إيتيل عدنان المتعددة بين القصيدة واللوحة/ بشير البكر
إيتيل عدنان شاعرة ورسامة ولدت في بيروت العام 1925، تحت الانتداب الفرنسي، من أب سوري كان ضابطا في الجيش العثماني، وأم يونانية من أزمير. درست وعاشت في فرنسا والولايات المتحدة، وتقيم حاليا في باريس. وعبر مسارها الزمني المديد بقيت مشدودة إلى هذه العوالم بقوة خيط الولادة في أكثر من مكان، وخصوصا أرض الأب والأم. هي ابنة شمس الشرق والزرقة المتوسطية التي ولد منها أول ديوان شعري لها (كتاب البحر)، قبل أن تبلغ العشرين من عمرها، وتحلق بعيدا عن مسقط الرأس الذي بدأت منه رحلة فقه الكون، عبر دراسة الفلسفة في جامعة السوربون، والعمل بتدريسها في سان فرانسيسكو.
تكتب ايتيل دائما من نقطة الصقر، بلا حضور لأي ذاكرة في نصوصها، سواء كانت بعيدة أو قريبة، وهي تعترف بهذه الحقيقة وتعيها وتتحمل ضريبتها خلال النص، ولذلك يبدو نصها أشبه بمادة خام. ولا يعني ذلك أنه أولي وبدائي، بل على العكس هو مشغول بعناية، إلا أنه بكر ومفعم بدهشة الطفولة. وحين نقرأ نصوصها الأولى وقصائدها اللاحقة التي تتعامل فيها مع البحر، نحس أننا نذهب في رحلة بحرية يهيمن فيها الأزرق على كل المساحات. ويحيلنا هذا التفكير الواعي بالكتابة إلى الشعر والفلسفة التي بقي لها تأثيرها على هذه الكاتبة والفنانة، ولذا ظل شعرها يلامس الحكمة على حد قول الشيخ محي الدين ابن عربي “العالم كله حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي الناس عليها”. شعر ممتلئ بالواقع له حقيقة خاصة تذهب بعيدا، كما قال بودلير”الشعر تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى ضمن عالم مغاير وأخروي”، ويظهر لدى إيتيل أن المشترك بين الشعر والفلسفة هو البحث السري عن المجهول ضمن إنتاج شعرية تختبر المعرفة، فالتشكيك عند المعري مثلاـ لا يخضع لمبدأ البحث عن اليقين، بل ممارسة حرية صناعة الصور الشعرية، التي تصل أقصى حدود تجريبها في تدمير المعرفة العامة.
الشعر بالنسبة لإ يتيل هو العتبة الأولى في الكون، والذي يمنح الأسماء للأشياء. تحفيز دائم على استكشاف رؤيا الكائن في العالم، الباحث عن تحقيق كينونته، وإثبات قدرتها على استشراف الوجود، وآفاق المستقبل، والحدس بالنداءات الخفية التي تحتفظ برؤية تدرك الوجود، باعتباره صيرورة تتولد من سلسلة من التأويلات اللغوية حين تتعدد، ولا تقف عند الاختلافات والفوارق المولدة للمعاني. وكما يرى نيتشه، فما يهم هو الكيفية التي تسمى بها الأشياء، لا معرفة ماهيتها، ولهذا لا بد من ربط معاني الواقع بالمنظورات والتطلعات التي تعطيها قيمة، على اعتبار هذه التطلعات إرادات قوة متفاضلة، لذلك لا يسأل نيتشه عن مدلول قيمة لفظ، إنه يسأل عمن يصنع جمال الأشياء وحقيقتها.
رحلة إيتيل عدنان الطوية بين الكتابة والرسم هي المسار الذي يشكل عالمها من الألف إلى الياء. وهو ما يستحق القاء الضوء عليه ودراسته. ويجدر في البداية التوقف عند مسألة أساسية تتعلق بالصلة بين القصيدة واللوحة لديها. وفي حوارات معها لا تبدو مشغولة جدا بتقديم تفسير أو شرح للتعبير عن نفسها على نحو عابر للتخصصات، بل هي ترى ان النقطة لديها ليست مدروسة او واعية، طالما أنها لا تضع حدودا بين الكتابة والرسم، ولا تخضع نفسها لأي حالة طقوسية، بل تترك الأمر يسير على نحو عفوي، ولا يعني ذلك ان العملية بلا قانون، إلا أنها تجري مثلما ينتقل الطفل في التكون من حالة إلى حالة، وفي التعبير عن طريق الرسم والحرف في آن معا. وتختلف إيتيل عن الكتاب الذين يمارسون الرسم كحالة فانتازية، او العكس، هي تتعامل مع الكتابة والرسم بنفس الدرجة من الإخلاص ولا تفرق بينهما، وهذا الأمر ليس جديدا منذ عصر النهضة، مرورا بالرومانسيين وحتى السورياليين، لأن جميع أجناس الإبداع تنطلق من منبع واحد، وظلت اللوحة تُعتبر لفترة طويلة “شعرًا صامتًا”. وهناك حالات وأمثلة كثيرة عبر تاريخ الفن والكتابة، مايكل أنجلو كان في نفس الوقت رسامًا ونحاتًا وشاعرًا، جورج ساند، غارسيا لوركا، وغونتر غراس ترك أعملا نحتية، مثلما هو الأمر مع أنطوان أرتو الذي أبدع رسومات على قدر من الجمال الذي يعادل قوة البرق في نصوصه. وهناك من يتعامل مع الكتابة كمنقذ من الألوان مثل الرسام الروماني ميرون كيروبول “الكتابة أنقذتني من اللعب كثيرًا بالألوان”، بينما يعتبر بعض الكتاب في البداية كانت الكلمة. وترى الكاتبة الروائية الفرنسية مارغريت دوراس “لا توجد مواجهة حقيقية مع الذات إلا في الكتابة.. وهي التي نطوي على المخاطرة القصوى”.
في اللوحة لدى إيتيل هناك ما هو غامض أكثر مما هو عليه في الكتابة، علاقة خاصة مع الفضاء، وحاجة إلى الاقتراب من كل شيء. ثمة مخاطرة كبيرة من أجل الاختلاف ورغبة شديدة في دخول زمن آخر، الانتقال من عالم لآخر، على حد قول الرسام أوجين ديلاكروا في مذكراته “الشاعر ينقذ نفسه بتتابع الصور، والرسام بتزامنها”. وفي الحالين تثير إيتيل الكثير من الأسئلة أكثر مما تقدمه من الإجابات. وأميل شخصيا إلى اعتبار إيتيل كاتبة، مع ملاحظة التأثير المتبادل لديها بين الكتابة والرسم، كما هو الحال لدى أغلب الفنانين المزدوجين، المعترف بهم كرسامين وكتاب، مثل الشاعر البلجيكي هنري ميشو. وبخلاف رسومات الكتاب تبدو كتابات الرسامين، ويظهر الفارق في الصنعة أكثر حين يتم الانتقال من الرسم إلى الكتابة، في حين تسمح اللغة التشكيلية بتمويه العيوب وتغطي عليها في أغلب الأحيان. ورغم أن إيتيل بارعة ومخلصة في المجالين، إلا أن اشتغالها بالكتابة هو المتداول والمعروف، ومحط اهتمام أغلبية وسائل الإعلام. ويبدو أن التطابق بين العمليتين، التصويرية والأدبية، يولد لدى إيتيل لغة جديدة ويجسد روحا شاعرية جديدة تسمح بمرور اللوحة عبر المحبرة لتصبح قصيدة، ونقل الشعر البصري إلى اللوحات في أخلص تعبير عن التعبيرية الجديدة. ويبرز خلف ذلك تطور الكتابة والرسم على مر تجربة إيتيل في مضاهاة مستمرة. حوار مثمر تكشف عنه المثابرة التي لم يحد منها التقدم في العمر، بل لاتزال إيتيل تطور نفسها بأساليب جديدة، وعلى نحو يعكس معرفة مزدوجة للرسم والكتابة، ويسلط الضوء على التقاطعات التاريخية والموضوعية المتعددة بين هذين الفنين، وكذلك الأسس الجمالية والفلسفية لهذا التبادل. وفي أعمالها نعيد اكتشاف إلى أي مدى كان الرسم يعتمد على النصوص لقرون كمصدر للإلهام وكذلك في تنظيره. وبشكل متماثل، يظهر انبهار الكتاب بالجمالية الفورية للوحة، والتي غالبًا ما يسعون للعثور عليها من خلال العمل الكتابي، وخصوصا في الشعر.
التعدد في شخصية إيتيل يذهب في أكثر من طريق. هي كاتبة ورسامة. سورية، يونانية، عربية، أميركية، فرنسية، وكونية..إلخ. متعددة الهويات والثقافات والبلدان، وبقدر ما يشكل كل هذا تنوعا وثراء وسعة أفق، ويظهر في أعمالها الفنية ونصوصها، فإنه يحضر على شكل معاناة من إزدواجية الاتنماء التي فرضت عليها خيارات الجغرافية، ولم تترك لها حرية التشكل في بيئة عادية، وينعكس ذلك على سبيل المثال بعلاقتها باللغة العربية التي لم تتعلمها في المدرسة، بسبب إلزامية الفرنسية أثناء الإنتداب في لبنان، وظل ذلك أحد الجراح العميقة التي لم تندمل، فبقيت غريبة تعيش في لغات أخرى، الفرنسية والانكليزية التي اختارتها للكتابة. وحين تثير هذه النقطة فإنها ترى فيها أحد أشكال الإعاقة الإنسانية والثقافية، التي تتجاوز حالتها إلى العرب عموما الذين تعتبر أنهم “اضاعوا شخصيتهم”، وتذهب أبعد حين تحكم على علاقتهم بموروثهم الغني، وكيفية تعاملهم معه وانقطاعهم واغترابهم عن منجز كبير، بقي حيا بفضل تعددية الأصوات والأصول والمرجعيات التي تحيا وتتعايش داخله.
المدن