شعر

الجمالُ يمشي على نَصْلِ شفرة… قصائد لبوب ديلان

زياد حسون

مجاز الجِوار، مؤانسة الغرباء في البستان المجاور

بوب ديلان هو واحدٌ من الأعظم في تاريخ الموسيقا الأمريكية. لطالما أعاد المغنّي الشعبي ذو الصوت الأجشّ ابتكار نفسه مرّاتٍ عديدة على مدار حياته المهنية الممتدة لعقود. تتويجاً لمسيرته المذهلة أصلاً، أصبح ديلان أول موسيقي وكاتب أغان يحصل على جائزة نوبل في الأدب. سارة دانيوس، السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية، عبّرت عن الأمر بطريقة مثالية حين كانت تُسلَّم الجائزة إلى ديلان، إذ قالت: “بوب ديلان يكتب شعراً لتسمعه الأذن. لكن من الجيّد تماماً أن تُقرأ أعماله على أنّها شعر”.

نقدّم هنا أربعاً من أكثر أعماله الكلاسيكية شعريةً، والتي تعتبر كلٌّ منها مثالاً ممتازاً على قدرته المدهشة على التلاعب بالكلمات.

ملاذٌ من العاصفة

كان ذلك في حياةٍ أخرى، حياة من كدحٍ ودم

حين كان السواد فضيلة، والطريق معبّدةً بالوحل

دخلتُ إليها من قفر، كائنٌ عديم الشكل

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

وإنْ عبرت هذا الدرب مجدّداً، لكَ أن تطمئن

وتأخذ كلمتي عهداً، سأبذل دائماً كل ما في وسعي من أجلها

في عالمٍ من موتٍ يشخص بأعين فولاذية، ورجالٍ يتوقون للشعور بالدفء

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

ما مِن كلمةٍ قيلت فيما بيننا، وكان ذلك يعني مخاطرَ أقل

كلُّ شيءٍ وصولاً إلى تلك النقطة كان قد تُرِك مفتوحاً للاحتمالات

جرّب أن تتخيّل مكاناً دائم الدفء والأمان

 قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

كنت خائر القوى، غارقاً تحت وابلٍ من مطر

متسمِّماً في الأدغال، متشظياً على الدروب

مُصطاداً مثل تمساح، مسحوقاً كالذرة المطحونة

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

فجأةً استدرتُ، وكانت تقف هناك

أساور الفضة في رسغيها، والأزهار تزيّن شعرها

مشتْ إليَّ بخفّة، وأخذت تاج أشواكي

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

الآن هناك جدارٌ بيننا، شيءٌ ما قد فُقد

اعتبرتُ الكثير مسلَّماً به، ولم ألتقط الإشارات

فقط لكوني أفكّر أنَّ كلَّ شيءٍ بدأ ذات صباحٍ منسيٍّ منذ الأزل

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

حسناً، إنَّ المفوّض يمشي فوق مسامير فولاذية، والواعظ يتسلّق الجبال

لكن في الحقيقة، لا شيء يهمُّ، فقط الموت وحيداً يؤخذ في الحسبان

وحانوتيّ أعور ينفخ في بوقٍ مخنوق

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

سمعتُ أطفالاً حديثي الولادة ينتحبون مثل حمامةٍ في حِداد

وشيوخاً مكسورة أسنانهم تقطَّعت بهم السبل بدون الحبّ

هل أفهم سؤالك، أهي بائسة وميؤوس منها يا رجل؟

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

في قريةٍ صغيرة أعلى التلّ، تراهنوا على ملابسي

ساومتُ على الخلاص فأعطوني جرعةً قاتلة

عرضتُ عليهم براءتي فقوبلت بالسخرية

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

حسناً، إنّي أعيش في بلدٍ غريب لكن لا مفرَّ لي من عبور الحدّ

الجمال يمشي على نصل شفرة، يوماً ما سأجعله ملكاً لي

لو أنَّ في وسعي فقط أن أُرجع عقارب الساعة إلى اللحظة التي وُلدتْ فيها، هي والله

قالت: “تعال، ادخلْ. سأمنحكَ ملاذاً من العاصفة”.

مثل حجرٍ متدحرج

كنتِ ذاتَ يومٍ تلبسين ثياباً جيّدة

ورميتِ في زهوتكِ سنتاً للمشرّدين، أليس كذلك؟

كان الناس يدعونكِ قائلين، “احذري أيتها الدمية، إنَّ السقوط مُقدَّرٌ لك”

اعتقدتِ أنّهم كانوا جميعاً يمازحونك

واعتدتِ الضحك على كلِّ المتسكّعين

الآن أنتِ لا تتحدّثين بنبرة عالية جدّاً

الآن أنتِ لا تبدين فخورةً جدّاً

حيال اضطرارك للتملّق من أجل وجبتك التالية.

كيف هو الشعور

كيف هو الشعور

أن تكوني بلا بيت

مثل شخصٍ مجهولٍ تماماً

مثل حجرٍ متدحرج؟

    المفوّض يمشي فوق مسامير فولاذية، والواعظ يتسلّق الجبال، لكن في الحقيقة، لا شيء يهمُّ، فقط الموت وحيداً يؤخذ في الحسبان… مجاز الجوار في رصيف22

لقد قصدتِ أفضل المدارس، أيّتها الآنسة “وحيدة”

لكن كما تعلمين، فقد اعتدتِ فيها على السكْر ولا شيءَ غيره

ولم يعلّمكِ أحدٌ من قبل كيف لكِ أن تعيشي في الشارع

والآن تكتشفين أنّه سيتعيّن عليك اعتياد ذلك

قلتِ أنّك لن تساومي أبداً، لن تصلي إلى تسويةٍ

مع المتشرّد الغامض، لكنّك الآن تدركين أنّه لا يبيع أيّة ذرائع

وبينما أنتِ تحدّقين في خواء عينيه

اسأليه: هل ترغب في عقد صفقة؟

كيف هو الشعور

كيف هو الشعور

أن تكوني لوحدك بالكامل

حيث لا اتجاه يأخذك إلى البيت

مثل شخص مجهولٍ تماماً

مثل حجرٍ متدحرج؟

لم تلتفتي يوماً لتري العبوس على وجوه المشعوذين والمهرّجين

عندما كانوا ينزلون جميعاً، ويؤدّون الخدع من أجلك

لم تفهمي أبداً أنَّ هذا ليسَ حسناً

عليكِ ألّا تدعي الآخرين ينفّذون ركلاتك نيابةً عنك

لقد اعتدتِ ركوب حصانك المبرقع رفقة صديقكِ الدبلوماسي

الذي كان يحمل قطّاً سيامياً على كتفه

أليس صعباً أن تكتشفي أنّه

لم يكن حقّاً ما كان عليه

بعد أن أخذ منكِ كلَّ شيءٍ استطاع سرقته.

كيف هو الشعور

كيف هو الشعور

أن تكوني لوحدكِ بالكامل

حيث لا اتجاه يأخذكِ إلى البيت

مثل شخص مجهولٍ تماماً

مثل حجرٍ متدحرج؟

الأميرة في برجها العالي، وكل هؤلاء الناس حسني المظهر

يشربون الخمر، ويفكّرون أنّهم نجحوا

يتبادلون كل أنواع الهدايا والأشياء النفيسة

لكن الأجدر بكِ أن تنزعي خاتمك الماسيّ

الأجدر بكِ أن ترهنيه يا حبيبتي

لطالما كنتِ تتسلّين وتضحكين كثيراً

على نابليون صاحب الخرق البالية، وعلى اللغة التي كان يتحدّث بها

اذهبي إليه الآن، إنّه يناديكِ، لا يمكنكِ الرفض

حين لا يكون لديكِ شيء، فلا شيء لتخسريه

أنتِ غير مرئيةٍ الآن، ولا أسرار عندكِ كي تقومي بإخفائها.

كيف هو الشعور

كيف هو الشعور

أن تكوني لوحدكِ بالكامل

حيث لا اتجاه يأخذكِ إلى البيت

مثل شخص مجهولٍ تماماً

مثل حجرٍ متدحرج؟

سوفَ أُعتَق

يقولون إنَّ كلَّ شيءٍ قابلٌ للاستبدال

مع ذلك، ليس هناك مِن مسافة قريبة

لذلك أتذكّر كل وجهٍ

لكلِّ رجلٍ أوصلني إلى هنا

أرى نوريَ يشعّ

من الغرب وصولاً للشرق

في أيّ يوم الآن، في أيّ يومٍ الآن

أنا سوف أُعتَق.

يقولون إنَّ كلّ رجلٍ يحتاج إلى حماية

يقولون إنَّ كل رجلٍ لا بدَّ أن يقع

مع ذلك، أقسم أنّي أرى انعكاساً لصورتي

في مكانٍ ما فوق هذا الجدار

أرى نوريَ يشعّ

من الغرب وصولاً للشرق

في أيّ يوم الآن، في أيّ يومٍ الآن

أنا سوف أُعتَق.

    يقولون إن كل رجل يحتاج إلى حماية،يقولون إنَّ كل رجلٍ لا بدَّ أن يقع، مع ذلك، أقسم أنّي أرى انعكاساً لصورتي، في مكانٍ ما فوق هذا الجدار… مجاز الجوار في رصيف22

يقف بالقرب منّي في هذا الحشد المتوحّد

الرجل الذي يقسم أنّه ليس المُلام

أسمعه يصرخ طوال اليوم بأعلى صوته

يبكي مشتكياً كيف كان مقولباً حدّ المَسخ

أرى نوريَ يشعّ

من الغرب وصولاً للشرق

في أيّ يوم الآن، في أيّ يومٍ الآن

أنا سوف أُعتَق.

عالقٌ في حبٍّ حزين

ذات صباحٍ باكر، كانت الشمس مشرقة

وكنتُ مستلقياً في السرير

أتساءل ما إذا كانت قد تغيّرتْ أبداً

ما إذا كان شعرها لا يزال أحمر

قال أهلها إنَّ حياتنا معاًستكون بالتأكيد قاسية.

لم يعجبهم فستان أمّي المحلّي أبداً

وحساب أبي البنكي لم يكن كبيراً بما يكفي

وكنتُ أقف على جانب الطريق

يتساقط المطر فوق حذائي

فيما أيمّم شطر الساحل الشرقي

الرب يعرف أنّني دفعتُ بعض الأثمان كي أتمكّن من المضيّ قدماً

عالقاً في حبٍّ حزين.

كانت متزوّجة. عندما التقينا أوّل مرة

كانت على وشك الطلاق

أظنُّ أنّي ساعدتها في الخروج من عنق الزجاجة

لكنّني أفرطتُ قليلاً في استخدام القوّة أثناء ذلك.

قدنا تلك السيارة إلى أبعد ما يمكننا الوصول

ثمَّ تخلّينا عنها في مكان ما في الغرب.

انفصلنا في ليلةٍ مظلمة حزينة

متّفقَين أنَّ هذا هو الأفضل

استدارت لتنظر إليَّ

بينما كنتُ أمشي مبتعداً

سمعتُها تهمس فوق كتفي

“يوماً ما سنلتقي مجدّداً في الطريق”.

حصلتُ على وظيفة في منطقة الغابات الشمالية العظيمة

عملتُ لفترةٍ كطبّاخ

لكنّني لم أحبَّ يوماً ذاك العمل كثيراً

وذات يوم فاضتْ بي الكأس

فخرجتُ قاصداً نيو أورلينز

حيث حدثَ أنّه تمّ توظيفي

وعملتُ لبعض الوقت على متن قارب صيد

على أطراف ديلاكروا

لكنّني كنتُ وحيداً تماماً طوال تلك الفترة

الماضي كان قريباً ورائي

لقد رأيتُ الكثير من النساء

لكنّها لم تغادر أفكاري مطلقاً، وللتوّ شعرتُ أنّي كبرت.

    لقد رأيتُ الكثير من النساء، لكنّها لم تغادر أفكاري مطلقاً، وللتوّ شعرتُ أنّي كبرت… مجاز الجوار في رصيف22

كانت تعمل في حانة تعرٍّ بائسة

وتوقّفتُ هناك من أجل زجاجة بيرة

بقيتُ أنظر إلى جانب وجهها

كان صافياً جدّاً تحت بقعة الضوء

ومن ثمَّ تضاءل الحشد

أنا على وشك فعل ذات الشيء

كانت تقف هناك وراء كرسيّي

قالت لي: “ألا أعرف اسمك؟”

تمتمتُ بشيءٍ ما من تحت أنفاسي

تفحّصتْ خطوط وجهي بإمعان

عليَّ الاعتراف أنّي شعرتُ بالقليل من عدم الارتياح

حين انحنت لتعقد رباط حذائي.

وضعتْ شيئاً ما على الموقد

عرضتْ عليّ غليوناً

“اعتقدتُ أنّكَ لن تلقِ التحيّة أبداً”، قالت لي

“تبدو من النوع قليل الكلام”

ثمَّ فتحتْ كتاب قصائد

ومرّرتْه إليّ

كانت قصائد لشاعر إيطالي من القرن الثالث عشر

وكان لكلِّ كلمةٍ منها وقعُ الحقيقة

ووهجٌ مثل فحمٍ مشتعل انسكب من كلِّ صفحة

كأنّها كُتبت داخل روحي، منّي إليكِ.

عشتُ معهما في شارع مونتاج

في قبوٍ أسفل الدرج

ليلاً، كانت هناك موسيقا في المقاهي

وفي الهواء ثورة

ثمَّ بدأَ في التعامل مع العبيد

وشيءٌ ما تموَّت بداخله

كان عليها أن تبيع كلَّ ما تملك

وتحوّل داخلها إلى لوح جليد

ولمّا تهدّم الحضيض أخيراً

كان الشيء الوحيد الذي أجيد فعله

هو الإصرار العنيد على الاستمرار، مثل فرخ طائرٍ تمكّن من الطيران.

وهكذا، أنا عائد الآن مجدّداً

يجب أن أصل إليها بطريقةٍ ما

كل الذين عرفتهم

هم مجرّد وهمٍ بالنسبة لي الآن

بعضهم علماء رياضيات

بعضهنّ زوجات نجارّين

لا أعرف كيف بدأ كلّ شيء

لا أعرف ماذا يفعلون في حياتهم

لكنّي، ما زلتُ على الطريق

أقصد انعطافةً أخرى، مفصلاً آخر

لطالما حملنا ذات المشاعر لأحدنا الآخر

إنّما نظرنا للأمر من زاويتين مختلفتين فحسب.

عالقٌ في حبٍّ حزين.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى