مضر الدبس: الإسلام السياسي السوري مطالبٌ اليوم بابتكار خطاب إسلام سوري وطني
غسان ناصر
يحلُّ الكاتب والباحث السياسي المعارض الدكتور مضر الدبس، ضيفًا على مركز حرمون للدراسات المعاصرة في هذه الفسحة الحوارية. وهو من مواليد بلدة (القريَّا) في محافظة السويداء عام 1982، وكان أن شغل سابقًا منصب الرئيس التنفيذي لـ “حزب الجمهورية السوري”، وهو من الباحثين السوريين والعرب المهتمين بقضايا المواطنة والوطنية، وصدر له من الكتب عن “المؤسسة العربية للدراسات” في بيروت، هذا العام، كتابان هما: «مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنيّة في المستقرّ الإيماني»؛ و«في ضوء الألم.. تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري». أما كتابه «عقل الجهالة وجهل العقلاء.. في المقدس والثقافة وإشكالية العلاقة بينهما، المجتمع الدرزي نموذجًا» فصدر في عام 2014. وله العديد من المقالات الأبحاث والدراسات المنشورة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية سورية وعربية.
هنا نص حوارنا معه:
بداية، كيف يحبّ الدكتور مضر الدبس أن يقدّم نفسه إلى قرّاء مركز حرمون؟ وماذا عن خلفيتكم الأكاديمية واهتماماتكم البحثية؟
أن تسأل من يعاصر مجزرةً لم تنتهِ عن ذاته، فأنت تُربكه، وتُسعِده، وتُحرجه في الوقت نفسه: تربكه لأنك تُحمِّله عبء الحديث عن شيءٍ لم يكتمل بعد، ولأنَّه يدرك أنَّه لن يُشبع نهمَ الصحفي لليقين الذي لديك؛ وتسعده لأنك تحيله على نفسه في المجال العام، كما يفعل المحبّون في مجاله الخاص؛ فتعطيه فرصةً لحديث موضوعي عن ذاته، وهذا مبعث سعادةٍ جميل لك عليه كثير الشكر والتقدير؛ وأنت تحرجه لأنك تضعه في موضعٍ يصير مضطرًا معه إلى الحديث عن ذاته في زمانِ نفخ الذوات والاستعراضات الزائفة..
واحدٌ من أكثر الأشياء صعوبةً أن تسأل امرأً سوريًا عن ذاته في هذا الزمان، ويجيبك إجابةً مقنعة وشافية؛ ففي زمن النكبات تنشغل بعضُ الذوات عن نفسها بالتفكير، وفي هذا الانشغال، تكوِّن نفسها من جديد، والإجابات صعبةٌ في أزمنة التكوين، لأنَّنا لن ندرك الذي تغيّر فينا بوجهٍ دقيق إلا بعد نهاية النكبة، وأي إجابةٍ قبل هذه النهاية هي نبوءةٌ من نوعٍ ما.
أن يُسأل المرء عن ذاته، في هذا الزمن، يعني أن ينبش في تاريخ وعيه لصياغة نصٍ يوجز بوساطته مشروعًا لم يكتمل لمعرفة ذاته على أرضٍ تمور تحته مورًا؛ وكأن الإجابة تحيل على كيفية تدبّر أمر التوازن على أرضٍ تمور، وبطبيعة الحال على طرق النهوض بعد كل سقوط. وإني إذا أجيب عن سؤالكم عن ذاتي، فإني بالضرورة أضع بين أيديكم إجابةً منقوصةً، تمتد إلى حدود اكتمال مشروعي المعرفي والفكري الذي لا يقين فيه إلَّا أنَّه يتطوَّر ويتبلور، وينتمي إلى ما بعد العام 2011.
– الطفولة والنشأة الأولى
ولدتُ في صيف عام 1982، في بلدة القريَّا في السويداء، وفيها كانت حياتي المبكرة والمدرسية. وحملت معي من طفولتي هناك وفرةً من المحبة والخيالات وإرادة الحياة، وكثيرٌ من الرياضيات والمنطق التي درسني إياها والدي بتأنٍ وعمق، وأثرت بعد ذلك في مجمل تكويني ورؤيتي إلى الحياة.
غلاف كتاب عقل الجهالة وجهل العقلاء.. في المقدس والثقافة وإشكالية العلاقة بينهما، المجتمع الدرزي نموذجًا
وفي السويداء مجتمعٌ متكورٌ على ذاته، يعشق الأسطورة وتعشقه الأساطير كلها. كتبتُ عنه مرتين، مرةً عندما أردت أن أتحرر منه، ومرةً عندما أردت أن أحرّره، أو أن أحرّر ضميري من احتمالات ألم غياب قلمي عنه، كانت الكتابة في المرة الأولى تفكيرًا، والكتابات الثانية كانت ضميرًا. لأتحرر منه كتبتُ كتابًا، ولأحرّره كتبتُ موهومًا مقالات صغيرةً في صحف. الكتاب اسمه «عقل الجهالة وجهل العقلاء»، شعرتُ في مقدمة هذا الكتاب أنَّني مثل “ماني” في «حدائق النور» لـ أمين معلوف، الذي صبر طويلًا حتى اتخذ قراره بمغادرة أصحاب الملابس البيضاء، وخلع ملابسهم، وتنفس في العُري! وبغض النظر عن هذه الروح المفرطة في التحدي التي يمتلكها الشاب المبتدئ في حرفة الكتابة والتفكير الذي كنته حينها، وعن أخطاء الكتاب في الصياغة والنحو والإملاء، فإنَّه لا يزال في نظري دراسة عميقة ضرورية، كان لا بدّ منها لكي ابدأ مشروعي الفكري حرًا، متحررًا من سطوة ابن خلدون: “لا عصبية تحتويني، ولا أبذل الحمية لأحد”، فـ «عقل الجهالة وجهل العقلاء» قد كوَّن فرديتي وأهّلني لقرار القطع مع العصبية المذهبية والدينية، والثقافية المتماهية معها، من دون رجعةٍ وإلى الأبد. ولا زلت أرى أنَّ التفكير، من دون وصاية على الفكر والمنهجية والأدوات، كان من أكثر إنجازاتي الفردية فائدةً وربّما من أكثرها شجاعةً. وصار لهذا المجتمع الصغير في ذهني ثلاث صور: الأولى قبل عام 2011، والثانية بعد 2011، والثالثة بعد تحرري منه: الأولى وهمٌ أحبّه، والثانية واقعٌ لا أحبّه، والثالثة باردة لا حبّ ولا كره فيها، ولكن سعي باردُ المشاعر إلى المساهمة في بناء واقعٍ أحبه.
– باكستان وتعيين السياسة
وصلتُ إلى باكستان للدراسة في عام 2000، وقضيت فيها خمس سنوات، حيث أنهيت دراستي الجامعية في كلية الصيدلة. لم تكن الصيدلة أهمّ ما خرجت به من هذا البلد المنهك، بل إدراكٌ عميق لأهمية السياسة في حياة الإنسان (وربما عندما يتاح لي الوقت سأكتب في هذه التجربة الممتعة مطولًا). أذكر بدايةً أنَّني قارنت باكستان مع سورية في أمرين: الأول انتشار البنوك، والإنترنت، والجوالات، في باكستان، ولم يكن منها في سورية سوى عدد قليل ربما من الجوالات وبثمنٍ باهظ، حتى الكمبيوترات كانت قليلة جدًا حينها، وكنت أقول لنفسي دائمًا: “إذا كانت هذه البلد في قلب العالم الثالث، فأين نحن؟!”، والأمر الثاني عندما كنت أشعر بالارتباك عندما ينتقد أحدهم رئيس الجمهورية علنًا أو يشتمه مثلًا؛ وأنا الذي سمعت عن أشخاصٍ اختفوا بسبب فعلٍ كهذا في سورية، واستغرق الأمر شهورًا لأدرّب أعصابي على الاسترخاء أمام مثل هذا النقاشات، مع أنَّني لست في دولةٍ ديمقراطية بل في قلب العالم الثالث!
في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001، قصفت القوات الأميركية أفغانستان، بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، الأمر الذي أتاح لي لاحقًا العمل في منظماتٍ إنسانية وجمعياتٍ غير حكومية وفي برامج الأمم المتحدة، وأتاح لي ذلك الاحتكاك بمجتمعات محلية كثيرة، فيها توليفة من فقرٍ وتطرف ومخدرات وسلاح وفتوة وكثير من المواد في ذاكرتي تصلح لرواياتٍ أو أفلام. وربما أهمّها مقاربة الإسلام في أكثر معاقله تدينًا وأقلها دينًا؛ ففي باكستان يتاح لك أن ترى الجهل مقدسًا بصورةٍ مدرسية فاقعة الوضوح قابلةٍ للدراسة والفهم، وفيها ترى أنموذجًا لآليات اشتغال الدين، سياسيًا واجتماعيًا، من دون أن يكون فهم الدين شرطًا لذلك. وكانت هذه تجربة مهمة لتصوّر مواد نظرية لفهم تجارب الإسلام السياسي كلها في سورية بعد الثورة، ومنها التجارب المتطرفة مثل “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والتجمعات التي أميل إلى تسميتها غامضةً في آلياتها التنظيمية مثل “الإخوان المسلمين” وغيرها، وأيضًا لفهم سلوك الأقليات الدينية في سورية، مثل الدروز والمسحيين. ولاحقًا صارت هذه التجربة على درجة كبيرة من الأهمية عندما اهتديت إلى مفهوم رأس المال الاجتماعي، بوصفه أداة في الفهم والتحليل، وأضفته إلى عدتي المفهومية في هذا السياق، ويطول هذا الحديث..
وفي باكستان، يرى المرء السياسة متعينةً في ظواهر اجتماعية فاقعة، مثل الفقر المدقع -بتعبيرات الأمم المتحدة (Extreme poverty)- والأمراض البائدة مثل السل وشلل الأطفال، والغنى الفاحش، والطبقات الاجتماعية والتفاوت الطبقي، والجهل المقدس، والطائفية البغيضة الشرسة بين الشيعة والسنة، والأقليات الدينية اللاجئة في الجبال مثل الإسماعيليين في “غلغت” و”هونزا” في المناطق الشمالية (Northern areas)، حيث يعجنون البساطة بالدين بمنابع نهر السند (Indus river)، ويتلهفون لسماع فرمانٍ من الإمام الذي يعيش في أوروبا، واضطهاد المسيحيين، وأخبار العنف والموت عند انقسام الهند، وألمه الذي لم يندمل بعد. وإلى آخر هذه التعيينات التي تجمعها بالسياسة استثمارات متبادلة ومركبة. وإن كان من اليسير أن يعاين المرء في العالم دولًا من دون جيوش، فإنَّ باكستان كانت فرصةً نادرة ليعاين المرء “جيشًا من دون دولة”، ولك أن تتخيل كم هي مفيدة هذه التجربة.
– الثورة السورية
لا ينتابني أيّ نوعٍ من التردد، إذا قلت لك إنَّني ابن هذه الثورة، وإنَّها لصيقة بنوعية الوعي الفكري والاجتماعي والسياسي الذي بدأ ينضج بعدها بصورةِ فرصة تاريخية نادرة؛ فالثورة السورية فرصةٌ نادرة لامتلاك وعي استثنائي، إن أحسن المرء بالانتماء إليها. وكثيرٌ ما يمكن للمرء أن يقوله في ذلك، فعلاقة الثورة بالذات علاقة معقدة ورشيقة، وصار لها حديثٌ طويل لا يتسع إليه هذا الحوار. ولكن يمكن أن أسرد تغيَّرات مقاربة الانتماء إلى الثورة منذ بدايتها إلى الآن، للاستدلال على بعض مفاصل ودلالات هذه العلاقة.
بدايةً، كانت الثورة فخرًا وإباء وسعادة، في العمق كانت إعلانًا لانتهاء عصر الخيبات العصبية والتبعية، فكان يشعر المرء حينها بأنَّه ينتمي إلى الثورة بصورةِ انتماءٍ لذاته، ربما يختبره كثير من السوريين لأول مرة. فأن تنتمي إلى ذاتك يعني أنك حرٌ، تفعل ما تقتنع به فحسب، وتعتنق ما تريد فحسب، وتصنع إرادةً خاصة بك لا يمليها عليك أحد، تكون وسيلتك للمساهمة والمشاركة في إرادة الجماعة الوطنية، و”إرادة الشعب”. يعني ذلك أنَّ الثورة لم تحرّرنا من سطوة الطغمة السياسية الحاكمة، بوصفنا أفرادًا أحرارًا فحسب، بل حررتنا من كل سطوةٍ غيرها، ما إن اختبرنا طعم هذه الحرية، ومنها السطوة الاجتماعية، والدينية، والمذهبية؛ فكان من الطبيعي أن أبدأ مشروعي بنقد مجتمعي المحلي، وتحليل سلوكه، وفهم الظواهر الغريبة فيه، ومحاولة الوصول إلى الأسباب الحقيقية التي حالت دون مشاركته بقوةٍ في الثورة، إن كان من الممكن عملُ شيء ما في هذا السياق. لذلك انتهت هذه المرحلة من الانتماء بـ «عقل الجهالة وجهل العقلاء»، ولا نحيل كلمة “مرحلة” على تتابع زمني، ولكن على أنماط تفكير تتداخل ويؤثر بعضها في بعض.
الثورة السورية -بهذا المعنى- فرصةٌ نادرة لتحقيق قفزة في المجتمع، وفرصة لضرب مظاهر التأخر الاجتماعي بضرباتٍ قاصمة، ولكنها كانت فرصةً مُفوَّتةً بسبب إخفاق الثورة سياسيًا. هكذا نصل في حديثنا إلى ترجمة الانتماء إلى الثورة، وكانت هنالك ترجمات كثيرة، اخترت منها السياسة، ولم أجد أفضل من العمل فيها لترجمة انتمائي إلى الثورة وللتعبير عن ذاتي فعلًا. وهنا بدأ ما أسميه “الخطأ الكبير”، الذي أشترك فيه مع شباب الثورة كلهم، وهو ليس اللجوء إلى السياسية بالتأكيد، إنما هو أن نلجأ إلى المعارضة التقليدية التي ما تزال تفكر قبل 2011 للدخول إلى العمل السياسي. وبتقديري اليوم أنّ هذا “الخطأ الكبير” المشترك على نطاقٍ واسع، سبب إخفاقًا كارثيًا لمشروع الثورة السورية في الحرية والكرامة.
كنتُ كلّ مرّةٍ أذهبُ فيها إلى المعارضة أعود بـ “بخيبة أمل” جديدة، سواء كان ذهابي إليهم عبر قراءة نتاجهم وتحليل سلوكهم وخطابهم، أو عبر الحضور معهم؛ فخيبة الأمل كانت الوحيدة في الإياب. لدرجة صرت معها صامتًا مثل غالبية الشباب الذي يفكر، يراقب ويسأل نفسه: “هل يعقل أنَّ هذه الجماعة التي تسمى معارضة هي التي تمثل هذه الثورة العظيمة؟!”، كان دائمًا يبدو شيئًا غير معقولٍ، وبدأ شعور اللامعقولية هذا يتسرّب إلى المجتمع السوري كلّه، بطبيعة الحال. ولكن كان الموت دائمًا حاضرًا، ويزداد كل يومٍ فيشغلنا عن التمعن في هذه “اللامعقولية”، ونقاش خطوات تدبيرها. وأمام هذا الموت، و”اللامعقولية” أعرف من عاد إلى الله، ومن عاد إلى القبيلة، ومن عاد إلى الطائفة، ومن عاد إلى القرية أو المزرعة أو من توحّد أو من ذهب ولم يعد، وأنا كنتُ من هؤلاء الذين عادوا إلى ذواتهم. أوّل معاني هذه العودة اعترافٌ بالإخفاق، وغياب التأهيل اللازم، وبضرورة تطوير الذات. وبدأت مشروعًا طويلًا شاقًا وشائقًا في القراءة والنقد والتأهيل الفكري والمنهجي، ومن دون تفرّغ وبمواجهة الاستنزاف المعنوي والخسارات المتكررة وموت الأخ الأصغر، وكثير من الأحبة والأصدقاء؛ والاستنزاف المالي الذي عانى منه معظم السوريين، بعد أن أرهقتهم الحياة بعد الثورة فكان عليهم مساعدة بعضهم البعض.
ما إن تكتمل ملامح عودة السوري إلى ذاته، في مثل هذه الظروف، حتى تدركه الحقيقة الجميلة: أنَّ هذه العودة كانت إلى الثورة، وإلى الوطن؛ فالثورة والوطن والوطنية يولدون من جديد عندما يتغيَّر فهمنا لذواتنا؛ ويعني ذلك بطبيعة الحال فهمًا جديدًا لما حصل كله، ولطبيعة ونوعية الصراع منذ البداية. اليوم أستطيع أن أقول لك: إنَّ الثورة لم تكن ضد النظام فحسب، لكنها كانت ضد ذهنية تفكيرٍ قديمةٍ مهترئةٍ باليةٍ تعود إلى ما قبل 2011، وتضمّ النظام والمعارضة معًا، وكثيرًا من البنى الاجتماعية التقليدية المتأخرة والمستبدة التي تقوم على منظومة “اللاتفكير”. اليوم، أدرك أنَّ تمثيل المعارضة للثورة السورية سياسيًا كان سخريةً فاحشة؛ فهي لا تنتمي إلى الثورة، بل كانت من الذهنيات التي تنتمي إلى ما قبل 2011، التي قامت الثورة ضدها.
غلاف كتاب في ضوء الألم.. تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري
مع هذه العودة، ركّزت عملي في مفهومات الوطنية السورية، ونشرتُ عددًا من المقالات والدراسات والآراء في هذا الموضوع، محاولًا مقاربته بصورةٍ تنتمي إلى ما بعد 2011، وفي هذا السياق أيضًا، قمتُ بتأليف كتابي الثاني وهو «مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنيّة في المستقرّ الإيماني»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات في بيروت. ولديّ كتاب آخر يضمّ مجموعة من الدراسات المنشورة بصورةِ تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري، عنوانه: «في ضوء الألم.. تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري» صدر أيضًا عن المؤسسة العربية للدراسات في بيروت.
أعمل الآن على محاولة التفكير العلني، عبر النشر والحوار، وذلك إيمانًا بأنَّ ثقافة العمومي السوري هي الطريق الأكثر ملائمةً لإعادة بناء السياسة في سورية، وإعادة ثقة السوريين بالسياسة، بوصفها ملكًا للسوريين. وتعزيز الثورة بوصفها منظومة فكرية تنتمي إلى ما بعد 2011 قادرة على ابتكار مشروعٍ سياسي عصري سلمي مديني، لا يتجاوز النظام الهمجي فحسب، بل يتجاوز المعارضة المهترئة التقليدية التي لم تأت إلا بالإخفاقات المتتالية أيضًا. يضع مشروع العمومي السوري اللصيق بالحياة حدًا لليأس في حياتنا ولأفكار الموت والدعوة إليه، ويضع حدًا للبندقية. وأيضًا -وهذا الأهم- إنَّ التفكير العمومي يحررنا من سجن النخبة السورية المعارضة التي ظنت لفترةٍ طويلة أنَّ من حقِّها احتكار السياسة، لأنَّها كانت تناضل ضد النظام في مرحلةٍ ما، أو لأنَّها عملت في السياسة، عندما كان العمل بها ممنوعًا. هذا لا ينتقص من القيمة العظيمة لمثل هذا الفعل المقاوم، ولكن ببساطة تغيَّر التفكير اليوم، وتغيَّرت معه آليات العمل؛ فالثورة السورية انطلاقةٌ إلى التفكير الكوني، وتجاوزٌ مدهشٌ للمحليات للعودة إليها بصورةٍ أكثر نضجًا وفائدة وكونية.
ولتحفيز النقاش العمومي السوري، نشرت أخيرًا مجموعة مواد تنتمي إلى هذا النمط من التفكير، أهمها مادة بعنوان «تحرير فكرة الحرية من المعارضة السورية» في موقع “تلفزيون سوريا”، والثانية بعنوان «المسألة السورية وتأسيس الحل النهائي» في جريدة “العربي الجديد”؛ سيتم استكمالهما بمواد أخرى، أهمها مادة ستنشر قريبًا بعنوان «سبعة معانٍ للتفكير بعد 2011»، وأريد من هذا المشروع إعادة الثورة إلى أصحابها، إلى الذين عبروا بالزمن إلى ما بعد 2011، وأذكِّر الذين يقبعون قبل 2011، ومنهم من لا يزال ثاويًا في ماضٍ سحيق، أن يتقدموا بالزمن إلينا، ويفكروا بوصفهم كائنات زمنية.
مخاوف المثقف من تحالف المنهجية الإيمانية مع العسكر
كيف تنظرون إلى علاقة المثقف بالسلطة السياسية، بخاصة في الحالة السورية، ولا سيما أنكم توليتم سابقًا مسؤولية (الرئيس التنفيذي لحزب الجمهورية السوري)؟ وما المطلوب مِن المثقفين في هذه المرحلة بالذات؟
تكمن المشكلة بتقديري في أنَّنا لم نختبر معنى عمليًا ناجزًا لـ “السلطة السياسية” في سورية، وكان علينا أن نركن دائمًا إلى النظرية، أو إلى استقدام أمثلةٍ عنها، أو إلى خيالاتنا في أحيانٍ كثيرة. في سورية نحن نعرف التسلط الذي يبدو سياسيًا، ونعرف منه أنواعًا كثيرة، ولكننا لم نهتدِ بعد إلى معنى السلطة السياسية، ولم نرَه واقعًا يعمل، فهو مفهوم لم يتعين، وفي غياب هذا التعيين تصير العلاقة بين المثقف والسلطة مشكلًا مؤجلًا، يعني يمكن تأجيله إلى حين امتلاك معطياتٍ أكثر تؤهله ليصير مشكلًا يمتلك أولويةً ما. ولكن ما له أولوية حقيقية اليوم في هذا السياق هو دور المثقف في ابتكار وتثبيت أسس السلطة السياسية في سورية. وهذا تحدٍ كبير، لأنَّنا لا نمتلك دولةً وطنية، فهو بالضرورة دورٌ يحيل على دورٍ آخر هو المساعدة في تكوين الدولة السورية الوطنية.
كثيرةٌ هي النقاط التي يثيرها هذا الطريق في التفكير، وهي نقاط مهمة بمجملها، ولكن أهمّها -بتقديري- دور المثقف في بناء مفهوم السلطة في هذا الزمان السوري. وما يميز الزمان السوري الحالي في هذا السياق أمران هما: اختطاف مؤسسات الدولة من قبل طغمةٍ مجرمة تستخدمها لقتل السوريين؛ والشحنة السلبية التي حُمِّلَ بها مفهوم السلطة، نتيجة توليفةٍ من هذا الاختطاف مع العادات والتقاليد التي تسحق الفردية. إنَّ دور المثقف في هذا الزمان هو الإجابة باستمرارٍ، وبطرائق مختلفة، عن السؤال الآتي: كيف نبني سلطة سياسية تساعدنا في بلوغ أهدافنا وتنظم طاقاتنا بصورةٍ إيجابية، قبل بناء الدولة الوطنية ومنظومتها القانونية؟ وإن بدا الأمر مستنكرًا للبعض، لكنني أصر على وجهةِ نظرٍ، أرى بموجيها أنَّ كل مثقفٍ يؤمن أنَّه ينتمي إلى “نخبةٍ” ما، ويصنف نفسه استنادًا إلى هذا الانتماء، هو مثقف غير مؤهلٍ للإجابة عن هذه السؤال، وأجوبته جميعها ستكون أيديولوجيةً بعيدة عن الواقع ولا تفيد شيئًا. ذلك لأنَّ النخبة في هذا الزمان التأسيسي مؤسسةٌ على الإخفاق، لأنَّها مؤسسة على معايير الاجتماع العصبوي التقليدي الذي تتحكم فيه منظومة تفكيرٍ تنتمي إلى ما قبل 2011؛ فنحن لم نؤسس نخبًا بعد 2011، وإلى حينه، ليس لهذا المفهوم أي فائدةٍ تذكر، بل له مضار ومخاطر ينبغي التنبه إليها.
الإجابة التي بدأت ببنائها عن هذا السؤال تنطلق من هنا، من رفض “النخبة”، والانفتاح على السوريين بوصفهم قادرين على بناء الحقيقة ونحتها بصورةٍ تشبه روحهم، من دون فرض أي أنموذج (إسلامي، علماني، حداثي، إلى ما هنالك) لكن بناء الأنموذج السوري. وبتصوّري، أنَّ الألم يجعل السوريين مؤهلين لنحت هذا الأنموذج وتكوين مدرسة جديدة تضاف إلى مدارس الاجتماع السياسي العالمي، إذا صنعوا لأنفسهم فضاءً عموميًا يتواصلون فيه، وفيه يبنون الحقيقة بوصفها تواصلية يشارك فيها الجميع، ويكون فيها كل إنسانٍ غاية في ذاته، له كرامة، وليس وسيلةً لغايات الآخرين (أيًا يكن هؤلاء الآخرون). وما دمنا نتواصل في الفضاء العمومي بالخطابات، ولأنَّ الخطاب -بتعبيرات فوكو- “ثروة هي بطبيعتها موضوع السلطة”؛ فإنَّ دور المثقف الأكثر أهمية -بتقديري- هو تحويل الكلمات والظواهر الاجتماعية والإرادات إلى خطاباتٍ عمومية تتحاور في الفضاء العمومي، يعني أن يكون المثقف مُترجمًا إلى العمومي، هو أهمّ أدواره في هذا الزمان، أيًا كان مجال اهتمامه وموضوعات انشغالاته. وبطبيعة الحال القدرة على هذه الترجمة لها مؤهلاتٌ لازمة؛ فبعض المثقفين لا يصلح لفعل الترجمة، ولا يؤتمن للقيام بهذا الفعل، لأنَّ الترجمة أمانة في النهاية، وفي الآتي أمثلة على هذا النوع من المثقفين: المثقف الباطني الذي يضمر غير ما يعلن، لأنَّ العلانية جوهر العمومية ومادتها، والمثقف الأناني الذي تضخمت ذاته، ومنهم في سورية من يعتقد أنَّه مركز الكون، وأنَّه الأوحد في الفهم والتحليل والسياسة، وهذا النوع لا يتقن الترجمة إلى العمومي، وإن أتقنها فهو لا يؤتمن عليها أيضًا؛ والمثقف الناقص، أي الذي توقف عنده الزمن في مرحلةٍ ما من رحلته الفكرية ولم يعد يقرأ، أو يتطوَّر، أو يقبل التغيير في طبيعة فهمه للعالم من حوله، فهذا يضخ إلى الفضاء العمومي ترجماتٍ أيديولوجية للواقع، لأنَّه غير قادرٍ على فهم ما يريد ليصنع منه خطابًا مفهومًا في العمومي؛ ومنهم أيضًا “مثقف الوهم” الذي لم يكن في يومٍ مثقفًا، ولكنه شُبّه لنا، بسبب الإعلام أو بسبب مصادفة وضعته في موضع شهرة، وإلى ما هنالك.
والحقيقة في أثناء فترة رئاستي لـ “حزب الجمهورية” عملت مع فريق صغير على تأسيس هذا الفعل العمومي سياسيًا، وبدأنا في هذا السياق تحالفًا مع “اللقاء الوطني الديمقراطي” أيضًا، في إطار هيئة العمل المشترك، وحاولنا التأسيس لشيء ملموس. ولكن هذه المساعي كلها ارتطمت بعقلية تنتمي إلى ما قبل 2011، وبذهنية تنتمي إلى اللامعقول الذي حدثتكم عنه آنفًا، وكانت هذه الذهنية -كما هي دائمًا- كفيلةً بوضع هذا المشروع برمته في طريقٍ لا ينتهي إلى هدفٍ متناغم مع الهدف المأمول الوصول إليه.
هل لديكم مخاوف على الحريات العامة وحرية الفكر والإبداع في سورية الجديدة، من تيارات الإسلام السياسي، وكذلك من الحكم ذي الخلفية العسكرية؟
إنَّني لست ممن يخافون على بلدهم من عقائد أبنائها ودياناتهم، ولا أرى مشكلة في أن تكون هذه العقائد، ومنها الإسلام، أو أي دينٍ أو معتقدٍ آخر، مبادئ لعمل حزبي سياسي، مع أنَّني لا أشجع ذلك ولا أرغب في أن يكون، ولكن رغبتي هذه لا تلغي حقَّه في أن يكون، وينبغي أن ندافع عن هذا الحقَّ لمن أراد ذلك. ولكن أنا أخاف على سورية من المنهجية الإيمانية في التفكير السياسي والدنيوي، وهي غير الإيمان، فإذا كان الإيمان، والعمل بموجبه في السياسة، أمرًا عاديًا؛ فإنَّ المنهجية الإيمانية التي ترى أنَّ الحقيقة ملكٌ لها، تلغي الآخر بموجب هذا الاحتكار الإيماني. لذلك أرى أنَّ الإسلام السياسي السوري اليوم مطالبٌ بابتكار خطاب إسلام سوري وطني عمومي وتطويره باستمرار، من أهم سماته الانتماء إلى الفكر التعددي والقبول به، والنظر إلى قبول حقِّ الآخر في الاختلاف، وإلى الفكرة المغايرة، بوصفها طريقًا وحيدًا إلى ضمان وجود الإسلام المستمر في الفضاء العمومي السوري، وبوصفها ضمانة السلم الدائم المؤدي إلى عباداتٍ أفضل؛ فالعبادة الأقرب إلى الدين هي الأقرب إلى الضمير، لأنَّها الأكثر وعيًا بالدين والأكثر فهمًا له. وأتفهم اعتراض بعض السوريين على هذا الكلام، بوصفه ربما يكون أقرب إلى المثالية واليوتوبيا، ولكنني لا أراه مثاليًا إذا اشتغل الفضاء العمومي السوري، وذلك لأنَّني أراهن على رأس المال الاجتماعي الوطني الذي يمكن أن نراكمه ما إن نبدأ الحوارات في هذا الفضاء، وهو يشكل ضامنًا إضافيًا قويًا للسلام وإرادة الحياة التي تستند إلى الحفاظ على الآخر، وتنهج إلى الذات طريقًا يمرّ عبر الآخر الشريك في الوطن، فتصير إرادة الحياة تدبيرًا مدينيًا للاختلاف في واحدٍ من أهم معانيها. أعتقد أنَّ هذا هو التصوّر السلمي الأكثر ملاءمةً للمسألة الدينية، أو تُحسم هذه العلاقة بالمزيد من الألم والقتل والتطرف، والتطرف المُضاد.
والمنهجية الإيمانية توصيفٌ أردتُ منه أن يدلّ على عجز الإنسان عن استخدام فهمه من دون توجيه الآخرين، وهذا تعبيرٌ يشرح طريقة في التفكير، وفي فهم الذات والعالم، تستند إلى تعليماتٍ لها طابع مقدس، ويمليها مقدس، سواء كان كتابًا مقدسًا، أو نبيًّا، أو شيخًا، أو زعيمًا تقليديًا، أو زعيمًا سياسيًا، أو أيًا يكن. ومن المُمكن ألَّا يكون هذا الآخر من طبيعة الإيمانية، وليس بالضرورة أن ينتمي إلى منظومتها، بل من الممكن أن ينكرها؛ فالإيمانية تقوم بصناعة صورةٍ لهذا الآخر في عقل صاحبها، غير مطابقةٍ للواقع، تتوافق مع حقل الإيمانية المنهجي النزاع إلى صناعة الأصنام وإعادة إنتاجها. وتترافق هذه الإيمانية مع نقصٍ في القدرة على اتخاذ المواقف، ونقص في الشجاعة اللازمة لاستخدام الفهم من دون قيادة الآخرين، وتربطها بهذا الضعف والكسل والجبن علاقة تناسبٍ طردي. وبهذا المعنى، تجد مريدين لـ “ماركس”، كما تجد مريدين للخميني مثلًا! وبهذا المعنى يصير لـ “ماركس” و”كانط” و”روسو” و”نيتشه” رعية، تتطابق في المبدأ مع رعية الخوري والإمام والسايس وإلى آخره. ومن هذا الباب، أدخل إلى الشق الثاني من السؤال المتعلق بالعسكر، وفي الحقيقة لدي مخاوف متجددة من تحالف المنهجية الإيمانية مع العسكر، ولكن هذه المرة تحيل المنهجية الإيمانية على العلمانيين السوريين الأشد تطرفًا؛ فالعلماني السوري المتطرف، الذي لا يقبل بحقِّ المؤمن في الوجود في الفضاء العمومي وفي العمل السياسي، هو أيضًا في الحالة السورية اليوم صاحب منهجية إيمانية إقصائية تدلّ على تابعيةٍ للنظرية من نوعٍ ما تؤدي إلى غياب الزمان من مفاعيل التفكير والبعد التدريجي عن الواقع. في العموم، تظل الحقائق في مثل هذه الموضوعات تواصلية، ينبغي إحالتها على الفضاء العمومي ونقاشها من دون أي نوعٍ من السرية، وهناك تفرز حقائق قابلة للتطوّر في الزمن من دون توقف، وهذا هو الأهم: أن نضع أنفسنا على عجلة التطوّر الزمني عبر التاريخ، ولا نقف في لحظةٍ معينة كما اعتدنا.
إلى ماذا تعزون جذور العنف في المجتمع السوري في العشرية الأخيرة؟ وما السبل الكفيلة للحد من هذا العنف والاقتتال الذي نشهده منذ نحو عقد من الزمن، على امتداد الجغرافيا السورية التي تقاسمها أمراء الحرب من كل الطوائف والمذاهب والإثنيات؟
إلى ظاهرةٍ أسمّيها “غياب التفكير”، وهي نتيجة التعميم المنهجي لظاهرة (الإمعيَّة) أي التبعية من دون تفكيرٍ. بدأ هذا التعميم، حين قام حافظ الأسد بانقلابه في بداية السبعينيات مدشنًا بداية مرحلة اللامعنى، التي أكملها بالإجهاز على السياسة السورية، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين، السوريون يعيشون التفاهة إلى اليوم، وإذا كان لـ (سوريا الأسد) صفة حقيقية جوهرية، فهي صفة “التفاهة” التي تدلّ عليها إمكانية صياغة عبارة (سوريا الأسد) ومثيلاتها واستخدامهم لها بصورةٍ واسعة. ولا ترتبط التفاهة بغياب المعنى فحسب، ولكنها ترتبط بالشر وبالعنف المرافق له، لأنَّها تعني غياب التفكير، وفي غياب التفكير فرصة وجودية، ربما تكون وحيدةً، لظهور المذاهب والعقائد الشريرة التي تتخذ من العنف وسيلة لتحقيق أهدافها الشريرة، وفي هذا الغياب تتكوَّن (الإمعيَّة)، وهذه الأخيرة -بتقديرنا- هي قاعدة الشرّ السوري، ومادة صناعة العنف من طريق مراكمة رأس المال الاجتماعي الأسود (تشبيح، وتطرف، وممارسات قاع).
يشتغل التفكير ضد الجريمة، لأنَّه نابذٌ للتفاهة والشر، أو بتعبيرات حنا أرندت لـ “تفاهة الشر”، ذلك لأنَّ التفكير يحقّق الاختلاف داخل الهوية الواحدة، ويؤدي إلى فهم الطبيعة المركبة لهوياتنا، بوصفها نتيجة الوعي؛ فيؤدي إلى الضمير، بوصفه منتجًا ثانويًا للتفكير. استنادًا إلى ذلك، يمكن أن نقول إنَّ التفكير لا يجب أن يبقى شأنًا هامشيًا في السياسة السورية، وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أن يظل المفكرون بعيدين عن السياسة، ومن المفيد جدًا أن ننجز، نحن السوريين، هذه الشراكة أو هذا الزواج بين التفكير والسياسة، إذا أردنا وطننا مرةً أخرى. والتفكير الذي نعني لا يتعيّن في صورةِ معرفة ومعلومات، بل في صورةِ قدرةٍ على الحُكم على الأشياء -بلغة كانط- وقدرة على التمييز بين الصح والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح، بعبارة أخرى: يتعين التفكير في القدرة على امتلاك ضمير، وهذا الأخير هو الذي يُحصِّن الإنسان ضد نفسه، حين تأمره بالسوء، وحين تصنع النكبات له ولبني جلدته، والضمير هو الذي يمكِّن الإنسان، ويجعله قادرًا على مواجهة النكبات عندما يتعين عليه ذلك.
هكذا يمكن أن نقرأ النكبة السورية بأنَّها التزامن المنطقي بين غياب القدرة على التفكير (الإمعيَّة)، والإخفاق الكارثي للضمير السوري، ولا يعني غياب التفكير بالضرورة غياب المعرفة، لكن يعني غياب ذلك الحوار الصامت المستمر مع الذات -بتعبيرات هايدغر- فغياب القدرة على التفكير لا يعني الغباء، ولا يعني نقص المعرفة أو تدني مستوى التعليم، إنما يعني غياب التفكير (Thoughtlessness). وفي هذا الغياب بالتحديد، يكون الشكل الوجودي الوحيد للنكبة، لأنَّه يعني غياب الوعي، من ثم غياب الضمير، من ثم غياب القدرة على الحكم، والتردد الذي يؤدي إلى ضعف في اتخاذ القرار؛ فيصير المرء إمّعة. وما إن تتكاثر الإمعات حتى تتهيأ قاعدة واسعة وممنهجة للجريمة، وبتشارك الإجرام تتكوَّن شبكات ثقة إجرامية واسعة تراكم رأس المال الاجتماعي الأسود بصورةٍ سريعة، ولهذا الأخير قدرة عجيبة على إنتاج اللامعنى وإعادة إنتاجه، كما لرأس المال الاجتماعي الوطني القدرة العجيبة على جعل الديمقراطية تعمل، وعلى تعيين السعادة والأمان.
يحتاج إنهاء العنف في سورية إلى أمرٍ واحد، ولكنه مهم ومعقد يكثف أمورًا كثيرة، هو “الضمير”، والضمير سمةٌ حصرية للذين يفكرون، الذين يتقنون تصدير أحكامٍ معيارية على القيمة، ويتداخل مفهومي الوعي والضمير إلى حدٍ بعيد، حتى إنَّ بعض اللغات -مثل الفرنسية- لم تنجز الفصل بين هاتين المفردتين إلى اليوم.
الثورة السورية دشّنت زمنًا جديدًا
قيل عن الثورة السورية أولًا، إنَّها ريفية، ثم كان لـ “خروج الثوار من المساجد”، في البداية، جملة من التأويلات أبرزها: “أسلمة الثورة”، وهذا بدوره قاد جِدالًا ضدّ ذلك أو معه، فما رأيكم بهذا كلّه؟
أن نفكر بعد 2011 يعني أن نفكر بحرية، أي أن نتحرر من القصور، ونؤهل أنفسنا للفهم والعمل من دون وصاية أحد، أي أن نؤهل أنفسنا لحل مشكلاتنا، والأهم قبل ذلك أن نؤهل أنفسنا للقدرة على تمييز مشكلاتنا؛ فنحن بصورةٍ أولية مطالبون بحلّ المشكلات التي نمتلكها فحسب، لذلك نحن مطالبون بتأهيل أنفسنا لتحديد المشكلات التي نمتلك، فلا نكون مجبرين على التعامل والتفكير في مشكلاتٍ ليست لنا في زمانٍ لا يمنحنا ترف تبذير الوقت. ولنسأل: هل نمتلك ترف امتلاك سؤال: من أين يخرج المتظاهرون؟! هل هذه المشكلة ملكنا؟ ويصير هذا السؤال أيضًا سخيفًا، بالنظر إلى حقيقة واضحة، وهي أنَّنا نعرف بصورةٍ واضحة أنَّ من المتظاهرين الذين خرجوا من المساجد مَن هو مِن غير المسلمين، ومنهم غير المعنيين بالإسلام وبفكرة الدين والتدين كلها. أما عن هذه التخوم المكانية المفتعلة بصورةٍ منهجية فهي تفكيرٌ ينتمي إلى النظام وإلى ذهنية ما قبل 2011. فالنظام عمل على ترسيخ الحواجز المكانية بين السوريين بصورةٍ منهجية، واستمات في تقويتها، مثل داخل/ خارج، مدينة/ ريف، شرق الفرات/ غرب الفرات، إلى ما هنالك.
الأمر ببساطة كالآتي: أنت كائن زماني في تفكيرك، وتؤمن أنَّ الحياة تتغيَّر والقناعات تتطوَّر، وأنَّ الثورة السورية دشنت زمنًا جديدًا أنت تواكب جديده، فأنت مع الثورة وتنتمي إليها، سواء شاركت بها أم لا؛ وإذا كنت ممن توقف عندهم الزمن، ولا يزالوا يفكرون قبل 2011، مثل الذين يصرّون مثلًا أنَّ حافظ الأسد “قائد خالد”، أو مثل الذين يؤمنون أنَّ الأممية البروليتارية والأمة العربية والأمة الإسلامية حلول معقولة للمسألة السورية، ومثل الذين يعتقدون أنَّهم سيكونون أبطال الحرية المخلصين، فأنت حينها ضد الثورة، والثورة قامت ضدك. وكأنَّ الثورة بهذا المعنى تحرر الوطن من سطوة الكائنات التي لا تزال تعيش في الماضي، يعني من سطوة الكائنات الهووية (من هوية)، فكل من يعيش في الماضي يعيش هوويًا، ويظل عائقًا في وجه الانسجام الضروري بين الأمة بوصفها تعبيرًا ثقافيًا، والدولة بوصفها تعبيرًا سياسيًا، لأنَّ شرط الانسجام الأولي أن يعيش المفهومان (الأمة والدولة) في الحاضر، ويتم فهمها بموجب آلياته ونواظمه ونطاقات تفكيره المركزية والحقول المنهجية المنبثقة منها أو “الباراديمات” الراهنة.
ما الهدف الأساسي من تأليف كتابكم الأخير «مفهوم المواطنة.. أو صورة السيتزنيّة في المستقرّ الإيماني»؟ وماذا يعني هذا العنوان؟ وأيّ نوع من الموضوعات والمسائل والأدبيات يعالجها الكتاب؟
غلاف كتاب مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنيّة في المستقرّ الإيماني
الكتاب لضبط مفهوم المواطنة وفهمه، وسبر احتمال وجود معان مختلفة لـ “المواطنة”، لكنها تبدو واحدًا، فتؤدي إلى خللٍ بعد التفاهم. يعني -مثلًا- لا يختلف الإسلامي مع العلماني في إرادتهم أن تكون سورية “دولة مواطنة” -وفق التعبيرات الدارجة في حواراتهم- ولكن في العمق يفهم كلٌ من الطرفين “المواطنة” بطريقةٍ مختلفة جذريًا. الأمر الذي يعني أنَّ الاتفاق على دلالة هذه المفاهيم ومحاولة فهمها بصورةٍ عصرية أكثر ملاءمة للواقع هو فعلٌ ضروري، وقد أخذ الكتاب على عاتقة محاولة الخوض فيه. وبدا لنا أنَّ أصل تعدد الدلالات، ومن ثم سوء الفهم الناتج عن هذا التعدد، قد حصل -وما زال يحصل- على مستوى الترجمة، فكلمة “مواطنة” ليس لها وجود بوصفها ابتكارًا فكريًا عربيًا تمَّت تسميته لغويًا، بل هي اشتقاقٌ بدأ مسيرته اللغوية في بدايات القرن العشرين، ليكون ترجمةً لمعنى غربي لم يعرفه العرب. هو المعنى الذي تتضمنه كلمة (citizenship) الإنجليزية، أو (citoyenneté) الفرنسية، أو كلمة (staatsbürgerschaft) الألمانية، حيث تستمد هذه الكلمات جميعها أصولها اللغوية من الوضعية/ الحالة الفلسفية أو القانونية المُتضمنة -بطبيعة الحال- في كلمة (stātus) اليونانية أو (civitas) اللاتينية. في حين لا تدل لفظة “الوطن” -ومنها “المواطنة”- على أي دلالاتٍ من هذا القبيل، بل تُحيل على مكان الولادة والنشأة الأولى والانتماء إليه. ولا يقتصر مستوى الترجمة المقصود، في هذا الموضع، على اللسانيات، أو على مجرد النقل اللغوي، بل هو مشروعٌ، يمتد ليشمل اللغة والفلسفة والفكر والمعرفة، ومن ثم، لا تسلم من تأثيره مفاعيل الحاضر بالضرورة، ولا مفاعيل الماضي أيضًا بوصفها مفهومات تتبع لمنهجية فاهمٍ ينتمي إلى الحاضر.
وبدا لنا أنَّ المنطق يدفع بنا إلى اتجاهٍ مغاير لما جرت عليه العادة، في مثل هذه الحالات. يدفعنا إلى اتجاه يستند إلى منهجية الابتكار، والابتكار مُمكنٌ دائمًا، بدلًا من الإنقاذ أو الإصلاح أو التصالح، الذين لا يكونون دائمًا في دائرة المُمكن، وخصوصًا إذا ناؤوا بمغالطات الماضي ومكبلات العيش فيه وبدلالته؛ هذا إضافة إلى أنَّ الابتكار يتضمن “إنقاذًا”، في أحد أهم معانيه، على مستوى النتيجة النهائية الكلية والمجردة.
ما بدا لنا في العمق هو الحاجة إلى استشكالٍ جديد، يتعلق بوضع صلاح هذه اللفظة موضع الفحص الدلالي والفكري. نقول “استشكال” لأنَّه لم يكن إشكاليًا في الكم الأعظم من البحوث التي أُنجزت وكُتبت في فهم “المواطنة”، أو نقول إنَّه لم يكن إشكالًا رئيسًا، إذ آثرت الأغلبية الساحقة من البحوث أن تقوم بتهميشه، ومن ثم، القبول بالكلمة كما هي، تسليمًا بأمرٍ واقع. هو، إذًا، استشكالُ صلاحِ مُفردة “مواطنة”، وصلاح عنوان “المواطنة”، ومدى ملاءمته للمُتون التي كُتبت تحته. وقد قادنا هذا الاستشكال إلى نفي وجودِ مفهومٍ ناجزٍ وواضحٍ لـ “المواطنة”، لذلك غيَّرنا منهجية المُقاربة الكلاسيكية إلى أخرى تقوم على تحليل مقولة “المواطنة” إلى مفهوماتٍ أولية، كان يبدو كل واحدٍ منها مطابقًا لها. ثم استنادًا إلى هذا النفي منحنا هذه المقولة وجودًا مفاهيميًا جديدًا، وذلك عن طريق إعادة تركيب هذه المفهومات التحليلية (العوامل الأولية)، ولكن وفق منهجٍ جديدٍ يقوم على تعدد النطاقات المركزية في التفكير، وعلى ابتكار نسق باراديمي جديد تعمل فيه لفظة “المواطنة” وفق منظومةٍ مُبتكرة. واقتضى هذا النهج أيضًا أن نقوم بإنضاجٍ نظري لمفهوم “المواطنة” الغربي، أو الأدق لما اعتدنا على أن نسميه “مواطنة”، وهي بتقديرنا تسمية غير دقيقة، استعضنا عنها في هذا البحث بكلمة “سيتزنيّة”. و”السيتزنيّة” هي ترجمة حرفية لكلمة (citizenship)، رأينا أن نقوم بتعريبها وتصريفها، والتعامل معها لغويًا على غرار كلمة “ديمقراطية” مثلًا؛ فقمنا بتقديم هذه “السيتزنيّة”، وفق مسارٍ يقوم على إنضاجٍ نظري، لا يخلو من الاجتهاد على مستوى تقديم الفكرة، إذ قمنا بإعداد نموذج ذهني للفهم والتحليل، يعمل كأداة مقاربة وإنضاج أسميناه “دارة السيتزنيّة”، وقد أنجزنا ذلك من منظورٍ أمكننا لاحقًا من أن نطرح مادة نظرية للتحوُّل من الرعوية إلى السيتزنيّة في ما أطلقنا عليه “نظرية التسامي”.
ندَّعِي أنَّ النهج الذي سارت فيه مقاربات هذا الكتاب وطروحاته، يُسهم في تصويب الاضطراب الدلالي الناتج من استخدام لفظة “مواطنة”، ويعطيها صلاحية جديدة على المستوى النظري في أقل التقديرات. ويمكن استخدام هذا النهج لصناعة ما يمكن أن يكون أنموذجًا منهجيًا، ينفع في مقاربات مفهومات أخرى مشابهة مثل مفهوم الدولة أو مفهوم الشعب.
نحت الكتاب مصطلحات أكثر دقة لتحلّ مكان “المواطنة” في حقبةٍ زمنية معينة، فصار للمواطنة عوامل أولية واضحة بين أيدينا، ومن هذه المصطلحات: “الممادرة قبل الإسلام” (من تشارك المدر أي الطين)، و”الممادرة الإسلامية” لتوصيف ينتمي إلى بُعيد الإسلام، و”المناهجة” (المشاركة في اتباع نهج الرسول في فترة الخلافة بعد أبو بكر)، والرعوية في الدولة السلطانية المستمرة منذ معاوية إلى يومنا هذا. مع المقاربة الجديدة لمفهوم “السيتزنيّة” وسياقاته التاريخية والاجتماعية، تمكّنا من تكوين تصوّرٍ باراديمي لاستخدام “المواطنة”، من دون نسفها ومن دون اضطراب دلالي يعطي نتائج كارثية.
بالعودة إلى كتابكم «في ضوء الألم.. تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري»، ما الذي دفعكم إلى تأليفه، وما الرسائل التي أردتم إيصالها إلى القرّاء؟
«في ضوء الألم..»، كتابٌ أنجزته على دفعات، فيه قسمان: الأول عن النظام والمعارضة، وفيه توصيف واقع النظام والمعارضة بصورةٍ موضوعية، بوساطة نصّين لهما طابع المثال المؤدي إلى تكوينِ انطباعٍ مقارب لذهنية النظام والمعارضة في سورية؛ وفي القسم الثاني استخدمت منهجيتي الاشتقاق والصيانة، “الاشتقاق” في سياق التفكير في الدولة السورية بين الإسلام والحداثة، ومحاولة تصوّرِ نموذج ذهني لإسلام وطني ديمقراطي، والصيانة في سياق التفكير في المشروع الوطني السوري مقابل الابتذال الحاصل. وقد أُنجزت نصوص هذا العمل، ونُشر كلٌ في حين إنجازه، إلى أن جمعناها في النهاية لتكون بمجملها مقدمة تفكيرٍ في بنى الاجتماع السياسي السوري.
«في ضوء الألم..»، إحالة على منهجية الكتاب، وزمن التفكير في موضوعاته، الذي يؤثر بالضرورة بنوعية وماهية هذا التفكير. وللتعريف بالكتاب أكثر أستعير شيئًا من مقدمته:
أن نفكِّر ونحن نتألم يعني أن نفكِّر نيابةً عن الإنسان في كل مكان، وأن نساهم من طريق توصيف آلامنا وتحليلها، بتصوّرِ مستقبلٍ أفضل للجميع، والتصوّر بدايةٌ صحيحةٌ لكل صورةٍ جميلة. ولأنَّ الألم يحمل صاحبه على وضع معايير وضمانات نظرية بحيث لا يتكرر الألم ومسبباته في أي مكانٍ آخر من العالم؛ فأن نفكر ونحن نتألم يعني أن نفكر بالنيابة عن البشرية في الأجيال المقبلة، وفي المستقبل عمومًا.
إذًا، أن نفكر في ضوء الألم يعني أن نفكر في ضوء الاختلاف المُفضي إلى السلام، ويعني أن نفكر في الحميمية الوطنية على عتبةِ وطنٍ حجَّرها الألم: في حميميةِ الوحدةِ الناتجةِ من تمزق الاختلاف وتوحده من دون أن ينصهر. وتكفي نية التفكير في الضوء -أي ضوء- لنُدرِّب الباطني فينا على فن الانحسار وموهبة التنحي، لأنَّ الضوء كاشفٌ، وفي الكشف هدايةٌ، وتوضيحٌ، وعلانيةٌ لا تعترف بحدودِ الفضيحة؛ فالتفكير في الضوء -عمومًا- تفكيرٌ مُعلن، مضادٌ للباطنية، لا يعيش معها ولا يقبل بآلياتها؛ لذلك أن نُفكِّر في الضوء يعني أن نكتب وننشر: نكتب لنلتزم ونُنظِّم، وننشر لنحاور ونتحاور؛ فكلُ فكرةٍ غير مكتوبةٍ في زمن الألم، وكلُ فكرةٍ سريةٍ، وكلُ حوارٍ غير منشور أيًا كان موضوعه، نشاطٌ في الظلام: في عتمة الألم نحو الجهة المؤدية إلى التيه.
بالكتابة والنشر والحوار ندخل إلى الفضاء العمومي، وفي الضوء -فحسب- يكون التفكير عموميًا، عموميته من علانيته، ووطنيته من عموميته؛ فالتفكير في الضوء سمةٌ وطنية أصيلة بالاشتراط. ومع أنَّ التفكير في الضوء تفكيرٌ ينبني على الكتابة والنشر، إلَّا أنَّ التفكير في ضوء الألم عملٌ غير نخبوي بالضرورة، بل إنَّه عملٌ عمومي: لا تحكمه النُخب، ولا تحكم عليه، بل تشارك فيه فحسب. ونذهب أبعد من ذلك، إلى حدود القول إنَّه تفكيرٌ لا يسوِّغ وجود نخبة، ويتنازل حامله عن النخبوية صفةً ولقبًا وتصنيفًا، تنازلًا كالإيمان: يُصدِّقُه بالجنان ويقرِّه باللسان، ويعمل بموجب هذا التنازل عملًا واضحًا غير مستترٍ.
والتفكير في ضوء الألم كرامة، لأنَّه ناتجٌ من شعورٍ داخلي باستحقاق الاحترام يُترجم إلى إيمانٍ بحقِّ الآخر في اعتناق أفكارٍ مختلفة؛ ولذلك هو تفكيرٌ يُترجم إلى تواضعٍ، وإلى احترامِ الآخر وحقِّه في استحقاق الاحترام بوصفه إنسانًا وبوصفه غايةً في ذاته، وليس وسيلةً لغايات الآخرين.
نكون مؤهلين للتفكير في ضوء الألم بقدر ما نكون معتدلين وإيجابيين، ومن ثم عموميين؛ فالألم الذي لا يؤهل حامله للعمومي لا يمكن التفكير في ضوئه. وأيضًا، التأهيلُ للتفكير في ضوء الألم تأهيلٌ للعمومية، لأنَّ الألم يسبب إدراكًا عميقًا للحاجة إلى الحوار العمومي، بوصفه مجموعةَ المناقشات العامة المفتوحة والحرة والعلنية التي تعترف بالجميع، اعترافًا يُسكِّن الألم ثم يداوي أسبابه؛ وعلنية هذه المناقشات والحوارات هي بالتحديد ما تكسبها صفة العمومية.
بالاستناد إلى ذلك؛ نقول إن الألم طريقٌ من طرق التأهيل للعمومي، والعمومي بلسمُ الألم الشافي، لذلك فإنَّ التفكير في ضوء الألم هو خلق البلسم من الألم نفسه، هو دواءٌ بالتي كانت هي الداء. الألم سلبي، والتفكير في ضوء الألم إيجابي: الألم انتقام، والتفكير في ضوء الألم عدالة؛ والألم شقاقٌ، والتفكير في ضوء الألم اشتقاق؛ والألم حرب، والتفكير في ضوء الألم سلام، والألمُ ابتذال، والتفكير في ضوء الألم صيانة؛ والألم تيه والتفكير في ضوء الألم وطن. التفكير في عتمة الألم فعلٌ باطني وعصبوي، يحيل على وعي أيديولوجي، والتفكير في ضوء الألم فعلٌ علاني ووطني يحيل على وعي وطني مقارب.
في الانتقال معكم للحديث عن الوضع السياسي السوري الراهن، نسألكم بداية: أما تزال هناك إمكانية لحل سياسي للقضية السورية، تحت رعاية الأمم المتحدة، وفق التفويض الممنوح للمبعوث الدولي، ووفقًا للمرجعيات الدولية و”بيان جنيف” وقرارات مجلس الأمن، خصوصًا القرارين 2118 و2254، وأن يكون ذلك ضمن جدول زمني واضح؟
بتصوّري، هذا الطريق صعب التحقّق لسببين: الأول هو غياب طريقة تفرض على النظام هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات؛ والثاني غياب أي نوع من القوة السياسية عند المعارضة تمكّنها من تغيير موازين القوى لصالح كفة هذا الحل. ولكن هذا لا ينفي أنَّ القرارين 2118 و2254 قرارات دولية، وينبغي التعامل معها كذلك حتى مع الإيمان بضعف إمكانية تحقُّقها في ضوء هذا الواقع القائم.
أميل إلى التفكير في هذا الموضوع من طريق طرح سؤالٍ مهم: ما الذي نتملك تغييره بأيدينا من دون مساعدة الدول، بوصفنا سوريين، والذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة إمكانية تطبيق هذه القرارات وزيادة الاهتمام بحلٍ عادل للقضية السورية وثورة الشعب؟ ولا أجد جوابًا إلَّا ويمرّ من تغيير تمثيل الثورة السورية سياسيًا، فالمعارضة، بهذه الصورة وهذا الأداء، غيرُ ملائمة لتمثيل السوريين، فضلًا عن أن ماهيتها لا تتناغم مع جوهر الصراع السوري لكن على العكس فإنَّ ذهنية التفكير السياسي فيها لا تنتمي إلى روح الثورة ولا تعبّر عن طموح السوريين ومطالبهم. وفي الحقيقة إنَّ 2118، و2254 والقرارات الدولية كلها، ليست الأفق الذهني الوحيد لممارسة العمل السياسي في سورية، هي خيارٌ من خيارات ينبغي سبرها والتفكير فيها، وأدعو إلى التساؤل وتذكير أنفسنا بالتساؤل الآتي: إلى متى نظل منتظرين للتوافق الدولي لتطبيق القرار 2254؟ لنتذكر مثلًا أنَّ عشرات القرارات حررت لصالح الفلسطينيين لم تغيّر من واقع القضية، ولم يتم تطبيقها، مثلًا القرار 476 عام 1980 أكد على ضرورة إنهاء الاحتلال المُطوَّل للأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، ومنها القدس! هل نعتقد أنَّنا -السوريين- سنصلح هذه المنظومة الدولية مثلًا! ينبغي التفكير في طريقٍ آخر إذًا، يبدأ من مشروع سوري تحرري يستند إلى السلطة التواصلية السورية، ويحرر فكرة الحرية من المعارضة السورية؛ فبعد هذا الألم كله، صار مسوغًا فتح نقاشٍ عمومي في فكرةٍ مفادها أنَّ المعارضة صارت إشاعةً تسبب إرباكًا، وفي أحسن الحالات، نقول إنَّها لا تنفع، وينبغي تكوين مشروع تحرري مكانها. ولكن السؤال عن كيفية تكوين جماعة التحرير السورية الوطنية ليس سؤالًا سهلًا، ولا تحيل الإجابة عنه على فكرة مجردة عن الحركات التحررية فحسب، ولكنها أيضًا إجابةٌ مُحددة، بوصفها إجابةً سوريةً مرتبطةً بتاريخ سورية وبحاضرها. وهي بتصوّرنا إجابةٌ تنتج من جهدٍ جماعي، فهذا النوع من التكوين إبداعٌ تواصلي بالدرجة الأولى، ونتيجة حوارٍ عمومي واسع، وليس لأحدٍ حقَّ الادِّعاء بامتلاك وصفة جاهزة له. ولكن ينبغي البدء في بلورته بروحية الثورة ومطالبها وما تتوق إليه.
أخيرًا، هل تستطيعون قول شيء عن مستقبل سورية القريب؟ وكيف تتصوّرون أن تكون سورية ما بعد سقوط النظام؟
لم أمتلك ترف امتلاك الوقت الكافي لتصوّر سورية بعد سقوط النظام، ولكن الأكيد أنَّ سقوط النظام سيكون نقلةً نوعية واعدة إلى مستقبلٍ أفضل، وإلى بداية التاريخ السوري الجديد. ويبدو أن الطريقة التي سينتهي بها هذا النظام ستؤثر أيضًا في مشهد ما بعده، بصورةٍ أو بأخرى. أما الحديث عن المستقبل، فمرهونٌ بتقديري ببناء مجتمع سياسي سوري حقيقي خارج النظام والمعارضة معًا، يأخذ على عاتقه مشروع السوريين التحرري، ويمثل السوريين، ويراكم لهم رصيدًا سياسيًا جديدًا يدار بعناية.
مركز حرمون