«يا غريب كون أديب»/ بكر صدقي
هناك جوقة من السوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي، يكررون هذه «الحكمة» كلما تعرض سوريون في تركيا لاعتداءات جماعية بدوافع عنصرية، أو معاداة الأجانب\ الأغراب. هذا ما حدث مجدداً بعد أحداث منطقة آلتنداغ في العاصمة أنقرة التي بدأت بمقتل شاب تركي وجرح آخر طعناً بالسكين من قبل شاب سوري، وأدت إلى انفجار احتقان عدد كبير من الأتراك ضد عموم السوريين في تلك المنطقة.
الدافع وراء تحميل ضحايا الاعتداءات العنصرية السوريين مسؤولية تلك الاعتداءات هو مزيج من الخوف وعرفان الجميل. فأما الخوف فسببه الوضع القانوني الملتبس للسوريين في تركيا، فهم ليسوا لاجئين بالمعنى المعروف، ولا مهاجرين، ولا نازحين. وضعهم القانوني هو «الحماية المؤقتة» على رغم مرور عشر سنوات على الموجة الأولى من الفارين من حرب النظام على السوريين، في المناطق الشمالية المحاذية للحدود التركية بصورة خاصة. ويخضعون لتقييدات كثيرة في الحركة والعمل وغيرها من شؤون الحياة. لديهم خوف دائم من ترحيلهم إلى داخل الأراضي السورية، كما يحدث باستمرار في حالات فردية وكما حدث بصورة أوسع في صيف 2019، في أعقاب الانتخابات المعادة لرئاسة بلدية إسطنبول. كما أن وزارة الداخلية التركية تكرر القول باستمرار أن أي أجنبي يرتكب مخالفة قانونية سيتم ترحيله إلى بلده الأصلي، والمقصود بالأجانب هنا السوريين بصورة خاصة، فعددهم يقارب أربعة ملايين، ومضى على وجودهم في تركيا سنوات كثيرة، أنجبوا في غضونها أكثر من نصف مليون مولود جديد.
أما عرفان الجميل فيعود إلى أسباب سياسية وأخرى إنسانية من غير أن يكون هناك فصل قاطع بينهما. هناك اعتقاد شائع بأن «تركيا وقفت مع الثورة السورية ودعمتها» ولا يطرح أصحاب هذه القناعة أي سؤال عن سبب تلك الوقفة وذلك الدعم، بل يفضلون عطفها على حسن نوايا وطيبة الحكومة التركية و«دوافعها الإنسانية». فإذا حدث نقاش حول ذلك برز تبرير جديد مفاده أن كل دول العالم تنطلق من مصالحها، فلا عيب في أن تسير تركيا وفقاً للسنة نفسها. ويعود السبب الآخر للشعور بالامتنان إلى أن تركيا احتضنت 4 ملايين سوري، وهو الرقم الأعلى بين دول العالم التي استقبلت لاجئين سوريين، إضافة إلى أن الظروف التي يعيش فيها سوريو تركيا هي الأفضل بالمقارنة مع دول أخرى كلبنان والأردن مثلاً. حتى حين تلجأ السلطات التركية إلى التضييق على السوريين أو ترحيل بعضهم، تجد الجوقة المذكورة نفسها تبرر ذلك وتلقي بالمسؤولية على السوريين أنفسهم «لأنهم يتجاوزون أخلاقيات الضيوف» فيرتكبون مخالفات وجرائم. ومن هنا جاء تعبير «يا غريب كون أديب».
ويزداد تسييس الموضوع من خلال تحميل فاعل آخر مسؤولية الاعتداءات العنصرية ضد السوريين، وهو المعارضة التركية التي يطلق قادتها تصريحات مناوئة للاجئين السوريين ويطالبون بإعادتهم إلى سوريا. الواقع أن هذا صحيح بصورة عامة، وأكثر ما ينطبق على حزب الشعب الجمهوري (العلماني) والحزب الخيّر (القومي) اللذين يتسابق قادتهما على إطلاق تصريحات من النوع المذكور بدوافع انتخابية وأيديولوجية، كما في إطار معارضة سياسات الحزب الحاكم في كل المجالات.
غير أن التدقيق في ظروف اعتداءات أنقرة تظهر لنا جوانب أخرى غائبة عن معرفة السوريين، وهي أن الأوضاع الاقتصادية الحرجة في تركيا تضغط باطراد على أعداد أكبر من الطبقات الدنيا في المجتمع التركي، الأمر الذي يشحن النفوس ضد أسهل الأهداف، أي الغرباء وأكثريتهم الساحقة من السوريين. النقطة الثانية الخاصة بأحداث أنقرة هي أن الحي الذي جرت فيه يعتبر من القلاع الانتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي فاز هناك في جميع الانتخابات في السنوات السابقة، الأمر الذي يعني أن الناخب هناك لا يصوت لمصلحة أحزاب المعارضة التي يؤجج قادتها المشاعر العدائية ضد الأجانب أو السوريين بالتخصيص، بل لمصلحة السلطة التي دعا أركانها وإعلامها إلى التهدئة بعد الأحداث. بالمقابل رأينا أن مرشحة الحزب الخيّر لرئاسة بلدية منطقة «فاتح» التي كان شعارها الانتخابي «لن نسلم منطقة فاتح للسوريين» خسرت تلك الانتخابات. القصد هو ألا نستسهل الربط بين تصريحات أو شعارات الأحزاب التركية ودرجات الاحتقان الاجتماعي في المجتمع بصورة سطحية مبسطة.
كذلك ليست المعارضة التركية، وبيئتها الاجتماعية، كتلة واحدة صماء في العداء للأجانب. فنحن نلاحظ في وسائل الإعلام تيارات ديمقراطية معارضة للحكومة ومتعاطفة مع اللاجئين السوريين، والغرباء عموماً، تطالب الحكومة بتأمين وضع قانوني أفضل من وضع «الحماية المؤقتة» وتطوير سياسات استيعابية من حيث الحركة والعمل والتعليم والإدماج الثقافي، واتباع الشفافية في شؤون اللاجئين بدلاً من تكرار تصريحات غامضة من نوع أن «تركيا أنفقت على السوريين أكثر من 6 مليارات دولار» (الرئيس أردوغان في مناسبات عدة) وهو ما يسهل من تطوير معارضين قوميين لدعاواهم ضد الوجود السوري في تركيا.
في النتيجة، سوريو تركيا يشكلون مجتمعاً كبيراً لا يمكن تصور خلوه من المشكلات أو من احتكاكات مع المجتمع المضيف الذي لا يخلو بدوره من كل أنواع الناس والأفعال. وتقول أرقام وزارة الداخلية التركية إن نسب الجريمة بين السوريين هي أقل بكثير من نسبتها بين الأتراك. وفي كل الأحوال تعالج الجرائم أو المخالفات بصورة فردية وفقاً لقوانين الدولة المضيفة، ولا يصح تحميل كل السوريين ما قد يرتكبه هذا الشخص أو ذاك منهم.
«يا غريب كون أديب» شعار مازوشي، يمكن فهم دوافعه لدى عموم سوريي تركيا. أما أن ينادي بذلك كتاب مقالات رأي، فهذا محزن بحق.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————
السوريون في تركيا ورقة ضغط/ بشير البكر
عاد ملف اللجوء السوري في تركيا إلى التداول على “السوشيال ميديا” في الآونة الأخيرة. وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي موجة من التحريض، من خلال بثّ معلومات مضلّلة، تهدف إلى إثارة الشارع التركي ضد أربعة ملايين لاجئ سوري، دفعتهم وحشية النظام إلى ترك بيوتهم، والهرب باتجاه الدولة الجارة التي استقبلتهم، ووفرت لهم ملاذا آمنا يسمح لهم بحياة آمنة وكريمة، ومنحتهم تسهيلاتٍ في العمل وامتيازات في الصحة والتعليم لم يحصلوا عليها في بلدان الطوق العربية، مثل لبنان الذي عامل اللاجئين السوريين على نحوٍ لا يرقى إلى مستوى الأواصر الأخوية، وتاجر بورقتهم في البازار السياسي الدولي، حد توظيفها في صالح النظام السوري، كما ضغط من أجل إجبار لاجئين على العودة إلى سورية من دون ضمانات، ما أدّى إلى اختفاء بعضهم، وانقطاع أخبارهم بعد مراجعة للأجهزة الأمنية.
تأكد خلال هذا الصيف أن حال اللاجئين السوريين في تركيا ليس على ما يرام، بعد حصول أخطاء قام بها سوريون، وجرى تضخيمها من المعارضة وبعض وسائل الإعلام والتواصل التركية. وهناك إشارات قوية إلى أن الوضع سوف يتفاقم، ويزداد سوءا في الفترة المقبلة، لعدة أسباب. الأول، الاستثمار السياسي للجوء السوري من المعارضة، وأوساط ذات أجندات دولية. وتكرّرت، في الأسابيع الماضية، دعوات زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، كليجدار أوغلو، إلى الحكومة من أجل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم. ومن الواضح أن أوغلو عازم على التصعيد حتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2023. السبب الثاني، عدم سن قوانين صارمة وسياسات لتوعية اللاجئين، وتشجيعهم على الاندماج وعدم التكتل في “غيتوهات” تخلق حالات استقطاب واستقطاب مضاد. والسبب الثالث، الإهمال الدولي للاجئين، وعدم متابعة شؤون حياتهم، والاكتفاء بقدر محدود من المساعدات، في وقتٍ تعمل دولٌ بعينها لتوظيف ورقة اللاجئين ضد الحكومة التركية، لابتزازها في قضايا داخلية.
إزاء وضع من هذا القبيل، يجدر التفكير بحلولٍ دائمة ومناسبة وممكنة، كون ملف اللاجئين سيبقى مفتوحا، طالما أن المسألة السورية لم تجد حلها النهائي. والأمر الجدير بالتفكير مساعدة الدولة التركية من أجل تخفيف العبء عنها، وهذا شأنٌ تقع مسؤوليته على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والحكومة السورية المؤقتة، من أجل وضع مشروع جاد لاستيعاب جزء من اللاجئين في الداخل السوري. ويمكن التحرّك لدى الأمم المتحدة والدول المانحة، أجنبية وعربية، للنهوض بهذا المشروع الذي يوفر السكن وفرص العمل وضمانات أمنية بأن لا يحتاج النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون هذه المناطق. ومن شأن هذه الخطوة أن تؤمن عودة ثلثي اللاجئين من تركيا، وخصوصا الذين فرّوا بسبب الحرب، وفقدوا منازلهم ومصادر دخلهم. والمسألة الثانية التي تستحق الاهتمام هي القيام بحملةٍ ذات مستويين. الأول باتجاه اللاجئ السوري الذي يجب أن يدرك أهمية احترام قوانين البلد المضيف وعاداته، وأن يتصرّف على نحو يحد من حملات العنصرية. والاتجاه الثاني هو الداخل التركي، بأحزابه ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام. وعلى المؤسسات والهيئات السورية أن تخاطب الأتراك بكل حساسياتهم، وتقلع عن الاتكال على الدولة التركية، وبعض قوى المجتمع المدني التي لا توفر جهدا من أجل الرد على الحملات. وعلى الرغم من أن التعاطي الرسمي التركي مع اللجوء السوري يتم وفق القانون، وفي سياق احترام التاريخ المشترك وعلاقات حسن الجوار، فإن موقف الدولة التركية يحتاج إلى تعزيز من الهيئات السورية. وفي حال عملت هذه الهيئات في هذين الاتجاهين، فإن القسم الأكبر من المهمة يتم إنجازه. ومن دون ذلك، سيتفاقم الوضع على نحو ضارّ، بعد أن تطور من حملات موسمية إلى ورقة ضغط، تلعبها أطرافٌ محلية ودولية لتصفية حسابات ضد تركيا.
العربي الجديد
————————–