أنْ تُقنعَ السوريَّ أنّه ليس عبداً/ عبير نصر
.. من عظائمِ الأمور حقاً، وإن بلغ من الانتشار حدّاً يدعو إلى العجب أكثر مما يبعث على الحزن، رؤيةُ الملايين من السوريين يستمرّون في خدمةِ مشروع الطاغية، الذي أعاد صياغةَ الروحِ المهزومة أساساً، وفق منظومةٍ جديدةٍ من القيم التي تمخّضت عن العشريةِ السوداء، حريصاً على تعزيز أخلاقِ العبيد في رعيته، وتحطيمِ فضائل النفس البشرية، لتجديدِ الهالةِ الافتراضية حول العرش المقدّس. العنفَ الظاهر انتهى اليوم نسبياً، لكنّ الكامن منه تضخّم حتّى تغوّل، فأنتجَ مناخاً من الإجرام والتشظّي الاجتماعي، أتاح المجالَ لولادةِ شكلٍ مستجدّ من أشكال العبودية السورية، رسّخها استسلام المجتمع السوري ككلّ، بعد ليّ عنقِ ثورته، ووقوفه حائراً أمام أحواله، متردّداً في خياراته، ومشوّشاً في انتماءاته، مليئاً بالهواجس، وعدم الاطمئنان تجاه المستقبل. والعبوديةُ ليست وليدةَ الأوضاع الراهنة بالتأكيد، إذ مُهّد لها منذ عقودٍ خمسة، عندما تعامل النظامُ السوري من منظورٍ ضيّقٍ للمصلحةِ الوطنية، ووضعَ المرتكزات الرئيسية للسياسةِ الداخلية والخارجية، انطلاقاً من قراءته المتأنية لأوضاع البلاد، منذ نهاية الأربعينيات وحتى بداية ستينيات القرن الماضي، والتي ارتكزت على استراتيجيةِ الانقلاباتِ العسكرية المفاجِئة، وسرعةِ تغيّر القادة على كرسي السيادة. حققت هذه الآلية شكلاً من أشكالِ العبوديةِ غير الصريحة. ظهرت بوادرُها الأولى في المحافظةِ على ركودِ الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وشللِ الحياة العامة.
وفي الداخل السوري، تسوءُ الأمورُ أشدّ السوءْ، ويهوى المُجتمَعُ هوياً مُبيناً، فيعجزُ السوريّ عن الانتقاد والاستفسار، وحتّى عن الكلام. يتعَفنّ لسانه في حلقه، إلى أن تُغادرَ القيمُ العالية نَفسَه المُستَرَقّة. وأهمّ ملامح العبودية تكمن في وجود فئة “المطبّلين”، تسبّحُ بحمد الحاكم، وتقدّسُ أقواله وأفعاله. وعندما يرمي الطاغيةُ بالفتاتِ إليها، لا يكتفي أصحابها بما يغنمون منه، ولا بدوامِ طاعتهم له، بل إنهم يستبقون رغباته، ويحدسون ما يريد، حتّى قبل أن يفصحَ هو عنه. وخروج لونا الشبل، المستشارة الخاصة في رئاسةِ الجمهورية، لتُدلي بتصريحاتٍ صادمةٍ، في آخر ظهورٍ لها بعد سنواتٍ من الغياب، وخلال مقابلةٍ إعلاميةٍ على قناةِ الإخبارية السورية، لتفسيرِ الخطاب الذي ألقاه الأسد خلال مراسم أدائه اليمين الدستورية لولايةٍ رئاسيةٍ رابعة، لا شكّ يمثّلُ أفظعَ مظاهر الاستعباد الإعلامي، بل وأبشع وجوه القهر السوري. وبحكمِ انتماء الشبل إلى فئةِ مطبلِيّ الطاغية، المنفصمة عن الواقع المأساوي بطبيعة الحال، ما انفكّت تكرّر مقولةَ رأس النظام عن عدم امتلاكه “العصا السحرية” لتغيير الواقع، وتدعو السوريين إلى ما سمته “الصمود الإيجابي” وليس “السلبي”، لتستفيضَ في التفريق بينهما. هي الصامدة بماركاتٍ عالمية، ظهرتْ في خطابِ القسم ترتدي ساعةً من نوع رولكس، كما ارتدت فستاناً من ماركة غوتشي. سبقتها إلى ذلك بثينة شعبان، مستشارة الأسد للشؤون السياسية والإعلامية، فلم تغبْ عن الذاكرةِ بعد محاضراتُها المملّة والممجوجة عن الصمود والتصدّي، كذلك تصريحها بأنّ الاقتصادَ السوري تحسّن بنحو خمسين مرّة عمّا كان عليه عام 2011، في وقتٍ وصلتْ فيه نسبةُ الفقر إلى 93% من السوريين، بينهم نحو 60% في حالة فقرٍ مدقع، غير قادرين على تأمينِ الحدود الدنيا من الطعامِ للفرد الواحد. متناسية حجم ثروتها الهائلة، والمزايا الاستثنائية التي يتمتع بها أبناؤها.
على هذا، العبوديةُ في سورية ثمرة طبيعية لمناخاتِ الاستبداد السياسي – الأمني، وغياب الدولة عن القيامِ بوظائفها في حقلِ الخدمات والتنمية، وحمايةِ المواطنين، فظهرت أشكالٌ من الطأطأة، والانكفاء باتجاه بنى مجتمعية وأيديولوجية إلى ما قبل نموذج الدولةِ الديمقراطية الحديثة. وتبدّت ظواهرُ العبودية بشكلٍ واضح إبّان الحرب السورية، منها، على سبيل الذكر، ظاهرةُ التشرّد والتسوّل بالآلاف. إقحامُ الأطفال في أتونِ الحرب بطرقٍ مختلفة، أو في سوق العمل مبكّراً. ارتفاعُ مؤشّر الاغتصاب والعنف الجنسي الذي ارتُكب ضد النساء والفتيات في أثناء مداهمات المنازل وفي المعتقلات. بالإضافة إلى تفشّي ظاهرة الدعارة في شتّى المدن السورية، وزواج القاصرات في مخيماتِ اللجوء بهدفِ تأمين لقمةِ العيش. المتاجرة بملفّ المعتقلين المغيبين قسراً، واللاجئين، والنازحين، وحتّى الضحايا أنفسهم. كذلك ظاهرة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي التي مارسها النظام السوري وحلفاؤه. ولعلّ أكثرَ أشكال العبودية وضوحاً للعيان طوابيرُ الذلّ الطويلة أمام الأفران، ومنافذ الغذاء، ومصادر الوقود والغاز، وانقطاع الكهرباء أزيد من عشرين ساعة يومياً في بعض المناطق. فإبداع النظام السوري لم يتوقف يوماً في ابتكار أنماطِ عنفٍ سياسي كامن، من خلال استصدار قرارتٍ وقوانين تعسفيةٍ يصبح الإنسان بسببها غيرَ آمنٍ على الإطلاق، ولا يكونُ محمياً من الفقرِ ولا من مجاعةٍ مُحتملَة.
في الواقع، التزمتْ كلُّ الدول تقريباً بالقضاءِ على العبودية، من خلال تشريعاتها وسياساتها الوطنية، وتوفيرِ شبكات الأمان لسكانها، وملاحقةِ المجرمين الذين يشاركون في هذه الجريمةِ البشعة، بالاستناد إلى دعمِ القطاع الخاص ومشاركته، والمجتمع ككلّ. وفي سورية التي تفتقد أدنى مقوماتِ الحياة السياسية الطبيعية، حيث تُحاصَر مؤسساتُ المجتمع المدني، وتُزَج النخبُ الوطنية في السجن، وتنعدم فرصُ التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى ترهّلِ المؤسّسات الإدارية والقانونية، وتفاقمِ التوترات المجتمعية، وتراجعِ إرادة الأبناء في الحياة المشتركة، واستسلامهم لحالةٍ من اللامبالاة، فينهشهم الخوف من سطوةِ الآلة الأمنية المتغوّلة. في وقتٍ تصبح فيه السياسةُ الخارجيةُ فاقدةً للقوةِ المعنوية الضرورية، لكي تكونَ مصدرَ قوّةٍ واطمئنانٍ لأهل البلد. وسط كلّ هذه المعطيات الكارثية، من الطبيعي أن تكونَ سورية بؤرةً خصبةً لتفشّي ظاهرة الرقّ، بلا رقيبٍ أو حسيب. ففي نسخة عام 2018 من تصنيفِ المؤشّر العالمي للعبودية، حلّت سورية في المرتبة الأولى عربياً من حيث تقدير انتشارها. أما عالمياً فحلّت في المرتبة الرابعة من بين 167 دولة. واعتمد المؤشّرُ في نتائجه على معايير أساسية منها: قضايا الحوكمة، ونقص الاحتياجات الأساسية، وعدم المساواة، والمجموعات المحرومة، وآثار الصراع.
الدولةَ السورية فريدةٌ في نمطِ حكمها القائم على تداخل الأمنِ بكلّ من السياسة والاقتصاد، حتى وصل الأمرُ إلى التغلغلِ في عمقِ وجدان المجتمع وذاكرته وثقافته. يعيش السوريون وقد عدموا الجرأة، وطُمست عيونهم وأقفلت حلوقهم، فلا يملكون إقداماً، ولا يستطيعون المقاومة. وما رُؤيَ مثل الطغيان منبتاً للرياء، فمتى وُجد الحاكم المستبدّ، أحيط بمن يتزلّف إليه بالقول الفاسد الذي يبارك الباطلَ ويشرعن الظلم، حتّى يغدو التملقُ هو العملة المتداولة بين الجماهير المستعبَدة، فتنقلب الحقائقُ في أذهان الناس، وتصير الطاعةُ العمياء، والسكوتُ عن الظلم والنفاق، تصير كلها من ضروبِ الحكمةِ والفطنةِ والذكاء، بينما أهلُ الإنصاف والتواقون إلى الحريةِ والعدالة يُنعتون بالتمرّدِ والتآمر والفساد. تقول السيدةُ الأميركية هاريت توبمان: “لقد أسّست جمعيةً سريةً لتحرير العبيد عام 1849، فتمكّنتُ من تحريرِ ألف عبد”. وعندما سألوها: ما هي أصعب خطوةٍ لإنقاذ العبيد؟ أجابت: أن تقنعَ العبدَ أنه ليس عبداً.
تُرى هل يدركُ السوريون وهم يرتعون في عصفوريتهم السعيدة أنهم مستمرّون في تحمّل طاغيةٍ لا يمكن أن يرفضَ هذا الكسب الجميل لفرط سهولته؟ وهل يقتنعون اليوم أنّه لا يملك من القوّةِ إلا ما أعطوه، ولا قدرة له على أذيتهم إلا ما أرادوا أن يحتملوا منه؟
العربي الجديد