نقد ومقالات

ترجمة خالية من الكحول تقريباً… عن عين الرقيب الساهرة في “مشروع كلمة”/ أحمد فاروق

حكاية صغيرة

عندما بدأت دراسة الترجمة في ألمانيا في قرية صغيرة، أو على أقصى تقدير مركز لمجموعة قرى، يبعد عن الجامعة الأم في ماينتس 120 كيلومتراً، تعرفت في فرقة المسرح على زميل ألماني تخرّج قبلي بعدة سنوات. كان يأتي إلينا حباً في المسرح وأيضاً للهروب من الوحدة التي تفرضها عليه طبيعة عمله كمترجم. كان لديه مكتب للترجمات التقنية من الإنجليزية والإسبانية إلى الألمانية.

وذات مرة تحدثنا وقلت له إنني أدرس كي أصبح مترجماً أدبياً، فنظر لي باستهجان واحتقار، قائلاً إن هذا العمل لا يجلب دخلاً ولا يسد رمقاً. وربما وضع نصب عينيه مترجمي روايات التسلية الذين يضطرون للعمل بأجر بخس لدور النشر، ويترجمون بسرعة هائلة أعداداً كبيرة من هذه الروايات الرخيصة، ومع ذلك يعيشون على حد الكفاف، أو أنه رأى صعوبة كبرى في ترجمة الأدب، وربما يكون احتقاره هذا واجهة يخفي وراءها خشيته ومهابته من المهمة العسيرة.

ورغم أنني بالطبع لا أشاركه احتقاره هذا، لكنني اتفق معه في أنها مهنة لا تسد رمقاً ولا تقيم أوداً، وأن من يمارسها، يمارسها في معظم الأحوال عن شغف، وليس سعياً وراء المال. وبالتالي ليس لدى مترجم الأدب شيء يخسره سوى سمعته.

مأزق الرقيب

وهنا مربط الفرس، ربما يدخل مترجم الأدب مع دار النشر في سجالات تحريرية يكون لكل منهم فيها وجهة نظر مدعومة بالأسباب. معظم دور النشر العربية بدأت تعي مؤخراً أهمية دور المدقّق والمحرّر وأهمية إخراج الكتاب في صورة لائقة على مستوى الشكل والمضمون، ولكن هذه العملية لا تزال في صيرورتها ولا يزال الطريق طويلاً. كتبي المترجمة الأولى صدرت تقريباً دون تحرير يذكر.

وقد تعاملتُ مع عدة دور نشر عربية مستقلة، ولم أتعرض قط لتدخل رقابي أو اعتراض من الناشر أو المدقق على تعبير أو لفظ خارج الإطار المهني. لكن ترجمتي الأخيرة لنوفيلا “مجد متأخر” للكاتب النمسوي الشهير أرتور شنيتسلر، والصادرة عن مشروع كلمة للترجمة، تعرضت بعد انتهاء المراجعة في الصيف الماضي لتدخّل رقابي بائس، دون علمي ودون إذن مني، شوَّه العمل من ناحية وأظهر قلة حيلة هذا الرقيب وهوانه.

كل المشروبات حلال إلا الأبسنت

تتناول النوفيلا قصة موظف هرِم كتب ذات يوم ديوانا شعرياً، ثم نسيه ونسي الشعر. وانهمك في حياة الوظيفة الرتيبة، وبعد عقود اكتشفت مجموعة من شباب الأدباء هذا الديوان وبحثوا عن صاحبه وجعلوه رائداً لحركتهم الأدبية. وطبعا كانوا يلتقون في الحانات والمطاعم ويحتسون النبيذ والبيرة، وهاتان الكلمتان الأخيرتان جعلتا الرقيب يتقلب في موضعه ولا ينام الليل.

وأخيراً اهتدى إلى إبدالهما بكلمة “مشروب” أو “شراب” كمجاز الكل عن البعض، ليترك لخيال القارئ الأريب وضميره تصوّر أي مشروب هذا (أفلت مشروب الأبسنت من يد الرقيب المسكين لأنه يجهله ربما) وأنا أتساءل هنا أي استفادة قدمها هنا للعمل بمقصه الثلِم؟ ثانياً: لقد كتبتُ للمؤسسة التي نشرت الكتاب لأحتجّ، فباركوا لي على صدور الكتاب وقالوا لي إن رسالتك قد وصلت.

قصقصة حكايات شارل بيرو

عقد الترجمة ينصّ على التزام المترجم بالأمانة ودقة المعنى، كما أن الغلاف الداخلي للكتاب يحتوي على العبارة القائلة إن المؤسسة المذكورة غير مسؤولة عن آراء المؤلف وأفكاره، لكن ها هي تتدخّل وتبدّل ما لا يتناسب مع ذائقة المسؤولين عن النشر فيها.

المأساوي هو أن القارئ الذي سيلاحظ هذا التدخّل الفجّ، لن يلوم المؤسسة بل سيلوم المترجم الذي يتصدرُ اسمه عنوان الكتب وربما تم هذا التغيير برضاه. ولهذا أبرّئ ذمتي من مثل هكذا تدخّل. وربما هذه مناسبة أيضاً للقول بأن كتابي ليس الوحيد الذي تعرض للرقابة.

لقد فوجئ صديقي الكاتب والمترجم ياسر عبد اللطيف، بأسئلة وُجهت له من باحثين في جامعة الجزائر، عن حذفه لكلمات مثل نبيذ وخنزير من ترجمته لـ”حكايات أمي الإوزة” لشارل بيرو، وقد أُدخلت هذه التعديلات أيضاً من دون علمه ومن دون إذنه.

طبعات أنيقة ومضمون مُشوّه

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت مثل هذه المؤسسات على هذه الدرجة من المحافظة ولديها هذه الخشية من أن يسقط القرّاء مغشياً عليهم إذا جاءت سيرة الخمر أو الخنزير، فلماذا تترجم الأدب الغربي؟ لماذا تُصرّ على تشويه الأعمال الأدبية ونشرها مبتسرة؟ ما الغرض من صدور الترجمات في طبعة أنيقة الشكل وقد تشوه مضمونها؟

لا أتوقع من المؤسسة المذكورة وأشباهها -فهي بالتأكيد ليست الوحيدة- رداً أو إجابة شافية، لكنني، ودون أي ادعاء بطولي، أريد أن أعلّق الجرس في عنق القط… ليس لدى مترجم الأدب ما يخشاه.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى