المعارضة بوصفها حرفة/ رشيد الحاج صالح
عنوان هذا المقال مأخوذ من عنوان محاضرة مشهورة ألقاها ماكس فيبر عام 1919، في ميونخ، بعنوان “السياسة بوصفها حرفة“. وفي هذا المحاضرة، التي تحوّلت إلى كتاب بعد ذلك، يُركز فيبر على السياسة من حيث هي عمل احترافي يعيش الإنسان من أجلها، وليست مهنة يعتاش الإنسان منها. وبوصفها مهنة لها صفات نفسية واجتماعية، لن يكون السياسيّ من دونها سياسيًّا، بل مجرد “مقاول”، بحسب فيبر. وستكون هذه الفكرة منطلق مقالنا لفهم عيوب وأخطاء المعارضة السورية الرسمية، من ائتلاف وأحزاب معارضة وغيرها، بغية حمل تلك المعارضة على تجاوز جانبٍ من محنتها التي يعانيها السوريون هذه الأيام.
يطرح ماكس فيبر، في تلك المحاضرة، شرطين موضوعيين، وثلاث صفات نفسية واجتماعية، لا بدّ أن تتحقق في أي سياسيّ حتى يستطيع القيام بمهماته على أكمل وجه ممكن، ويتمكن من خدمة قضيته التي انتدب نفسه لها، بأفضل ما يستطيع. ومن دون هذين الشرطين، وتلك الصفات الثلاث، التي تشكل ماهيّة السياسيّ الفعّال، فإن هذا السياسيّ سرعان ما يتحول، بالضرورة، إلى عبء على قضيته، والمؤسسات التي تدافع عنها، وبلغة فيبر، كثيرًا ما يتحوّل إلى محامٍ يتكسّب من مصائب موكّله. ولا نبالغ إذا قلنا إن غالبية السوريين المعارضين لديهم شعور بأن عددًا كبيرًا من المعارضين الرسميين يشبهون ذلك المحامي.
شرطان للعمل في السياسة:
أول هذين الشرطين هو أن يكون السياسي “مستقلًا اقتصاديًا عن الموارد التي بإمكان السياسة أن توفرها له”. وهذا يعني من جملة ما يعنيه أن الشخص غير المستقل اقتصاديًا، ولا يستطيع أن يعيل نفسه من جيبه الخاص، هو -بكل بساطة- شخصٌ “غير حرّ”، عندما يعمل في المجال السياسيّ، وهناك احتمال كبير أنه سيتبع من يدفع له. ولذلك يُنتظر ممن يريد العمل في السياسة أن يؤمّن دخله الشخصي بنفسه.
وهنا يركز فيبر على ألا يحصل السياسي على مكاسب، من أي نوع كان، من وراء عمله في السياسة، لا مكاسب مادية، ولا حتى مكاسب معنوية من جاهٍ ومكانة وغيرها. ولذلك من الضروري، أيضًا، أن مكانة السياسيّ الاجتماعية، في عمله السياسيّ الجديد، يجب ألا تقلّ عن مكانته السابقة في المجتمع، وإلا فسيندرج هذا العمل في إطار التكسب المعنوي أو رفع ما يسمى بـ “الرأسمال الاجتماعي” للشخص.
حتى إن فيبر يسمّي من يعملون بالسياسة من غير المستقلين اقتصاديًّا “المنتفعين”، لأنهم مهيؤون أكثر من غيرهم للـ “البرطيل” و”الرشوة”، على حد تعبيره. بل إن “توزيع الوظائف” كثيرًا ما يكون هو القاعدة في العمل بين أوساط الذين يعلمون ويتكسبون من السياسة، بحيث لا يعود الأمر يختلف كثيرًا عن العمل في مجال “المقاولات”.
ويشدد فيبر على أن سوق الوظائف والمناصب هو البديل الجديد للغنائم التي كان يحصل عليها زعماء العصابات وقطاع الطرق. وهو يستخدم هذه اللهجة القاسية لقناعته التامة بأن كل من يعمل بالسياسة، وهو غير مستقل اقتصاديًا، سيتكسب عن طريق عمله السياسي لا محالة، أي أنه “مرتزق” بكل بساطة. حتى إن هناك دولًا كبرى، منها إسبانيا، بقيت عالقة في تواطؤ المناصب لدرجة أن ذلك التواطؤ رسم ملامح الحياة السياسية بأكملها.
ولعل سوق الوظائف هو ما يفسّر عدم كفاءة عدد كبير من ممثلي الائتلاف، مثلما يفسّر التناوب شبه المرتب له بين رؤساء الائتلاف، في الأعوام القليلة الماضية.
تذكر العضوة السابقة في الائتلاف سميرة المسالمة أن عددًا من زملائها في الائتلاف استمرّوا في عضويته بسبب “الراتب”، على الرغم من ملاحظاتهم وانتقاداتهم لأسلوب عمل الائتلاف والعيوب التي يعانيها. ويمكن أن نسير مع فيبر خطوة أخرى، لنقول إن السياسي غير المستقل يحوّل المؤسسة التي يعمل فيها إلى مؤسسة غير مستقلة. وهذا ما حصل مع الائتلاف الذي تحوّل إلى لعبة بيد الدول الداعمة له، علمًا أن أوّل هدف نذر الائتلاف نفسه له هو “الحفاظ على الاستقلالية والسيادة الوطنية”. يذكر أن هدر هذه الاستقلالية هو الذي دفع عددًا من أعضائه إلى الانسحاب منه، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الائتلاف بشكل كبير، وأدى أيضًا إلى اكتفائه بالدعم الخارجي وإدارة ظهره لمصالح السوريين وحقوقهم الحقيقية بشكل لافت للانتباه.
الشرط الثاني الذي لا يكون السياسيّ من دونه سياسيًا هو “التفرغ التام” للقضية التي يتبناها السياسيّ وينذر نفسه للدفاع عنها. وهذا يعني أن المطلوب من السياسي أن يكون مستقلًا اقتصاديًا، وألّا يعمل أي عمل آخر يستغرق وقته اليومي. أي يجب أن يكون من ميسوري الحال الذين لديهم دخل اقتصادي ثابت بشكل مسبق: “معمل، عقار، شركة، راتب تقاعد، أرض مزروعة..)، بحيث يستطيع التفرغ بشكل كامل لعمله السياسي (ثماني ساعات يوميًا). فرجال الأعمال والمقاولون وطلاب الدراسات العليا والباحثون والموظفون وكلّ من يعمل عملًا ما، عليهم إما أن يتركوا عملهم وإمّا ألا يدخلوا عالم السياسة.
وهذا أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة إلى فيبر، لأنه يتحدث عن حالات عدة لسياسيين أضرّوا بقضيتهم، لأنهم كانوا يمارسون السياسة في أوقات فراغهم أو في مواسم محددة، في فترة الانتخابات، مثلًا. إن المدقق في “موقع الائتلاف”، وهو الموقع الرسمي الذي ينشر نشاطات لجان الائتلاف ومديري مؤسساته وممثلي مكاتبه في دول العالم، يجد أن هناك بعض ممثليه لم يقم بأي نشاط سياسي منذ شهور عدة، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك. فبعضهم طلاب دراسات عليا وشبه متفرغ لدراسته، وهناك من تحدث نصف ساعة إلى “فرانس بريس”، بوصفه باحثًا في مركز، ولم يذكر، على الإطلاق، أنه ممثل الائتلاف في أهمّ دولة في العالم. من الأشياء المحزنة أن غالبية ممثلي الائتلاف سيتركون الائتلاف، لو طُلب منهم أن يختاروا بين أعمالهم الخاصة وبين العمل في الائتلاف.
ثلاث صفات للسياسي:
أما الصفات الثلاث “الحاسمة” التي يعدّها فيبر جوهرية لأي شخص يريد أن يعمل بالسياسة، فهي: “الشغف، الشعور بالمسؤولية، وبُعد النظر”.
يقصد فيبر بـ “الشغف” الانكباب على قضية حتى تصبح هاجسًا يسيطر على المرء، بحيث تأكل وتشرب معه كل يوم، بل كل ساعة. غير أن الشغف لا يصنع سياسيًا، إلا إذا اقترن بـ “الشعور بالمسؤولية” نحو قضية معينة. هذا الاقتران هو الذي يجعل من قضية ما أهم قضية في حياة شخص ما، وهو الذي يدفع المرء إلى تقديم كل ما يستطيع في سبيل خدمة القضية التي يشعر بالمسؤولية تجاهها. في الحقيقة، لا نكاد نعثر، لدى ممثلي المعارضة الرسمية، على أيّ نوع من الشغف بالقضية السورية شبيه بالشغف الذي وجدناه عند الممثلة السورية النبيلة ميّ سكاف، مثلما يصعب أن نعثر على شعور باللوعة لديهم شبيه بشعور الطفل السوري الذي قال: “سأخبر الله بكل شيء”، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى.
أما “بُعد النظر”، فيعده فيبر إحدى “الصفات الحاسمة” التي تجعل من السياسيّ سياسيًا، لأنها تساعد السياسيّ في أمر هو في غاية الأهمية بالنسبة إلى أي سياسيّ، ونقصد به إيجاد “المسافة” التي على المرء أن يباعد من خلالها بين عقله وأحاسيسه من جهة، وبين الوقائع والأحداث والناس من جهة ثانية. وفيبر يركز على هذه المسافة، لأن الشغف من دون بُعد النظر سيحوّل السياسيّ إلى سياسيّ “عقيم”، وشخص يدور بشكل عدمي داخل انفعالاته السياسية، على الرغم من حسن نياته.
غالبية المعارضين السوريين الذين ترقبوا انهيار سلطة الأسد، في السنة الأولى من الثورة، كانوا غير متمكنين من وضع مسافة تفصلهم عن تيار الأحداث. الخسارة الكبيرة أنهم بنوا خريطة التخطيط السياسيّ للمستقبل على تلك الترقبات، من دون التفكير بخطط بديلة أو احتمالات مفاجئة.
ومن دون “بُعد النظر”، ستتحكم الأحداث في السياسيّ، ومع بُعد النظر قد يستطيع السياسيّ التأثر بسيل الأحداث. ولعل هذا هو السبب الذي يكمن وراء عدم اهتمام فيبر بالنيّات الحسنة كثيرًا، لأنه من دون بُعد النظر والشعور بالمسؤولية، فإن النيّات الحسنة أمور لا قيمة لها في عالم السياسة.
السياسيّ الذي لا يجمع بين هذه الصفات الثلاث هو سياسي عقيم وعرضة للوقوع في “أخطاء قاتلة”. ويجازف فيبر بالقول: إنه ليس لديه القدرة على العمل السياسي. الشغف يساعد المرء في عدم الاستسلام للظروف الصعبة، والشعور بالمسؤولية يمنح المرء عزيمة أكبر أمام ذاته، وبُعد النظر يساعده في فهم التشابكات وعدم الانجرار وراء انفعالات وهمية. هذه هي الخلطة التي تجعل من السياسيّ سياسيًا. إن ما يطلق عليه الناس “الشخصية السياسية القوية” لا يعني أكثر من تمتع المرء بهذه الصفات الثلاث. وهي صفات يكمّل بعضها بعضًا ويدعم بعضها بعضًا، لأن افتقاد أي منها يُخرج المرء من دائرة السياسة.
تلك الصفات الثلاث لا تساعد المرء في العمل في السياسة وحسب، بل تحميه أيضًا مما يسميه فيبر “الأمراض القاتلة ” التي كثيرًا ما يقع فيها السياسيون. ولعل “الغرور” يأتي في مقدمة تلك الأمراض. ومشكلة الغرور أنه صفة قد لا تفسد بعض الأعمال والسلوكيات في الحياة المهنية العامة، ولكنه في السياسة أمرٌ يوقظ “غريزة السلطة” داخل المرء، ولذلك هو أمر مدمّر في عالم السياسة. يُذكر أن برهان غليون، في كتابه “عطب الذات”، اشتكى من ارتفاع منسوب غريزة السلطة، لدى عدد كبير من المعارضين السوريين العاملين في مؤسسات المعارضة.
طبعًا، السعي إلى السلطة جزء لا يتجزأ من العمل السياسي، بل إنه يشكل جوهره، ولكن المشكلة مع الغرور أنه يحول السلطة إلى أن تصبح غاية بحد ذاتها، أو هدفًا ليس بعده أهداف أخرى. وهذه من الأمور الملاحظة، بقوة، عند المعارضة الرسمية السورية. حتى إن المتابع لنشاطات وعمل أعضاء الائتلاف -مثلًا- لا يشعر بأنّ لديهم أهدافًا سوى البقاء في الائتلاف نفسه، وممارسة سلطة من داخله تقوم على “الشللية” وإدارة الفساد داخله. عندما يتابع المرء السيرة السياسية للرئيسين السابقين للائتلاف -مثلًا- لا يجد ما يشغل بالهم سوى البقاء في مناصبهم، بكل بساطة.
التفكير في السلطة على أنها هدف قائم بحد ذاته كثيرًا ما يخفض بالضرورة درجة الشعور بالمسؤولية تجاه القضية المتبناة. وهذا ما دفع فيبر إلى وصف حب الشهرة والغرور على أنه أمر “قاتل” للسياسيّ. يذكر أن غالبية السوريين لديهم هذا الشعور تجاه مؤسسات المعارضة، من حيث إنها مؤسسات يديرها أشخاص مستوى شعورهم بالمسؤولية تجاه القضية السورية منخفض، في حين أن حبهم للسلطة أمرٌ لا تخطئه عين.
إن عدم تمتع السياسي بالشغف والمسؤولية الأخلاقية وبُعد النظر يجعله شخصًا بعيدًا كل البعد عن “الوعي المأساوي” للقضية التي يتبناها. إن الوعي المأساوي، الذي يقف خلف السياسي، هو الذي يجبره في النهاية على التمسك بإنسانيته إلى آخر رمق. ويذكر أن غالبية المقالات التي يكتبها المعارضون الرسميون تكاد تخلو من الوعي المأساوي الذي يشترط وجود وعي يتمتع بالشغف والمسؤولية وبُعد النظر. حتى إن المرء عندا يقرأ -مثلًا- مقالات لأحد كبار ممثلي الائتلاف في أوروبا لا يكاد يعثر على وعي مأساوي، أو روح، أو قضية، في كتاباته، يكتب وكأنه محرك غوغل للترجمة، من دون روح أو أي شعور بالمسؤولية. بعضهم يكتب وكأنه مجرد محلل سياسي أو صحفي متابع للوضع السوري، ليس له أي دور في تدفق الأحداث، ولا تنم كتاباته عن أنه يشعر بأنه مسؤول سياسي. وهناك من يكتب على طريقة لقمان الحكيم، حيث يوزع نصائح وحكمًا للسوريين بأن يحبّوا بعضهم، ويتعاونوا، إلى أن يفرجها الله على الجميع.
في المقالات المهمّة التي يكتبها بعض كبار المسؤولين في الدول الكبرى (وزراء خارجية، رؤساء، مستشارين..) يمكن للمرء أن يعرف من تلك المقالات كيف تفكر مؤسسة ذلك المسؤول، وكيف يديرها، وما هي النقاط التي سيوليها أهمية في هذه المرحلة. أما المعارضون السوريون الرسميون، فإنهم يكتبون المقالات السياسية بوصفهم كتابًا، أو صحفيين، أو مثقفين مستقلين، أو محايدين، وليس بوصفهم معارضين أو مديرين في مؤسسات تريد أن تسقط أو تحاصر نظامًا لا يتوانى عن تدمير سورية في سبيل بقائه.
ومن جهة ثانية، فإن تحوّل السلطة إلى هدف قائم بحد ذاته يجعل السياسي مهووسًا بسلطة وهمية، قوامها مواقف غير ذات أهمية وعنتريات ولعب بالكلام، وتصريحات إعلامية شعبوية، بحيث تصبح البهرجة هي الساحة الحقيقة للسياسة عنده. حتى إن الحديث عن نتائج أي عمل تتلاشى تمامًا، بحيث يصبح الحديث الأساسي ماذا قال السياسي. أمّا ما هي نتائج ما يقول، وكيف يؤثر ذلك في مجريات الأحداث والتوازنات، فأمور لا تكاد تذكر، لكيلا تكشف أن السياسيّ خرج من دائرة السياسة الفعلية إلى دائرة السياسة المزيفة، أي دائرة البحث عن السلطة من أجل السلطة.
ما نريد أن نقوله في النهاية أنّ المعارضة السورية الرسميّة ليست جدّية بما فيه الكفاية، بل ليست إنسانية، ولم ترتقِ إلى مستوى تضحيات السوريين. وهذا يعني أنها أصبحت عبئًا على السوريين، وعليها إما أن تصلح نفسها بشكل جذري، وهي -مع الأسف- غير مهتمة بذلك، وإما أن ترحل وتترك السوريين يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
الاعتراف بالهزيمة، أو بالفشل، يُعدّ، من وجهة نظر فيبر، أشجع عمل يقوم به المرء على الإطلاق، ويعني أن الإنسان وصل إلى أعلى درجات شعوره بالكرامة، لأنه يشكل أعلى درجات نقد الذات وتحميلها مسؤولية ما جرى. لا يوجد معارضون رسميون يفكرون بهذه الطريقة، لأنهم ليسوا سياسيين حقيقيين، بكل بساطة.
تلفزيون سوريا