عَشر سنوات قبل يوم القيامة/ عمر قدور
في حادث مروع قام شبان جزائريون بقتل شاب وإحراق جثته وتصوير فعلتهم، ذلك بعد أن انتزعوه من الشرطة التي كانت قد أخذته من بين أيديهم للتحقيق معه. الشبان قبضوا على الشاب، تبين لاحقاً أنه موسيقي اسمه جمال بن إسماعيل، متهمين إياه بإشعال الحرائق، وبعد شيوع خبر مقتله بتلك الطريقة الوحشية أكد أشخاص من مدينته “مليانة” أنه انتقل إلى منطقة الحرائق مزوداً بالعتاد ليساهم في إخمادها. قبل هذا الحادث أعلن وزير الداخلية الجزائري أن الحرائق التي نشبت في بلاده مفتعلة، وهو ما كرره لاحقاً رئيس الوزراء، ولا يُستبعد أن تكون التصريحات الرسمية قد أججت الغضب تجاه “الفاعلين المجهولين” رغم أن الحرائق منتشرة في غالبية دول المتوسط، من إيطاليا إلى اليونان إلى تركيا وصولاً إلى الجزائر وتونس مع مرور سريع بلبنان.
لم تعلن الحكومة التركية حصيلة للحرائق، التقديرات تشير إلى احتراق قرابة 100 ألف هكتار من الأراضي. في اليونان تجاوزت الحصيلة المؤقتة هذا الرقم، وهو “على سبيل المثال” أكبر من المساحة المشجرة في عموم لبنان. اليونان شهدت حوالى 600 حريق، عزا رئيس الوزراء اشتعالها إلى التقلبات المناخية، واصفاً ما يحدث بالكارثة البيئية الهائلة.
إلى الغرب، أودى حريق “ديكسي فاير” في شمال كاليفورنيا بحوالي مئتي ألف هكتار من الغابات والأرياف، وهو أكبر حريق غابات من بين 11 عشر حريقاً في الولاية. وكان الرئيس الأمريكي السابق ترامب قد أعلن في آب من العام الماضي اعتبار حرائق كاليفورنيا آنذاك كارثة كبرى بعد اندلاع 24 حريق غابات، إلا أن حصيلة حرائق هذه السنة من الهكتارات أعلى من سابقتها بنسبة 250% حتى الآن.
في الغرب أيضاً، في بوليفيا أتت حرائق الغابات في مقاطعة سانت كروز على 150 ألف هكتار حتى الآن، وهو رقم متواضع بالمقارنة مع السنة الماضية حيث أتت الحرائق على 2.3 مليون هكتار من الأحراج، أو مع السنة التي قبلها 2019 حيث أودت الحرائق الضخمة بـ6.4 مليون هكتار. لم تنل حرائق بوليفيا في عام 2019 الاهتمام الذي نالته آنذاك حرائق جارتها البرازيل، ربما بسبب الإهمال المتعمد لحكم الرئيس الشعبوي بولسونارو المشجِّع على إحراق الغابات لاستخدام الأراضي للزراعة أو تربية المواشي. العالم اليائس من بولسونارو، والمنشغل بكورونا، كان أقل اكتراثاً بحرائق البرازيل عام 2020، إذ شهد النصف الأول منه أضخم انحسار لغابة الأمازون البرازيلية منذ بدء عمليات الإحصاء الخاصة بها مع احتراق ما يزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر مربع من الغابة.
شمالاً، قطع دخان حرائق الغابات مسافة 3000 كيلومتر ليصل إلى القطب الشمالي، في سابقة ضمن التاريخ الموثق. قبل خمسة أيام كانت التقديرات تشير إلى اشتعال 3.5 مليون هكتار من غابات سيبيريا، في حين تشير الإحصائيات إلى احتراق 15 مليون هكتار من الغابات الروسية منذ بداية العام، وهو العام الأسوأ منذ عام 2012. هناك اتهامات بالإهمال للحكومة الروسية لأنها أصدرت عام 2015 مرسوماً يقضي بتجاهل الحرائق، إذا تجاوزت كلفة إخمادها الأضرار المقدّرة، ما يجعل غابات شاسعة جداً في مناطق غير مأهولة تسقط خارج الجدوى الاقتصادية ومنها منطقة ياكوتيا الأكثر تضرراً في الحرائق الأخيرة.
ما سبق كله جردة سريعة لا تغطي كافة الحرائق وما أتت عليه من غابات وأحراج، علماً بأن الشهر الحالي آب هو الموسم المعتاد لاندلاع حرائق الأمازون التي تدعى عادة “رئة الأرض”، لأن غابات الأمازون تنتج 20% من الأوكسجين على الكرة الأرضية. الأرض تحترق، وهذا التعبير ليس مجازياً، أو من قبيل التنبؤات القيامية، بل الأقرب إلى الواقع القول أننا “على الأرجح” على بعد عشر سنوات لا أكثر من بدء تفاقم السيناريو القيامي الذي نعيشه منذ سنة ونصف، والمعجزة “إذا حدثت” ستكون بتفاديه.
مع نشوب حرائق الأمازون آب2020، أكد علماء ناسا أن ارتفاع درجات الحرارة في شمال الأطلسي أدى إلى سحب الرطوبة من غابات الأمازون في جنوبه، فأصبحت جاهزة وقابلة للاشتعال. هذا مثال مبسّط جداً وقريب من حيث تبادل التأثير المناخي، وهو تأثير معكوس لأن احتراق الغابات الناجم أصلاً عن ارتفاع الحرارة سيولد ارتفاعاً جديداً بها، وسيؤدي أيضاً إلى ذوبان كميات ضخمة من الجليد وارتفاع منسوب المحيطات وبعض البحار، فضلاً عن السيول والفيضانات التي شهدها ويشهدها العديد من الدول.
الكارثة الكبرى الواقعة حالياً هي في ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار يصعب التراجع عنه، وفي أن الدورة المناخية تتسارع بحيث لا تبقي فترات كافية للتعويض. المثال البسيط أن حرائق الغابات الكبرى إذا حدثت مرة كل خمسين سنة “أو ثلاثين في أقل تقدير مقبول” فإنها تترك مسافة زمنية للتعويض، طبعاً إذا افترضنا وجود ظروف مواتية للتعويض في رأسها إرادة البشر. أما عندما تحدث الحرائق كل عشر سنوات فلن تكون المدة الفاصلة بينهما كافية للتعويض، مهما كانت الظروف إيجابية والنوايا مخلصة. لتوضيح الأثر التراكمي للتسارع، كان علماء المناخ يتوقعون الوصول إلى عتبة حرجة في عام 2050، أما اليوم فصار تحقق تلك التوقعات المتشائمة منتظَراً في عام 2030.
عام 2030 ليس ببعيد، وبقليل من الواقعية يتوجب علينا أن نتخيل عتبة من الكوارث تفوق ما رأيناه منذ صيف 2019. حرائق كبرى قد تخرج عن السيطرة لتستمر شهوراً وقد تمتد لتلتهم أراضي خارج الغابات، وفيضانات وارتفاع عام في منسوب المياه قد يتأذى منه العديد من المدن وملايين من سكانها. وربما فيروسات من أنواع لا خبرة للبشرية بها، وهذه قد تكون الآن قيد الانتقال، فمثلاً قدّر علماء الأحياء عدد الحيوانات المفقودة إثر حرائق بوليفيا 2019 بـ2.3 مليون حيوان، قد يكون مليونان منها لقي حتفه، بينما خرجت مئات الألوف من محميتها الطبيعية وهي تحمل فيروساتها، ولا يُستبعد في أي لحظة أن تنتقل تلك الفيروسات عبر حيوان مضيف وسيط إلى الإنسان، وهذا واحد من سيناريوهات انتقال الوباء الحالي.
بينما يعاني العديد من بلداننا كوارث مباشرة ومستمرة، قد يبدو الكلام عن كارثة عالمية مقبلة فيه ما فيه من الابتعاد عن واقع تلك الشعوب، فلسان حال شرائح عظمى منها أنها مستعدة للذهاب إلى اليونان أو إيطاليا اللتين تشهدان الحرائق. لكن أزمة كورونا الماثلة أمامنا تقدّم لنا مثلاً مصغَّراً عن تأثير أزمة عالمية كبرى على البلدان الأضعف، خاصة وأن معظم هذه البلدان يعاني في الأصل من أزمات بنيوية جراء حكم مديد من الاستبداد والفساد. إن مثال انكشاف القطاع الصحي أمام الوباء، والأنانية التي تعاطت بموجبها معظم الاقتصاديات الكبرى، يدلنا على الثمن الذي ستدفعه البلدان الأضعف وفق واحد من احتمالين “إيجابي وسلبي”.
الاحتمال الإيجابي هو اتفاق الاقتصاديات الكبرى، وهي المسؤول الأول عن أزمة المناخ، على الاتجاه إلى الطاقة البديلة على نحو صارم لا عودة عنه، ومحاولة تعويض ما احترق ويحترق من الغابات بما يعوض أيضاً تسارع الدورة المناخية ذا الأثر السالب. سيكون اتفاقاً باهظ التكاليف على اقتصاديات تلك الدول، وعلى الشرائح الأفقر من مواطنيها أولاً. فالإنفاق على التحول سيُقتطع جزء منه من برامج الرعاية الاجتماعية، وسترتفع في الوقت نفسه أسعار السلع بسبب تراجع التبادل التجاري إلى أن يتأقلم قطاع الشحن والنقل مع استخدام الطاقة البديلة.
لن تستمر الاقتصاديات الكبرى في برامج المساعدة التي تقدّمها للدول المتعثرة، باستثناء دول تحتم الضرورة مساعدتها مثل تلك التي تتقاسم غابات الأمازون. والتخلي الحثيث عن النفط سيغيّر كثيراً من الترسيمة الاقتصادية الحالية، وفي الحد الأدنى لن تكون الدول النفطية الثرية حالياً في موقع أريحي لتقديم المساعدات لغيرها من الدول. وسيتحتم على الدول الضعيفة الانتقال إلى الطاقة البديلة رغم تكاليفها الباهظة، لأن التكنولوجيا القائمة على النفط ستنقرض تدريجياً من منبعها. ولا يُستبعد أن تفقد قدرتها المتواضعة على تصدير بعض المنتجات الزراعية أو الصناعية البسيطة، في حال فرضت الاقتصاديات الكبرى رسوماً باهظة على استيراد المنتجات المعتمدة على النفط أو منعت استيرادها نهائياً.
الاحتمال الإيجابي يعني أن تتخذ الاقتصاديات الكبرى قراراً بالتضحية من أجل الأجيال اللاحقة، وهو ما قد لا يكون متاحاً. لقد رأينا كيف انسحب ترامب من اتفاقية المناخ، وكيف رفض بولسونارو الانتقادات الموجهة لتعاطيه مع الحرائق بذريعة أنها تدخل استعماري في شؤون بلاده. تضاؤل احتمالات الاتفاق سيؤدي إلى تركيز الدول المهتمة بهذه القضية على حماية نفسها ما أمكن ضمن السيناريو القاتم المحتم، ما يعني زيادة في الانفاق، بعضه في الانتقال إلى الطاقة البديلة، وبعضه الآخر استباقي لتدعيم قطاعات مثل الصحة والطوارئ والإنقاذ. هذا الاحتمال سيجعل العالم بلا مواربة أكثر أنانية مما هو عليه اليوم، وسيدفع بموجبه الضعفاءُ الثمنَ ضمن عالم بلا مُثُل ولا هدف مشتركاً لحماية الإنسانية. في واحد من الأمثلة البسيطة، ستكون بلدان شرق وجنوب المتوسط مهددة بحرائق لا تستطيع مواجهتها، والتوقعات تشير إلى تصحرها مع احتراق ثروتها من الغابات والأحراج.
العام 2030 قادم، والاستعدادات له لا تبشر بالخير. حتى ذلك الموعد لن يكون مستبعداً تكاثر عدد الذين يتمنون لو يأتي النيزك الموعود ليدمر كوكب الأرض في لحظة، فلا تمتد النهاية لألفية أخرى!
المدن