فنون قطع الأرزاق في “سوريا الأسد”/ إياد الجعفري
لم تثر تشكيلة الحكومة السورية الجديدة، هذا القدر من الامتعاض، في أوساط السوريين الخاضعين لسيطرة النظام، بقدر ما أثاره قرار المحافظات تحديد أوقات إغلاق الأسواق والمحلات التجارية، وفق ما توحي به التفاعلات والتعليقات على الصفحات المحلية الموالية، في وسائل التواصل الاجتماعي.
فإن كان اليأس قد ضرب أطنابه في أوساط السوريين من أي تغيير إيجابي في أداء النظام الإداري والاقتصادي، فإن استهداف لقمة العيش بصورة مباشرة، كان ضربةً غير متوقعة لدى غالبيتهم. فالقرار المشار إليه، يمثّل خطوة تقييدية جديدة للنشاط الاقتصادي، يُضاف إلى قرارات سابقة، تسببت بركود ملحوظ في السوق السورية.
وإن كان تبرير القرارات السابقة، التي استهدفت “تجفيف” الليرة السورية من السوق، بغية ضبط سعر الصرف، والحد من التضخم، قد “هُضمت” بصعوبة، في أوساط الناشطين في قطاع الأعمال السوري. فإن تبرير القرار الأخير، كان مستفزاً لكل الشرائح في المجتمع السوري، وفي مقدمتها، التجار والعمالة “المسائية” و”الليلية”.
وفيما كان من المتاح للتجار إيصال صوتهم لمجلس إدارة محافظة دمشق، عبر “نقابتهم” القوية (غرفة تجارة دمشق)، فإن الشريحة الأخرى المتضررة بشدة من هذا القرار، وهي العمالة “المسائية” و”الليلية”، لم تجد من ينقل صوتها للمعنيين، الذين كانت ردودهم باردة وغير واقعية، كالعادة.
وإن كان التجار، وفق تصريحات بعض ممثليهم في غرفة تجارة دمشق، قادرين على التأقلم مع قرار الإقفال في الثامنة مساءً -أو في التاسعة إن كُللت مساعيهم لدى المحافظ، بالنجاح، بتعديل ساعات الإغلاق-، فإن شريحة العمالة “المسائية” و”الليلية”، لن تستطيع التأقلم مطلقاً في حال استمر القرار المشار إليه.
ولا توجد أرقام توضح حجم العمالة “المسائية” و”الليلية”، نظراً لطبيعة الاقتصاد السوري غير المنظم في معظمه، إلا أنها شريحة كبيرة للغاية، فهي تضم موظفي الدولة الذين يعملون مساءً وليلاً، كي يستطيعوا أن يطعموا عائلاتهم نظراً لأن وسطي أجورهم لا يغطي 15% من الحد الأدنى لاحتياجات عائلة من خمسة أفراد. وهذه الشريحة من الموظفين الذين يعملون مساءً وليلاً، هي تحديداً، الشريحة التي لا تملك مصادر أو فرصاً للحصول على رشى، بسبب طبيعة وظائفها التي لا تتيح ذلك.
لكن بعيداً عن شريحة الموظفين في القطاع العام، هناك موظفو القطاع الخاص، الذين يُقدّر وسطي الأجور في أوساطهم، بحدود 150 ألف إلى 200 ألف ليرة سورية (بين 46 إلى 61.5 دولار)، وهو دخل لا يغطي 25% من تكاليف الحد الأدنى للمعيشة، لعائلة من خمسة أفراد. وضمن هذه الشريحة، يعمل الكثيرون في أكثر من عمل، أو في أكثر من ورديّة (نهارية أو ليلية). وهي شريحة ستتضرر أيضاً من قرار الإغلاق، بصورة كبيرة.
أما الشريحة الثالثة المتضررة، فهي التي تعمل لصالحها الخاص، من تجار المفرّق وصغار التجار، والعاملين لديهم. وهي شريحة أخرى، لا توجد أرقام توضح حجمها، لكن التقديرات تذهب إلى أنها تشكل خُمس العمالة في سوريا.
وبخلاف التجار الكبار، الذين يعانون منذ أشهر من محدودية حركة البيع والشراء، نظراً لانهيار القدرة الشرائية للسوريين، مما يجعلهم الأكثر قدرة على التأقلم مع قرار الإغلاق الجديد، سيدفع صغار التجار والعمالة لديهم وباقي شرائح العمالة “المسائية” و”الليلية”، ضربة قاصمة لمصادر دخلهم في بلدٍ يُعتبر التسوق والترفيه ليلاً، في موسم الصيف، من ثوابت عاداته الاجتماعية، الأمر الذي يفسّر لماذا كانت مقارنة مسؤول في محافظة دمشق، التجربة بنظيرتها في دول غربية، تُغلق أسواقها في السادسة مساءً، مثار سخرية وانتقاد شديدين، على وسائل التواصل الاجتماعي. كما كان نفي المسؤول ذاته (نائب المحافظ) أن يكون سبب القرار، عائداً إلى أزمة الكهرباء والوقود، مثاراً للتندر أيضاً. فيما كانت تصريحات مُمثلي التجار أكثر جرأة، في الربط بين القرار وبين أزمة متفاقمة، بصورة تطرح التساؤلات حول كيف سيكون المشهد في الشتاء، حينما يزداد الطلب على المازوت، بغية التدفئة! فالتقنين جراء عجز النظام عن توفير الوقود الكافي لمحطات الكهرباء، ناهيك عن تهالكها، وصل إلى 20 ساعة قطع يومياً.
وبطبيعة الحال، لا يوجد أي تجنٍ على حكومة النظام، حينما نتوقع، كما توقع كثيرون، أن القرار المشار إليه، سيفتح باباً جديداً للرشوة. ولن يُطبّق على نطاق واسع. فشرطة المحافظة هي المسؤولة عن تطبيق القرار. وهي جهة عُرفت بحجم الفساد والمحسوبية التي تميّز جزءاً كبيراً من موظفيها. ويكفي أن نذكّر بدورها في تمرير مخالفات البسطات والأكشاك وتعدياتها على الأرصفة والطرق العامة. وقد يكون ما حدث في جرمانا، بريف دمشق، حينما اضطرت شرطة المحافظة لدعوة المحلات بالشارع العام، الى الالتزام بقرار الإغلاق، باستخدام مكبرات الصوت، مثالاً على مدى الالتزام المرتقب بالقرار في الأسواق الشعبية، التي لن تحتمل قطع الأرزاق الذي يتسبب به.
وقد تكون ضآلة الغرامة المفروضة بموجب القرار، على غير الملتزمين، مؤشراً إلى أن التهرب منه، بواسطة رشوة شرطي المحافظة، لن يكون مكلفاً كثيراً. فالغرامة المفروضة ستكون 5 آلاف ليرة سورية (حوالي 1.5 دولار). وهو مبلغ لا يساوي دخل ساعة من العمل في المحلات المُستهدفة. لذا من المتوقع أن يكون هناك تشدد في تطبيق القرار في الأيام الأولى، كالمعتاد، قبل أن يسود التسيّب إجراءات ضبط المخالفين.
لكن تبقى القضية الرئيسية، كيف أن النظام قرر تقييد النشاط الاقتصادي الراكد أساساً، بصورة تناقض الشعار “الانتخابي” لرئيسه –(الأمل بالعمل)-، كحلٍ لمواجهة عجزه عن توفير الوقود والكهرباء للسوريين، في الوقت الذي لا يعجز فيه عن توفير الوقود للدبابات والآليات العسكرية التي يحركها في درعا البلد، لإخضاع آخر البقاع المتمردة عليه في مناطق سيطرته. كما أن وقود آلياته العسكرية التي تستهدف تخوم إدلب، في مناوشات لا تنتهي، لا ينفد هو الآخر.
المدن