مقالات سينمائية

ذكرى عبّاس كيارستمي.. نحّات الحداثة السينمائية الإيرانية/ أشرف الحساني

يُعرف المخرج الإيراني عبّاس كيارستمي (1940-2016) بكونه من المخرجين المهمين، ليس في داخل إيران فقط، بل في العالم أيضًا. فقد قاده شغفه المُبكّر بالشعر والرسم والتصوير إلى نحت تجربة سينمائية مُتفرّدة، تهدف إلى الغوص في بنية تفكير المجتمع الإيراني وتفكيك منطلقاته وتصوّراته ورؤاه إلى العديد من القضايا والإشكالات ذات العلاقة بالمجتمعات المعاصرة. ورغم أنّ كيارستمي دَرَسَ الرسم بدل الفنّ السابع، إلاّ أنّه لم يستطع أنْ يغدو رسامًا، لكنّه أصبح من السينمائيين المهمين في العالم، الذين حقّقوا مشاريع سينمائية في غاية الدهشة والتفرّد.

لسنوات طويلة عاش كيارستمي في فرنسا، بعيدًا عن إيران ومعايير الرقابة وعنفها في حقّ السينمائيين الإيرانيين. والحقيقة أنّ الأفلام المُنجزة في إيران بدت بعد رحيله عام 2016 وكأنّها الأجمل، مقارنة بالأفلام الأخرى المُنجزة خارجة إيران مثل “نسخة طبق الأصل” (2010) بفرنسا والذي لعبت دور بطولته الممثلة الفرنسيّة الشهيرة جولييت بينوش، ثم فيلمه الآخر المُنجز في اليابان بعنوان “مثل أيّ عاشق”(2012).

لكن بمنأى عن الخصوصيات السينمائية الإيرانية داخل فيلموغرافيته الأولى، استطاع كيارستمي في أفلامه المذكورة الحفاظ على شغفه السينمائي في مجاوزة الصورة المرئية التقريرية المُباشرة، صوب عوالم أخرى تُصبح فيها الصورة فنيّة وذات ميسم جمالي بالدرجة الأولى. إنّ هذا الإحساس بضرورة ابتداع سينما إيرانية مغايرة، جعل كيارستمي يقضي سنوات طويلة في تجريب سينمائي، خاصّة وأنّ الأهم لديه ليس الحصول على جوائز سينمائية، حتى يكون الفيلم جيدًا، بل الأهم هو مواصلة إنتاج أعمال يُؤمن بها المرء أنّها قادرة يومًا أنْ تُحرك الأهواء أو تُثير نزوة عابرة في جغرافيات يباب من العالم. حرص كيارستمي على مواصلة الإنتاج، بدل التفكير والتخطيط، لأنّهما يقودان المخرج إلى اجتراح مشروع بصريّ قوامه الاكتشاف وسنده الإبداع.

هذا الأمر، جعل أفلام كيارستمي مشرعة في وجه العدم، ولا تغتني صورها الفنيّة إلاّ بتعدّد المُشاهدين، حيث يُصبح التأويل نزعة ذاتية ولذة سينمائية مُتباينة في ذهن كل من يُشاهد الفيلم. هذا الشعور الغامض يجتاح كيان المرء لحظة مشاهدة “نسخة طبق الأصل” أو “طعم الكرز”، حيث تُصبح الصورة السينمائية عبارة عن تأمّلات شخصية تتعلّق بمشاعر الحبّ والرحيل والموت والانتحار. فهذه الثيمات بطبيعتها الأنطولوجية أشبه بمفردات بصريّة يتوسّلها كيارستمي ليُقدّم لنا سرديّة سينمائية حول عبثية الوجود وفوضاه الخلاّقة. بحيث أنّ التفكير السينمائي لديه، يتسلّل من كل نزعة تحصر المُشاهدة السينيفيلية في العقل وصرامته القاهرة في حقّ الجسد، بل نعثر على كيارستمي وكأنّه يُكسّر من حدّة التعقّل ويجعله الفيلم هادئًا ومُنسابًا عبر شلال اللاوعي، فهو يهتم بالعابر والهامشي والزائل ويترك التفكير للكتابة.

إنّ سينما عبّاس كيارستمي لا تُدرك بالعقل، بل أساسًا بالإحساس، لأنّها لا ترتبط بالمركز ولا تُصوّر قضايا سياسية وفكريّة، بل فقط مشاكل وجودية، حيث الشخصيات منصهرة فيما بينها تتلذّذ بشواذ الحياة اليومية وعذاباتها داخل إيران. وإذا كان يتجاوز في أفلامه السينمائية مسألة العقل لصالح مفهوم الحدس، فلأنّ الفنّان خبر الشعر الصوفي الإيراني القائم على التقشّف وبساطة اللغة وضيق العبارة واتساع الرؤية. وهذا الأمر، هو ما يجعل مَشاهده بسيطة وفي أماكن نائية من المجتمع الإيراني، لكنّها تنطوي على بحر من التأويلات البصريّة، حيث يلتقي جسد الإنسان في رحلة عذابه الدنيوي بقدرته الحتمية.

على درب الحرية

بمناسبة ذكرى رحيله السنويّة الخامسة التي صادفت في الرابع من يوليو/ تموز المنصرم، عمل “مركز بومبيدو” بباريس على إقامة معرض استعادي موسوم بـ”عبّاس كيارستمي: دروب الحرية”، وهو معرض فنيّ مُخصّص لعشرات الرسومات والصور الفوتوغرافية، التي التقطها كيارستمي في ترحاله المُتنوّع والدائم في تخوم جغرافيات العالم؛ من الصورة الفنيّة (الرسم) إلى الفوتوغرافية وصولًا إلى السينمائية. قضى عبّاس كيارستمي حياته الشخصية، مُرتحلًا داخل مناخات الصورة مُفجّرًا غرائزه وأحاسيسه ومشاعره على شكل فعل إبداعي، يبدأ من الجسد وينتهي داخله. الرسم يقود إلى السينما، لأنّه يُساعد المخرج على ضبط الكادراج السينمائي ونحت الزمن والقبض عليه وتفتيته، ثم تحويله إلى صور سينمائية مُتنوّعة. أما صوره الفوتوغرافية، فإنّها أكثر تعبيرًا عن امتداد حياته اليومية داخل إيران وخارجها. إذْ رغم أنّها تلقائية في طابعها، فإنّها تُبدي حضورها وتوهّجها في سيرته الفنيّة، لأنّ وجودها، لم يكُن بمحض الصدفة، ولكن بوصفها حالات وجدانية، تقود الفنّان إلى نوع من التجريب الفوتوغرافي داخل سيرة المرئي. إلاّ أنّ المُثير للدهشة، مدى تشابك هذه الفنون جميعها داخل أفلامه السينمائية، حيث تلتحم الفوتوغرافيا بالشعر والرسم بالحركة ويُكوّنان معًا صورة بصريّة واحدة ترتكز على التجديد والدهشة.

لا شيء يبدو اعتباطيًا في سينما كيارستمي، فكل الصور مأخوذة بعناية وتحتكم في طبيعتها إلى هندسة فكرية ونسق بصريّ، يُلحمان أفقها الفني والسينمائي ويُوجّهان واقعيًا مفهوم الحكاية وخطيّتها. لكنّ هذه الصور في ظاهريتها تبدو وكأنّها مجرّد حجاب بصريّ عن الصورة الأصل، التي تُشكّل نواة الفيلم. فبساطتها لا توحي بأنّها كذلك، بل يتبعها شعور بالدهشة من فرط ما تُثيره من مشاعر وأحاسيس في جسد المُشاهد، بسبب كيميائها البصريّ المُدهش. ففي “نسخة طبق الأصل” يُقدّم كيارستمي مفهومًا جديدًا للصورة بالنظر إلى أعماله الأخرى، فهو يعمد إلى نوع مُركّب أكثر اتصالًا بالحوار، فهذا الأخير هو ما يتسرّب عنه الحكي. أما الصورة فإنّها صامتة وقد زادها غموضًا الأداء البارع للفرنسيّة جولييت بينوش وملامحها الغامضة تجاه حبيبها، خاصّة وأنّ الفيلم لا يُصوّر الأجساد والفضاءات الصيفية الإيطالية المُنعشة والتماثيل واللوحات والمتاحف، بل تحرص كاميرا كيارستمي على تصوير اللامرئي المُتمثّل في الشعور الغامض، الذي يُثيره فينا مفهوم الحبّ. يُعتبر اللامرئي بمثابة براديغم في سينما كيارستمي، فهو الأساس الفكري الذي من خلال يُشيّد فعل التخييل السينمائي، بل حتى رسوماته وصوره الفوتوغرافية، رغم ما توحي به من طبيعة وأمكنة وطفولة واجتماع، فإنّها تظلّ في خفاء تنزع نحو تجريب فضاء اللامرئي، حيث تُعوضّ الأشياء بـ”اللا-أشياء” والصور بـ”اللا-صور” والأجساد بالسيمولاكر. إنّه عالمٌ هجين ومُحجّب حيث تختفي فيه ماهية الأشياء وتحلّ مكانها عناصر مُتخيّلة وحلمية لا واقعية. لكن الوصول إلى الصورة الأصل في سينما كيارستمي، لا يتأتى إلاّ بنزع القداسة عن الواقع والدخول معه في سجال فكري حقيقي، يقوم على تكسير البديهيات السطحية عبر طرح أسئلة حول هذا الواقع الذي ننتمي إليه. على هذا الأساس، تُطالعنا شخصيات كيارستمي الحزينة والتائهة الباحثة عن حقيقة واقعها المُنفلت من قبضة المنطق.

واقعية متخيّلة

يحضر الواقع في أفلام كيارستمي على شكل تمظهرين واقعيين، الأوّل: عيني مُباشر حيث تطغى فيه تراتبية الحكاية على لذة التأليف ويخضع بدوره إلى عوامل برانيّة كالتاريخ والوجود والهوية والواقعية، بما يجعل المُشاهد منذ أوّل مشهد يحدس أنّ الفيلم، الذي يُقبل عليه، ينتمي إلى السينما الإيرانية، بحكم ما تنطبع به الحكاية من حوار وسرد وحكي، لا سيما وأنّ هذه المُؤثّرات الخارجية، هي ما يصوغ مفهوم الواقع داخل أفلامه ولا شيء آخر. إنّ الواقع في هذه الحالة مُعطى وجودي، فيه تتبلور الحكاية وتنحت آفاقها بالاستناد إلى الواقع الإيراني، دون أيّ توابل بصريّة تخييلية، بما يجعل النصّ السينمائي يتجذّر داخل بيئته، والفيلم برغم تنطّعه الدائم إلى مجاوزة الواقع صوب مُشاهد كونيّ، يبقَى أكثر التحامًا بتاريخه وثقافته وبيئته، وهذا هو سرّ الأفلام العالمية الناجحة، التي لا تذوب في ثقافة الآخر.

إنّ سينما كيارستمي تظلّ ذات ميسم إيراني، لأنّها تختزن تاريخه وتراثه. ففي “أين منزل صديقي” (1987)، يأخذ الفضاء الإيراني حيّزًا كبيرًا، لكن بطريقة سينمائية مذهلة، وإذا كان بعض النقاد الفرنسيين يعتبر أنّ السينما هي فنّ الأمكنة والفضاءات، فإنّها تغدو لدى كيارستمي “اللافضاء” حيث تنعدم الأمكنة ويُصوّرها دومًا مُتلاشية وقابلة للموت. يروي الفيلم قصّة طفل صغير يُسافر إلى قرية أخرى بعيدة عنه لإرجاع دفتر مدرسيّ إلى صديقه مخافة من عدم تحضير درسه. ينقل لنا شعريّة الفضاءات (القرية، القسم، البيت) بوصفها امتدادًا للوجود البشري، فهي دائمة الهشاشة والضياع والموت.

أما النموذج الثاني، فيتمثّل في واقع مُتخيّل، وهذا النوع، هو الذي ميّز أفلام كيارستمي، لأنّ من خلاله تتشكّل العملية السينمائية التخييلية وبه تصوغ الصورة منطلقاتها الأنطولوجية، وهي تقوم بتخييل النصّ. ويُعتبر فيلم “طعم كرز” نموذجًا كبيرًا للتخييل السينمائي، إذْ يروي كيارستمي سيرة واقعية/ مُتخيّلة لرجل يقود سيارته في أماكن نائية بحثًا عن طرف ثان يدفع له المال كيْ يُساعده على الانتحار. في هذه التُحفة السينمائية، يلجأ كيارستمي إلى صورة سينمائية بيضاء، حيث الصورة صامتة والشخصيات تائهة ومرتبكة. أما “بادي” الذي يرغب في الانتحار، فقد جعله صامتًا في حالات كثيرة ولا يُعبّر عن دوافع الانتحار. بما يجعل مَشاهد الفيلم وشخصياته يخضعان إلى تأويل مفرط.

هذه الأطروحة الفكرية، يُشدّد كيارستمي على تأكيدها بنحت شخصيات في أقسى العجز ويشوبها نوع من الانحطاط الجسدي وخيبات مُتكرّرة على درب الألم والسخرية.  فهي حزينة دومًا ومهمّشة وعاجزة ولا تُفكّر إلاّ في الصمت والانتحار والموت. على هذا الأساس، تُؤرّخ الأدبيّات السينمائية الإيرانية بأن كيارستمي يُعتبر نحّاتًا للحداثة السينمائية، بحكم الهمّ التجديدي، الذي شغله وهو شاب في الضفّة الأولى من العمر، يُنجز أفلامًا قصيرة حقّقت له ذيوعًا كبيرًا في العالم، لأنّ هذه الأفلام الأولى في نظر كيارستمي، هي التي تقود المُهتمين بالفنّ السابع إلى البحث عن تجديد سينمائيّ عادة ما تنطبع به الأفلام المُبكّرة. ففيها ابتكر كيارستمي أسلوبًا سينمائيًا مُتفرّدًا، لا يعثر فيه المُشاهد، إلاّ على المخرج وقلقه. إذْ إنّ حجم الاشتغال فنيًّا على الصورة السينمائية، جعل تجربته ضربًا من الإبداع الفكري، حيث تُصبح الصورة الفنيّة بلورية وتعكس وقائع مُتعدّدة من المجتمع الإيراني.

“لم أصبح رسامًا، لكنّي أصبحت سينمائيًا”- هكذا يُجيب كيارستمي عن سؤال البدايات، الذي ظلّ يُطرح عليه داخل جرائد ومجلاّت فرنسية. إذْ رغم أنّه لم ينجح في أنْ يكون رسّامًا إلاّ أنّ ذلك أثّر عليه بشكل ضمني وجعل صوره السينمائية أشبه بلوحات بصريّة مُتحرّكة، حيث كل مَشهد سينمائي يختزن عشرات من الدلالات والرموز ذات العلاقة الوجدانية بحياته وسيرة طفولته في إيران. وهذه الأشياء/ المَشاهد/ التخيّلات تتكرّر من فيلم لآخر مثل تلك الشجرة السامقة في وجه الريح، والتي نعثر عليها داخل أفلام عدّة. لم يصبح كيارستمي رسّامًا، لكنّه غدا مخرجًا ينحت صوره السينمائية بالكاميرا، فهي بالنسبة له امتداد عميق لفوضى الوجود، لذلك يعثر المُشاهد على سيل من اللقطات الطويلة المُشرعة في وجه الاغتراب والرحيل والموت، كما تتوزّع بموجبها أعمال معرضه الفني المُقام في “مركز بومبيدو”، بين الرسم والسينما والفوتوغرافيا والشعر. فانقسام المعرض تقنيًا حسب الوسائط البصريّة، لا يُضمر في طيّاته، إلاّ ذلك الزخم الإبداعي، الذي هيمن على سيرة كيارستمي السينمائية وجعله يتبوأ مكانة هامّة داخل السينما العالمية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى