظاهرة فريدة دَمغتْ بداية الألفية الثالثة.

في محاولة لفهم ما يجري على الساحة الأدبية السورية في السنوات العشر الماضية، بحثت عما كَتَبه السوريون، ومَنْ كتبه وكيف كتبوه. فاكتشفتُ أن الأجناس الأدبية المستخدمة والمواضيع المتناولة وطريقة الطرح متعددة، بقدر التعدد الموجود على أرض الواقع السوري.

كما كانت التسميات متعددة، فهل هذا الأدب هو: “أدب الحرب السورية”، “أدب الحرب على سوريا” أو “ضد سوريا” أو “في سوريا”؟ أحرف جرٍّ جَرّتْ السوريين إلى ساحات المعارك. هل هو أدب الحرب أو الثورة أو الأزمة أو الصراع أو الحرب الأهلية، أدب المعارضين أو المواليين أو أدب الرماديين أو الذين لا لون لهم اطلاقاً، أدب السوريين بالداخل أو بالخارج، أدب اللجوء، أدب النزوح، أو أدب الازمات المعيشية، أدب الموت على الجبهات أو غرقاً، أدب السجون، أدب داعش أو الإرهاب؟

وبسبب هذا التفرّد في التعددية الذي يجعل من إمكانية الإحاطة بكل جوانب هذا الأدب بموضوعية مهمة شائكة، ارتأيت أولاً العودة إلى التسمية التأريخية في الإشارة إلى الأدب السوري في هذه المرحلة: “أدب سوريا العقد الثاني”، إشارة إلى العقد الثاني من الألفية الثالثة. وثانياً، العرض يحاول استعراض قدر من أدب سوريا “العقد الثاني”، حسب المواد المتاحة تحت اليد والتبويبات الرئيسية، والذي يحتاج إلى كتب أو دوريات متخصصة بالنقد الأدبي للحديث عنه بشمولية وموضوعية وليس مقالاً.

أزمة سوريا وأزمة الأدب

ليس فقط سوريا من تمر بـ “أزمة”، بل “أدب سوريا العقد الثاني” هو أدب متأزم يحاول الخروج من حتمية تورّطه أو توريطه مع أحد الأطراف.

ومن هنا تظهر ورطة النص السوري -حسب رأي الروائي السوري سومر شحادة، الحاصل على جائزة الطيب صالح للأدب 2016 وجائزة نجيب محفوظ 2021- أنه “تمّ التعاطي مع النص الروائي على إنه وثيقة يحتم علينا إشهارها في وجه التاريخ. فصار النص عبارة عن بيان سياسي أو مرافعة في محكمة المستقبل. وبهذا اختفى ما هو فني وخالد تحت ما هو سياسي وطارئ”.

كلنا يعلم أن الأدب غير حيادي، ومن ضمنه التاريخ الذي يكتبه المنتصرون، والذي يُعدّه المؤرخون أنفسهم نوعاً من الأدب. يُشاع القول إن لكل قصة وجه ثان، لكن للقصة السورية وجه ثالث ورابع وخامس وأوجه لانهائية. حيث يقول الصحفي عبدو وازن، في مقال في الأندبندنت العربية: “صدرت روايات تتناول مآلات الثورة التي استحالت حرباً متعددة الهويات والعقائد ومتعددة الجبهات، في الداخل أو على الحدود”.

فكان هناك أدب الخارج، حيث بدأ عند بعض الأدباء “التوثيق الأدبي” منذ بداية العقد الثاني للألفية الثالثة، وذلك قبل مرحلة الشتات، لكن على الغالب لم يتمّ نشر تلك الأعمال إلا فيما بعد الخروج من سوريا، أو تم نشر أعمال لكتاب كانوا بالأصل خارج سوريا.

وتمّ تلقّف تلك الأعمال الأدبية في دور نشر الإعلام السائد (Main stream media) الذي كان يلعب في وقتها دوراً رئيسياً، حيث تم تفعيله بالقوة القصوى إبان أحداث 2011. ويجدر القول إن الأعمال التي علّقت على الحرب السورية والتي صدرت باللغة الإنكليزية كانت كثيرة كمّاً، لكتاب كانوا على الأغلب غير معروفين على الساحة الأدبية السورية.

“إنها الحرب، تستنهض أجمل وأقبح ما فينا. إنها الحرب حين يغدو الوطن جُملاً تصطف لتحكي قصة الوجع المكابر”. بهذه العبارات يصدّر السوري عبد الله مكسور روايته “عائد إلى حلب” 2013.

يصل الراوي الريحانية على الحدود التركية، حيث يعاين المخيم الذي لا مقومات للحياة فيه، بل فيه انتظار الموت القادم “فالموت قادم قادم”، بحسب الراوي، هو أكثر كيلو متر مربع على الكرة الأرضية ينعم “بالحرية”، ففي الصورة الكبرى للاجئين ما عاد أحد يخشى أحداً، إلا أن يكون حاملاً للسلاح، فحامل السلاح قد يخيف الجميع.

ولأن المخيم واللاجئين خزان من القصص، فقد اختار الكاتب من هذا الخزان ما أسنده لأصحابه، متوجهاً نحو السرد التوثيقي المستتر باكتفائه بالحروف الأولى من اسم الشخصية التي تقصّ قصتها.

من الجدير بالقول إن دار “فضاءات للنشر والتوزيع” في الأردن قد أصدرت خمس روايات لمكسور، هي على التوالي: “شتات الروح” 2011، “الطريق إلى غوانتنامو” 2011، “أيام في بابا عمرو” 2012، “عائد إلى حلب” 2013، “طريق الآلام” 2015. أن تنشر خمس روايات في أربع سنين متوالية عند نفس الناشر يتطرّق للموضوع نفسه، يعد كماً كبيراً في زمن قصير، وفقاً لمتوسط الإنتاج الأدبي العام في العالم.

أن الراوي السوري يعيش حالة قلق مهول تعكس حالة قلق الشعب السوري العام؛ غزارة في الإنتاج وقلق في التعبير، حيث قدِّم مكسور في “أبناء البحر- يوميات عربية” ما يشبه السيرة الذاتية، وفيها اعتراف صريح بأن كل ما آمن به كان زيفاً.

يقول: “أشطرُ نفسي إلى قسمَين وأُخاطِب أنا الآخر، أُقدِّم لهُ اعتذارات السنوات الماضية مرَّةً واحدة، قد نعيشُ دهراً دون أن نلتفِتَ إلى ذلك الساكن في داخلنا، هوَ صورةٌ طبق الأصل عنَّا، و ربَّما هو النسخةُ المُزوَّرةُ عن بقايانا التي ضاعت بين زواريب المُدُن العربية، كيفَ لي أن أُقنِعهُ أنَّ كلَّ ما حدَثَ كان خارجاً عن إرادتي، كيفَ لي أن أُقنِعهُ أنَّ كلَّ ما آمَنَ بهِ كان كذباً، كلَّ مُسلَّماتِهِ كانت زوراً لم تُقارب الحقيقة يوماً، الحقيقةُ الوحيدةُ التي سيجُدُها أنَّني و هوَ -دون آخرين- نجلسُ فوقَ بعضِنا على كرسيٍّ واحد في مطارٍ يعجُّ بالراحلين والقادمين و العابرين”.

تقنيات التبني

استخدام تقنية سردية صيغة المتكلم عند معظم كُتّاب أدب العقد الثاني السوري، يدعو إلى التوقف والملاحظة، حتى لو أتت الصيغة على لسان شخصيات تلك الأعمال الأدبية؛ فهي إما صرخات الكاتب المستغيثة للانفلات من عوالم حروبه الداخلية التي تحاكي آلام سوريين مثله في الداخل والخارج والشتات.

كل الكُتّاب وجدوا جمهوراً، لكن لا لفيف للشعب السوري سوى الفاجعة، فهي العين الساهرة على راحة الحرب وتدليليها. تبوّأ الإعلام والأدب والسياسيون والمنظمات الإنسانية التحدث باسم صرخات السوريين المكتومة، الصوت السوري مكتوم القيد، والكل يريد تبني ذلك اللقيط. فيما يخرج حيناً صوت الكاتب الواعظ بصيغة المخاطب، وحيناً بصيغة الغائب المستتر خلف جبهات الصفحات السوداء؛ الكل في هذه الحرب اللعينة صعد على المنابر وتبوّأ منصب المتحدث الرسمي عن الشعب السوري، فيما السوريون غائبون ومغيبون تماماً، كما حال الانفصام بين خطيب صلاة الجمعة و”جموع المصلين”.

فيما يستخدم الشاعر والروائي السوري باسم سليمان السرد اليقيني، من حتمية معاودة الحرب فيقول “الحدّ أقول لكِ لا الشبهة”. فيما يقول الحديث النبوي “ادرؤوا الحدود بالشبهات”.

“ستعود الحرب ولن تتوقّف حتى يدرك الفنان/ حارس المسرح، أنّ الموت هو والد الفن، ولولا محاولة الإنسان مواراة سوءة الموت، لما وجد الفن، فأول نصب فنّي في الوجود كان على حفرة دفن فيها الجسد الميت المتعفّن ذي الرائحة الشنيعة، وأمّا الزبّال، فهو توأم الفنّان الذي يذكره دوماً بأن الفتحة التي تقابل الفم هي الشرج، وأن اليد التي ترسم هي التي تقتل أيضاً، فالزبّال، هو سيد الثنائيات كي يعيد المثال إلى الواقع”.

يقينية عودة الحرب ومفهوم الثنائية عند سليمان لا يمكن إقصاؤهما عن “جريمة في مسرح القباني”. قد يدرأ سليمان المناوشات الفكرية بين متناقضات الحياة بالآداب، لكن كيف ندرأ الحروب؟ هل يمكن أن ندرأ الحروب بالآداب أم أنها مجرد إرهاصات ما بعد الحرب؟ كيف سنقيم حدّ كتابة أدب الحرب في بلدٍ لا شبهة في وجود حرب مستعرة فيه، تأكل صفحات أيام السوريين بنهم يفوق نهم دودة الكتب؟                                                                   

ولم يخل بعض أدب الحرب السوري من “أمراض” الحرب نفسها أو من آثار الجروح التي أحدثتها في الجسد السوري الممزق، ومنها الطائفية والمذهبية، وحملت روايات نزعة مذهبية مفضوحة عبّرت عن حقد دفين وضغينة كان على الحرب أن تفجرهما.

أما بالنسبة للكاتبة أمل أبو سعد، فإن النساء السوريات مازلن يتغنّين بالحب، “نحن النساء السوريات نشبه دمشق، تبرّر بقاءها لحبّ يستقيم به كاهلها مضغ آخر لقيمات من شعرها الأشيب، رغم خذلانه لها فهو كهذه الحرب اللعينة، يرتع في جنبات يومها، أنا دمشق: لا شيء يسحرني إلا ذاتي العاشقة، التي كلما أعوزها الحب استقته، من رائحة ياسمينها”، ويبقين على الوعد حتى في أوقات الحرب؛ “لا وقت إلا الحبّ” عن دار “بعل” رواية تقدّم مرحلة الحرب وما خلفته من فساد مؤسسات وأشخاص، ومجتمع، بحث عن هوية، مقاومة لآخر رمق، محاولة الوقوف مجدداً رغم الخراب.

ولا يمكن الربط بين هذه الرواية والفيلم المصري الذي يحمل نفس العنوان للمخرج صلاح أبو سيف والذي عُرض عام 1963، إلا من حيث شراسة المرأة في الدفاع عن حبها في أوقات الحرب كما في أوقات السلم. حيث يتعرف (حمزة المهندس) العضو المتطوع بالحرس القومي على مدرسة تدعى (فوزية)، وبعد اندلاع حريق القاهرة، وتساعده الأخيرة بكل ما تملك لمنع الإنجليز القبض عليه، كما تحاول تشكيل خلية خاصة بها من أجل ضرب القوات الإنجليزية في منطقة (القنال). كانت فوزية تدافع عن حبها ضد الاحتلال، أما بطلة أمل أبو سعد فضدّ من كانت تقاتل؟

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى