عن المثقف الناقد و”جبال الصمت القاتلة”… تأبين متأخر لهشام جعيط/ عبدالله أمين الحلاق
قبل عام تقريباً، وبالاتفاق مع الزميلة إيناس خنسة، مسؤولة القسم الثقافي في رصيف22، كنتُ بصدد كتابة مادة عن المؤرخ التونسي هشام جعيط وعن أعماله، وخصوصاً ثلاثيته الأهم “في السيرة النبوية”، بأجزائه الثلاثة. توقفت عن الكتابة لفترة في حينها ولم أنجز المادة، ثم جاءت وفاة جعيط قبل أسابيع لتكون مناسبة للعودة إلى الموضوع ودافعاً للكتابة عنه وعن ثلاثيته، وأيضاً كتحية متأخرة له.
ثمة خصوصية لهشام جعيط، قد يكون من المناسب افتتاح الكتابة عنه بالمرور عليها، وهي التلازم بين المنهجية العلمية “الصارمة” في البحث والتأريخ والتحليل من جهة، وبين العقلانية وتالياً، الهدوء و”برود الأعصاب” من جهة ثانية، على رغم حرارة الموضوع الذي يَحفر وينقّب فيه، أي الإسلام. الحرارة التي لسَعت أو أحرقت الكثيرين ممن عملوا وأعملوا العقل في هذا المضمار، بعيداً عن التلفيق الشهير و”المكرّس” بين “البحث العلمي” وبين عالَم الغيب، وأيضاً بعيداً من الكتابة الانفعالية والكيدية، المتشنجة، غير العلمية وغير التاريخية، في هذا “المضمار”.
كتب جعيط “في السيرة النبوية” طوال سنوات عدة، وتضمن عمله هذا ثلاثة عناوين هي: “الوحي، القرآن والنبوة”، “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” و”مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”، وصدرت كلها عن “دار الطليعة” في بيروت.
كتب المؤرخ التونسي هشام جعيط “في السيرة النبوية” طوال سنوات عدة، وتضمن عمله هذا ثلاثة عناوين هي: “الوحي، القرآن والنبوة”، “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” و”مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”، وصدرت كلها عن “دار الطليعة” في بيروت
السيرة و”مقارنة الأديان”
يفرد جعيط مساحة مهمة من “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” للحديث عن التقاطعات المحتملة بين الإسلام والمسيحية، لـ “فرادة” كل منهما، وأيضاً للتمايزات التاريخية واللاهوتية بينهما. هذا مدخل أساسي، بالنسبة له، لفهم السياق التاريخي الذي ولد فيه الإسلام ونَما وتطوَّر، وصولاً إلى قيام الدولة في يثرب.
ذلك أن اعتبار الإسلام ديناً “جديداً” بالمعنى الحرفي للكلمة، معزولاً عن الشروط والظروف التاريخية التي ساعدت على نشوئه ثم تمدده، ليس بالأمر المقنع لأي قارئ أو باحث، اللهم إلا إذا كان “باحثاً” تقع مراجعه في السماء، لا في الأرض وعلى رفوف المكتبات. هكذا، وعلى سبيل التقاطع بين الديانتين، يقف القارئ عند ملاحظة أن “المؤرخين العرب فهموا جيداً أن الإنجيل ليس بالكتاب المنزل على شاكلة القرآن كما باح بذلك القرآن نفسه، إنما هو كتاب تاريخي تتقاطع فيه في بعض الأحيان أقوال وعظات المسيح”.
غير أن هذا الكلام العمومي والمكرر من قبل المؤرخين العرب، لا يكفي لفهم المسارات النصية المختلفة بين الإنجيل والقرآن، أضف أن المؤرخ التونسي لا يهتم ولا يتوقف عند ما قاله بعض نقاد الأناجيل، مثل شتراوس، من أن العنصر التاريخي ملفق وغير صحيح، بل يؤكد على أهمية “اعتبار أن السيرة إنما اتبعت خطى الأناجيل، بل هي موضوعياً، على أي حال، إنجيل المسلمين، مع وجود فارق وهو أن الإنجيل يعلن دعوة المسيح وأفكاره، أو يريد ذلك، فيما دعوة محمد يحويها القرآن في تفاصيلها”.
وهو يستأنف في مواضع أخرى من الكتاب مقارنته المشبعة بالتحليل، فإذا كانت سيرة محمد تتقاطع مع “سيرة المسيح”، أي مع الإنجيل، فإن بعض القصص تكاد تكرر نفسها في الموضعين، أو في الديانتين، ذلك أن “قصة إسلام عمر بن الخطاب بحسب ابن اسحق، معروفة ومشهورة، وهي قصة رجل شديد عنيف مناهض لمحمد وأتباعه، ينقلب فجأة إلى أحد كبار المؤمنين”.
يفرد جعيط مساحة مهمة من “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” للحديث عن التقاطعات المحتملة بين الإسلام والمسيحية، لـ “فرادة” كل منهما، وأيضاً للتمايزات التاريخية واللاهوتية بينهما
إنها “قصة حلوة للغاية مصاغة من خيال جذاب”، بحسب جعيط الذي يذكّر أنها “تشبه قصة انقلاب شاوول- بولس، وهو كبير مؤسسي المسيحية بعد المسيح، إلا أن بولس هداه الله برؤيا خارقة، وعمر بتلاوة للقرآن في بيت أخته، او باستماعه سراً إلى تلاوة من النبي في المسجد بحسب الرواية المكية”.
وتعزيزاً منه للمقارنة آنفة الذكر، يستمر في إيراد الأمثلة التي يقارن بها بين المسيحية والإسلام، ويُكثر منها، مشدداً على موضوعية ومنطقية ذلك، “فبالنسبة للمؤرخ الموضوعي، لا يمكن الانفلات من إقرار التأثير الواضح للمسيحية الشرقية على القرآن، وهو ليس بالتأثير السطحي وإنما العميق والمستبطن بقوة، وإلا عاد محمد غير ممكن في بلده وفي زمانه، أو وجب على المؤرخ الإذعان والإقرار بألوهية القرآن مبدئياً ونهائياً، والتوقف عن كل بحث”.
ويخلص إلى أن “الديانات التوحيدية- المسيحية ثم الإسلام- غَلَبت بسبب شعورها أنها تمثل الحقيقة، وبالتالي فهي غير متسامحة. وهي دعوات مهيكلة منطقياً، بالمقارنة مع أديان الوثنية المقامة فقط على الموروث وقوة التقليد، ما جعل الإسلام يُنعت بالدين “المحدَث” من جهة قريش، أي من دون تزكية الأجيال والتاريخ، وهي أخيراً أديان ترغيب وترهيب”.
“الوحي والقرآن والنبوة”
يؤكد هشام جعيط على مركزية القرآن في أي عمل تأريخي وفيلولوجي يتناول الإسلام، بما فيه “السيرة”. فالقرآن “ليس فقط وثيقة تاريخية بالنسبة للمؤرخ، والكلام المقدس الحق بالنسبة للمؤمن، بل هو ما يجب أن يُنصت إليه في الأساس والجوهري”. انطلاقاً من ذلك، سنجد أنفسنا في قلب مسألة إشكالية طالما شغلت الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، تبدأ من السؤال حول القرآن وحول كونه “كلام الله بالفعل”، ولا تنتهي عند مسألة كونه مخلوقاً أم لا، وهذه الأخيرة كانت سبباً رئيسياً من أسباب الإجهاز على المعتزلة والقضاء عليهم، كما هو معروف.
فالقول بإعجاز القرآن “حجة غير واردة، لأنها تعبّر عن تصور بسيط للشخصية الإلهية، بمعنى أن الله فصيح لدرجة تفوق الإنسان”، وعليه “لماذا لا يكون النبي عبقرياً فذاً في التعبير وهو على كل حال، ذو عبقرية لا تدانى؟”.
الوحي، بحسب القرآن نفسه، هو “قول رسول كريم، وليس بالتالي قول الله مباشرةً، المهم أن الشخص الميتافيزيقي ليس الله ذاته، وإنما مبعوث منه، وأن محمد رآه، وأن القرآن قوله لكن عن الله”. المسألة هنا ليست تشكيكاً في الوحي، بقدر ما هي في اعتباره “مسألة طبيعية”، ليست فريدة من نوعها في التاريخ.
ثمة “هوّة منهجية” وبرزخ عريض يفصل بين التعاطي مع التاريخ الإسلامي ومع الإسلام كدين، في العالمين العربي والإسلامي من جهة، وفي الغرب من جهة ثانية
“هناك رجال دين تلقوا وحياً، وهناك كتب موحاة في كل مكان وبكل الأشكال، وليس علينا أن نشكك فيما قالوه، أو أن ندخل في مشاكل ميتافيزيقية ولاهوتية”، بحسب جعيط، الذي يتابع في موضع آخر قائلاً: “إن كل ما تذكره السيرة من أن محمداً خاف على نفسه الجنون، بالمعنى المتطور، إبان تجلي جبريل له، أو أنه فكر بالانتحار، كل ذلك لا يمكن قبوله. المقصود بالرواية أنه كان رجلاً مندمجاً في مجتمعه، عادياً جداً، وأنه فوجئ بأمور لا تطاق وتتجاوز شخصه البسيط”.
حتى الفكر الوضعي الحديث لا يجرؤ على القول إن الأنبياء مرضى نفسياً، “بل يتحدث فيبر عن ظواهر مرضية وعن هلس بخصوص تجارب أنبياء بني اسرائيل في رؤيتهم الله جهاراً بالمعبد، وفي التخبطات الجسدية التي يقومون بها”.
ويستحضر مؤرخنا أمثلة كثيرة حول ذلك، من مثل “أنبياء الهند الذين يكثرون من الزهد ويمنعون عن أنفسهم الأكل، فتتجلى لهم أمورٌ تبعاً لقساوة هذا الانضباط، ولكن أيضاً لأنهم كانوا مهووسين بالماورائي وبالله، وهكذا أيضاً تم تفسير رؤية المسيح بعد صلبه من طرف أصحابه بأنه هلس، لكنه قائم على المحبة المفرطة والأسف العميق”. واستطراداً، “كان محمد مؤسساً فريداً لأنه مؤسس فرد، سوى أن القرآن تابع لتقليد التوحيد السامي، وهذا أمر طبيعي، فالكل يسبح في تاريخية الشرق الأدنى”.
التأريخ والمنهج
ثمة “هوّة منهجية” وبرزخ عريض يفصل بين التعاطي مع التاريخ الإسلامي ومع الإسلام كدين، في العالمين العربي والإسلامي من جهة، وفي الغرب من جهة ثانية. وفيما خص ذلك، ينتقد جعيط الاستشراق ويعتبر أن ما يعيبه الباحثون العرب والمسلمون على الاستشراق الجديد هو “انفلاته من عقاله وابتعاده عن الصرامة المنهجية التاريخية بتعلّة الصرامة ذاتها أو حباً للجديد”.
لكنه ينتقد أيضاً خجل المسلمين من إجلاء الحقائق التاريخية خوفاً من الضغط الاجتماعي، مشدداً على أن “لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب والمسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم، بالمناهج المعترف بها عالمياً”.
لكن أكثر ما يلفت الانتباه، إلى جانب الجهد الكبير والمحترَم المبذول من قبله في “التأريخ الجديد” للسيرة، هو أنه يتطرق في أكثر من مكان في عمله، وخصوصاً في “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” إلى ما يمكن أن نعتبره “نبوءة” تحققت لاحقاً وواجهها هو نفسه بالفعل، واجهها في الجزء الأخير من ثلاثيته والمعنون “مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”. فهو كان يخشى “أن الباحث قد يواجه اللامبالاة بنتائجه العلمية، لانعدام الاهتمام والمؤسسات اللازمة”.
وبالفعل، يبدو أن عمله وكتاباته في السيرة، والتجاهل الذي قوبلت به في جزأيها الأولين، أثار عنده نوعاً من الإحباط انعكس على الجزء الثالث والأخير من السلسلة، على ما يلاحظ الكاتب والمثقف التونسي محمد الحداد، الذي كتب محتفلاً بصدور كتاب “تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” قائلاً: “أيها المسلمون… انتبهوا! لقد كتب هشام جعيط كتاباً”.
كتاب جعيط يمثل طريقة جديدة في قراءة السيرة النبوية المكية، وكان من المفترض بهذا الكتاب أن يكون حدثاً، خاصة أن قلة من المؤرخين العرب المعروفين يكتبون في هذا المجال
يعتبر الحداد أن “كتاب جعيط يمثل طريقة جديدة في قراءة السيرة النبوية المكية، وكان من المفترض بهذا الكتاب أن يكون حدثاً، خاصة أن قلة من المؤرخين العرب المعروفين يكتبون في هذا المجال. نحن دائماً نشتكي من كون المستشرقين يكتبون عن قضايانا وبلداننا، لكن، ها قد أتى شخص معترف به أنه من المؤرخين والفيلولوجيين الكبار، وحطّم الاحتكار الاستشراقي عن أحقية، وكان يفترض به أن يلقى اهتماماً كبيراً، لكن ما فاجأني هو هذا الصمت الرهيب الذي قوبل به عمله. حتى بعض الصحف التي كانت تأخذ آراءه في السياسة، سكتت عندما كتب في السيرة”.
في الجزء الثالث والأخير من عمله عن السيرة، يتناول هشام جعيط معركة بدر وما تلاها، ويتطرق إلى أسْطرة بعض الصحابة بناء على الصراع السياسي بين العباسيين والأمويين، وغير ذلك. لكن، يمكن لمن قرأ الثلاثية كاملة، أن يلاحظ الفوارق بين الجزأين الأولين والجزء الثالث والأخير. وحول ذلك يختم محمد الحداد حديثه عن هشام جعيط بالقول: إن “التجاهل يقتل المثقف بالفعل، لأنه سيتساءل عن جدوى متابعة عمله ومؤلفاته، وهو يجد نفسه أمام جبال من الصمت، ولن يبذل نفس المجهود الذي بذله في البداية”.
رصيف 22