قصائد من “كتاب الأشياء”/ أليش شتيغير
معطف
أتذكُرُ موظّفَ الأرشيفِ الذي انتحَر
بسبب ورقةٍ ضائعة؟
أتذكُرُ أمناءَ المكتباتِ الثلاثةِ الذين دخلوا المستودع ولم يخرجوا؟
طلّابَ التاريخ الذين نهَشوا رقَبَةَ الأستاذِ في الامتحان
لأنّه لم يذكر سعر حساء البطاطس في مايو 1889؟
الببغاوات التي صرخت ملء الكون
ستالينغراد، الثورة الجنسية، والاعتماد على الذات؟
هناك ذكرى أُخرى لا تحيلك إلى أيّ شيء.
المعطف الذي لم يُخِطْهُ أحد، ولا يمكن لأحد امتلاكه.
لا يمكنك سوى أن تستعيره ليدفئك فتغرق في أحلام اليقظة.
كان ضيفاً في منزله. مستأجراً بالباطن.
تعصُر الذكرى الأولى لتستخلص أيّ شيء.
ونادراً ما تفكّر بالثانية،
التي لا تحيلك إلى أيّ شيء أيضاً.
■ ■ ■
نافذة
تنامُ في حِجرِكَ أحياناً وترتَشِفُك.
وتحاكي حركتك بمقلة عينها اليمنى أحياناً أُخرى.
تتبدّد النافذة في الليل. فلا تسمع سوى شخص متّكئ عليها
يتقيّأ لساعة كاملة، كلُّ ما تراه عيناك.
لا تقترب منها أكثر من اقترابك من الغرفة التي تعكسها.
تغذّي فضولك دائماً بمشاهدات غريبة.
تقسم الستائر بطنَها إلى شرائِحَ رقيقة.
ولا يجمعها مجدَّداً
سوى بقايا المشاعر المنعكسة على وجهها عند الظهيرة.
إنّها هبة الآلهة وعقابها.
ما عليك سوى أن تغلقها
أغلقها!
كي لا تتهاوى عليكَ كلُّ تلكَ الغيوم.
■ ■ ■
بيضة
لا تنتبهُ عندما تقتُلُها على حافّة المِقلاة،
أنّها تنمو مجدَّداً هناك في جفْنِ الموت.
صغيرةٌ للغاية، ولا تُشبِعُ أقلّ الناس شهيّةً في الصباح.
ولكنّها تراقِبُكَ، تُحَدِّقُ في عالمِك.
إلى أيّ أفقٍ تَرنُو بتلكَ العينينِ الزجاجيّتَين الباردتين؟
هل ترى الزمن،
الزمنَ الذي يتحرُّك بتؤدةٍ في الفضاء؟
مقلةَ العين، والأصدافَ المُهشَّمة، الفوضى أم النظام؟
أسئلةٌ مربِكةٌ لهاتين العينينِ الفتيّتين
في ساعةٍ مبكرةٍ كهذه.
أمّا أنت، فهل تبحثُ عن إجابةٍ حقّاً؟
عندما تجلسُ أمامَها وجهاً لوجه على الطاولة،
تُعمِيها على الفور بكسرةِ الخُبز.
■ ■ ■
حجر
لا أحدَ يسمعُ ما يخبِّئُ الحَجَرُ في سرّه.
لا فائدة، فهذا سرّه الخاص، كالألم، بين جلد الحذاء والنعل.
عندما تتخلّص من الألم،
تتطاير أوراقُ الأشجارِ في تلك الأزقّةِ العارية.
فما حصلَ لن يتكرَّرَ مُجدَّداً،
وأكوامٌ من الأوراقِ الأُخرى
تدخلُ مرحلةَ الانحلالِ والتفسُّخ.
وتنبعِثُ رائحةُ العياداتِ المُجاورة.
لا تنبِسْ ببنتِ شَفَة، وتابِعِ المَشي.
ما تُبقيهِ لنفسِكَ، لن يعرِفَهُ أحد.
فأنت الساكنُ الوحيدُ في حَجَرِك.
وليسَ أمامَكَ سوى أن ترميهِ وتنسى كل شيء.
■ ■ ■
شوكولاتة
دفَعَ حياتَهُ لتأكله.
فلا يضيرك شيء من الحزن على موته.
يذوّبُ أحشاءه السكّريّة ومنحنياته المُرّة
بكلّ الخوف في راحتها الأبدية في فمك
يسألُكَ أن تُقشِّرَهُ، وأن تُعرّيهِ ولا يطلب سوى الإضاءة المناسبة.
لا يريدك سوى أن تكون لطيفاً ورحيماً ومتسامحاً.
أن تداعبه كما تداعب الهدايا البكماء بصمت.
أن تُفتّتَهُ وتأكُلَهُ، فيتكسّرُ ويتغذّى عليك.
أن يغمره لعابُكَ، فينسى نفسه في ذلك الشعور السرّي للفم الفارغ.
وأن تبحثَ عنهُ أصابعُك في الأدراج.
لا بدّ أن تبقى جائعاً، ولا بدّ أن يرزقك الله.
ولكن تذكَّر،
كلُّ نِعَمِكَ هذه قد تتبخّرُ في النهاية.
■ ■ ■
مجرفة
انفَضَّ العُمَّالُ. أصدقاؤُكِ المفضّلون، وتوقّفتِ في منتصفِ حكايةِ ضربةٍ جديدةٍ في الأرض، كما لو كنا قد خُلقنا للعملِ باستمرارٍ دونَ توقُّف.
حفرَتْ الكثير على جِلدِ العالم،
دون أن تُدرِكَ
أنَّ تحتَ التُّراب ترابٌ أيضاً
وكلما حَفرْتِ أكثر، ازدادتْ صلابَتُكِ.
هل ستنقّبُ أكثرَ عن الاكتشافات؟
عن عظامِ الفراشات، عن لُعابِ العُملاتِ المَعدِنيّة، عن لسانٍ أبكم؟
وهل مهنتُها
هي الهدفُ الوحيدُ في حياتِها؟
تتلاشى هذه الأسئلة في الأمسياتِ الهادئة،
كمنْ يُحدِّقُ من النافذة في الظلامِ الدامس،
النافذةُ التي تحدِّقُ في نفسِها في الظلامِ الدامس.
* ترجمة: عماد الأحمد، والمختارات من مجموعة الشاعر “كتاب الأشياء”
العربي الجديد