النبي العربي بين الامبراطوريات… سيرة جديدة/ محمد تركي الربيعو
في العقود الأخيرة، عمل عدد من الباحثين على إعادة النظر في سيرة النبي محمد في مكة ويثرب، وقد تعدّدت المقاربات الجديدة في هذا السياق، فحاول البعض منهم مثلاً إعادة قراءة العلاقة بين النبي وقريش، من زاوية ما وفرته الأنثروبولوجيا التاريخية من أدوات، ما أتاح لنا تكوين صورة جديدة أحيانا عن طقوس ووعي مكة الديني قبل الإسلام، كما فعل مثلاً توفيق فهد في كتابه المهم «الكهانة العربية قبل الإسلام» الذي كشف فيه عن إرث ديني عميق في منطقة جزيرة العرب.
كما حاول آخرون، مثل الراحل حسن قبيسي، إعادة النظر في السردية الماركسية حول فترة النبوة، وبالأخص الصورة التي رسمها لنا مكسيم رودنسون عن هذه الفترة، وقد تمكن قبيسي من خلال اعتماده على قراءات إيفانز بريتشارد ومارسيا ألياد وشتراوس، من نقد التفسيرات التي قدمها ردونسون في كتابه عن محمد، الذي اعتبره أهم ما كتبه في حياته، فمثلاً بيّن قبيسي، أن ما فعله رودنسون وقسم كبير من الماركسيين، هو أنهم اعتمدوا التحليل المادي، بينما أهملوا قصصا تتعلق بالإسراء مثلا، رغم أن هذه القصص تعد جزءاً أساسيا من الظاهرة الدينية، ولا يمكن بالتالي قراءة الدعوة المحمدية دون الإحاطة به، كما وجد قبيسي أن العقلانية في قراءة الدعوة المحمدية، لا تصمد أمام أدوات البحث الأنثروبولوجي الحديث، وقراءتها للأساطير، وأن هناك «عقلاً تعليلياً» عربياً بقي يحكم قراءة الظاهرة الدينية من أبي جهل في أيام النبي مروراً بمفكرين مثل طه حسين وردنسون. وربما هذا التوجه، هو ما سيدفع المؤرخ التونسي الراحل جعيط إلى تبني ذات النهج في إعادة قراءة يوميات النبي في مكة والمدينة.
لكن هذه القراءات، رغم ما قدمته من أهمية تذكر على صعيد فهم شخصية النبي، لا بوصفه شخصية سياسية أو اقتصادية، بل بوصفه رجلاً ذا إحساس ديني عميق، وفق تعبير المستشرق الألماني رودي باريت، فإن فضاء هذه القراءات بقي يدور بين مكة ويثرب، وربما هذا ما سيدفع ببعض الباحثين إلى محاولة الخروج قليلاً من هذه الأسوار عبر دراسة رحلات قريش في الصيف والشتاء (فكتور سحاب) أو مع الأطروحة الأهم في هذا الجانب «النسب والقرابة في الإسلام» للمؤرخ التونسي محمد سعيد، التي أعاد فيها قراءة رحلات بني هاشم قبل ولادة النبي، وكيف ساهمت هذه الرحلات لاحقاً في خلق قرابات بين هذه العائلة وبعض العائلات في يثرب، لتمر العقود بعدها، ويأتي النبي محمد ليستفيد من نظام القرابات الخارجي الذي أسسه أفراد عائلته في رحلاتهم إلى مناطق الرومان في الشام، وينتقل إلى مدينة أخواله، باحثا عن نظام اجتماعي وعلاقات تضمن له حماية أذى أبناء عمومته، ورغم أن هذه الأطروحة سلطت الضوء على رحلات المكيين إلى الشام، بيد أنها بقيت أيضاً تدور في الفضاء المكي ـ اليثربي ذاته.
ولعل من الدراسات القليلة في عالمنا العربي، التي حاولت تجاوز هذا الفضاء، أطروحة المؤرخ السعودي الراحل عبد الله العسكري حول مدينة اليمامة في القرنين السادس والسابع الميلاديين، فوفقا لهذه الأطروحة، لم تكن مكة هي مركز الجزيرة بالضرورة، بل كانت هناك مدن أخرى لعبت دوراً أوسع خلال القرن السادس الميلادي، قبل أن تأتي الرواية الإسلامية لاحقاً لتهمّش من هذا الدور لصالح رسم صورة مركزية عن مكة. مع ذلك، بقيت هذه الأطروحة كحال باقي الأطروحات السابقة، تنظر للمشهد من زاوية محلية، إن صح التعبير، دون أن تتلمس بشكل كاف ما كان يحيط بالجزيرة العربية في تلك الفترة من أحداث، ولعل هذه الزاوية من النظر، هي ما ستكون محل نقاش واسع في كتاب المؤرخ الأمريكي خوان كول «محمد رسول السلام.. وسط صراع الامبراطورية» ففي هذا السفر الغني والمترجم حديثا للعربية (دار الروافد الثقافية، ترجمة عمر بسيوني وهشام سمير) سيكشف لنا المؤلف عن سيرة أخرى حول الإسلام المبكر، وعن أجواء جديدة كانت تحيط بالنبوة، ليس فحسب الدينية، كما ركّز غالبية المؤرخين، بل على صعيد العالم الساساني ـ الروماني، الذي كان يدور حول الجزيرة. ولن نبالغ هنا إن قلنا، إن كول في هذا الكتاب جاء بقراءة إشكالية بالمعنى الإيجابي، ليس على صعيد الكشف عن تأثيرات صراع الإمبراطوريات على يوميات النبي وحسب، بل أيضا على صعيد إعادة قراءة بعض الأحداث المحلية، وإعادة تأويلها في سياق رؤيته الأوسع. وهنا لا بد من توضيح نقطة قد تحيّر القارئ، وهي أن كول لا يهدف من محاولته فك العزلة عن الإسلام المبكر، القول إن الأخير لم يكن سوى نتيجة أو امتداد للصراع العالمي الذي شهدته المنطقة بين الساسانيين والرومان في القرنين السادس والسابع الميلاديين، بل هي محاولة لربط الأحداث المحلية أحيانا بهذه السياقات، وقراءة سيرة النبي بالتوازي مع الصراع الجاري.
تدور فكرة كول في هذا الكتاب حول أن الحرب العالمية بين الإمبراطوريتين الرومانية والساسانية، كانت قد اشتعلت عام 603، وكان عمر النبي وقتها خمسة وثلاثين عاما، وقد أقدم خسرو الثاني عام 613 على خطوة أرعبت الشرق الأدنى بأكمله، عندما أرسل القائد شهربراز على رأس جيش لا يحصى، لينشر الرعب في أراضي الرومان داخل جزيرة العرب، وقطاعات فلسطين الثلاثة والحجاز، وفي ظل هذه التطورات يرى كول أن النبي كان يتابع ما يجري ويسمع من بعض الشهود من خلال رحلاته المكررة عن هذه الأحداث، ولذلك بدا هو وأتباعه قلقون من هذه التطورات لعدة أسباب، مثل قلقهم من زيادة النفوذ الساساني وآثاره على مواقعهم، وثانيا لأن هذه المعارك كانت تحول دون تجهيز القوافل للسير في أراضي الشرق الأدنى، خاصة أنه في فترة الرومان كان العرب قد عقدوا اتفاقيات تضمن لهم ممارسة التجارة، ويرى كول أن هناك سببا آخر لم يتنبه له المؤرخون، وهو أن النبي العربي كان يتصور المؤمنين في تلك الحقبة جزءاً من الكومنولث الإبراهيمي، الذي يسيطر عليه الرومان المسيحيون، ولذلك لم تكن له مصلحة في ضعف هذا الوجود، يضاف إلى ذلك أنّ الساسانيين كانوا قريبين آنذاك من بعض الأطراف العربية المعادية للنبي، ولذلك شكل هذا الصراع جزءا مهما من تفكيره. وهنا نلاحظ النبي قارئا للتطورات التي تجري في محيط جزيرة العرب، بل يذهب كول إلى القول إن الخزرج الذين دعوه إلى القدوم ليثرب كانوا على صلة ببني غسان، وهم عشيرة تابعة لحماية القسطنطينية، ويقال إنهم لجأوا إلى النبي وأتباعه بحثا عن حلفاء مؤيدين للإمبراطورية الرومانية في أظلم أوقات الاحتلال الساساني.
الكومنولث الإبراهيمي
يقدم التراثُ الإسلامي المدينةَ في صورة تجعلها أقرب ما تكون لمدينة رومانية من القرن الرابع، ومن مظاهر ذلك وجود معابد لآلهة القدر، وارتقاء اليهود كبرى المناصب المدنية، ووجود المسيحيين كأقلية، وفي هذا المكان حاول النبي أن يتعامل مع الأوضاع بوصفه قديسا أو رئيسا أعلى لرؤساء مختلف قبائل المدينة، حرصا على إنهاء الخلافات، وهذا ما سيظهر من خلال صياغته لصحيفة المدينة، التي حاول من خلالها الإعلان عن تلك المجموعات المختلفة التي أصبحت أمة واحدة بموجب اتفاقية الدفاع المشترك، وهنا يرى كول، أن النبي بدأ يؤسس لأمتين: الأولى ضيقة تضم جميع المؤمنين، وأخرى واسعة عبارة عن اتحاد ديني مع أصحاب الديانات التوحيدية الأخرى، ومن المرجح أنه كان ينظر للأمة الثانية بوصفها أمة إبراهيم، وهنا يبدو أن دستور المدينة قد اختلف تماما عن قوانين روما المسيحية في القرن السابع، فهو يقدم رؤية لمجتمع تعددي غير قائم على العقيدة، أساسه الولاء الاجتماعي، وضمان الأمن. ورغم أن حماية المدينة من قريش شكّل هاجس النبي في هذه الفترة، لكن يبدو أن الصراعات بين الساسانيين والرومان، بقيت تلقي ظلالها على حياة النبي في المدينة، فبعد عامين من معركة أحد، كانت قريش تعيد الكرّة، لكن كول يرى أن دوافع المعركة هذه المرة لم تكن محلية بالضرورة، وأنه من الوارد أن وزراء خسرو حرّضوا القبائل الوثنية ضد مسلمي المدينة المؤيدين لروما، كحملة انتقامية، وما يدل على ذلك هو مشاركة قبيلة غطفان الواقعة في منطقة نجد المتاخمة للأراضي الساسانية، وبفضل موقعها الجغرافي كانت غطفان، على الأرجح، تتعاون تجاريا مع الإيرانيين، ثم انضم لهم أبو سفيان وقريش في مكة.
ويبدو أن آمال المدينة في الامبراطور الروماني لم تكن في غير محلها، فخلال عام 627 استجمع هيراكليوس قواه، وشن حملة عميقة في الأناضول ضد الجيش الساساني، ما أجبر خسرو على الهروب، ليعدم لاحقاً، وفي يوليو/تموز 629، التقى الجنرال الإيراني مع الامبراطور الروماني واعترفا بالفرات كحد بين الامبراطوريتين، وبذلك كانت قوة الساسانيين تنحسر في الشرق الأدنى، وكان لهذه التطورات أثر على مكة، إذ أتاحت الأحداث والتراجع، كما يرى كول، الطريقَ للصلح مع مكة، فهو يرى أنّ التقليد المتأخر للسيرة قد رأى السير إلى مكة واعتناق قريش دين محمد على أنه غزوة، بينما نرى أن القرآن يصف مسيرا سلميا، وقد شجع هذا اللاعنف المقدس التحول الجماعي إلى الإسلامي في مكة، وبين العديد من البدو.
وبالعودة لفكرة كول حول «الكومنولث الإبراهيمي» الذي كان ضمن اهتمامات النبي، يلاحظ أن بزوغ نظام حكم جديد في الحجاز، قد أثار تساؤلات مهمة لدى أجهزة الأمن الرومانية، خاصة بالنظر إلى استمرار سيطرة إيران على بلاد ما بين النهرين القريبة، وتأثيرها بين القبائل العربية، ولذلك فهو يرى أن محاولات غير متسقة للتحالف بين هيراكليوس والنبي قد جرت، وهناك القصة التي تقول إن والي هيراكليوس في مصر قد أرسل عروسا إلى النبي (ماريا القبطية) كطريقة لصنع تحالف معه، وقد قبل النبي بذلك وتزوجها كإشارة شخصية ربما على استعداده للانضمام إلى الكومنولث الروماني الإبراهيمي، شريطة أن لا يكون تابعا لهم وخليفة للغساسنة، وربما ما يدعم هذا التوجه أن النبي أيضا بقي آخر عامين ونصف العام من حياته 630 ـ 632 يواصل محاولاته في تشكيل تحالف من الموحدين، فمثلا تعيد سورة المائدة التأكيد الآتي:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ«.
وبحلول أوائل ثلاثينيات القرن السابع 630 بدا أن النبي يميل أكثر إلى فكرة أن تنوع الأديان سيظل حقيقة من حقائق الحياة، وإلى الحاجة للتعايش في سلام بين هذه الجماعات كإثراء للتجربة البشرية، لكن بعد وفاة النبي يرى كول أن الصراع بين دولة المدينة والرومان، دفع المسلمين إلى التركيز في سردياتهم على غزوة تبوك (التي يراها من نسج الخيال ولم يشر إليها القرآن) كوسيلة من وسائل الحشد أثناء التحضير لغزو عرب ما بعد النبي لسوريا، وبذلك كانت فكرة الكومنولث الإبراهيمي تختفي لصالح رؤية أخرى تنظر إلى الرومان بوصفهم أعداء، وسيعود معاوية وابناؤه لاحقاً للعمل على إكمال هذا المشروع الإبراهيمي، فبعد دخول المسلمين سوريا، استقرت القوات العربية في حاميات خارج المدن، ويبدو أن التحول إلى الإسلام كان نادرا خلال العقود الأولى، وهنا سيكتب المسيحي يوحنا بن الفنكي في ثمانينيات القرن السابع 680، أن المسلمين الأوائل سمحوا للناس باتباع أي معتقد راموا، وهذا ما لم يتحقق تحت حكم المسيحيين الرومان، كما ألمح إلى أن المسلمين الأوائل، احتملوا الهيلينيين والوثنيين، وهذا ما تؤكده قصة ترك الأمويين مدينة حران الوثنية وشأنها.
كاتب سوري
القدس العربي