ما بعد الكنيسة: لماذا يجب اعتبار «التقدمية» المعاصرة منظومة دينية؟/ محمد سامي الكيال
أدت المراجعات التاريخية والفلسفية للدعوات التحررية والتنويرية في القرون الماضية إلى تراجع الفهم الكلاسيكي لـ«التقدمية» الذي انبنى في جانب أساسي منه على ثنائية الحقيقة/الخرافة، فالتقدميون حملوا، وفق ذلك المنظور، نمطاً من المعرفة، المستندة إلى منظومتين أساسيتين: منظومة الحقيقة العلمية، التي قدمت نفسها بوصفها صيغاً مطابقة للطبيعة وقوانينها، وعززت موقفها بالإنجازات التكنولوجية، التي غيّرت أنماط الحياة بشكل جذري؛ ومنظومة الحقوق الفردية والاجتماعية، التي كثيراً ما فُسّرت بوصفها حقوقاً طبيعية، أو نتيجة عقد اجتماعي، يقوم على أساس التنازل عن جانب من الحق الطبيعي، مقابل نمط من التنظيم السيادي، يضمن إشباع حاجات/حقوق البشر الأساسية.
منظومتا الحقيقة والحق التقدميتان اعتبرتا نفسيهما غالباً في مواجهة مفتوحة مع فكر خرافي ديني، يمثّل، بشكل من الأشكال، مرحلة طفولة الوعي البشر، ما قبل اكتشاف قوانين الطبيعة الفعلية، مدعوماً بنمط من الهرمية الأبوية، التي لا تعترف بالحقوق الطبيعية للبشر، وتحصر المنافع بعدد محدود من أصحاب الامتياز، الذين من مصلحتهم استمرار هيمنة الخرافة، للحفاظ على امتيازاتهم.
عمل كثير من المفكرين، خاصةً في القرن الماضي، على إظهار مدى «الخرافة» في هذه الرواية التقدمية، بدءاً من نقد المفهوم التقليدي للحقيقة العلمية نفسها، واعتباره مبنياً بدوره على منظور ميتافيزيقي، لم يستطع تحقيق قطيعة فعلية مع الفكر الديني، الذي لم ينكر، في كثير من الأحيان، وجود قانون للطبيعة، متعالٍ عليها ومحرّك لها، ويجب بالتالي تنظيم حياة وفكر البشر على أساسه؛ مروراً بنقد فلسفات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، التي قامت أيضاً على فهم أسطوري للحقوق، يُغفل غالباً عوامل مثل القوة والسيادة والهيمنة والأيديولوجيا؛ وصولاً إلى نقد التنظيم الاجتماعي التقدمي، المرتبط بنموذج الدولة الحديثة، الذي لا يقلّ هرمية وأبوية عن الأنظمة التقليدية، دعك من مسؤوليته عن عدد من أبشع الوقائع في التاريخ الإنساني، مثل الاستعمار والحروب العالمية والإبادة الجماعية.
يستعير الفكر «التقدمي» المعاصر كثيراً من عناصر هذا النقد للفكر التنويري والتحرري، دون أن يتخلّى عن وصف نفسه بالتقدمية، أو عن اتهام خصومه باتباع الخرافة والتقليد البالي، ما يوقعه في تناقض منطقي ومنهجي من جهة؛ ويجعله من جهة أخرى فاقداً لأي معيار للتمييز بين التحرري والقمعي، فتصبح «التقدمية» Progressive مجرد الاتفاق مع دعوات وخطابات جاهزة، يُعتبر تأييدها دخولاً إلى معسكر التسامح والانفتاح؛ ونقدها، أو حتى التشكيك فيها، خروجاً من ذلك المعسكر إلى خانة الجهل والشعبوية، ما يجعل النقاش الاجتماعي متعذّراً، والمواقف الاجتماعية والسياسية أشبه بفعل لإثبات الولاء أو التمرّد. الأمر الذي يطرح أسئلة مهمة عن الوظيفة الفعلية للفكر «التقدمي» المعاصر، والأسباب التي تجعله مبنياً بذلك الأسلوب المتناقض منهجياً ومنطقياً.
الوظيفة الطقسية
يمكن انتقاد الأديان المنظّمة من زوايا متعددة، منها الزاوية التقدمية المذكورة سابقاً؛ وأيضاً الزاوية الروحانية والإيمانية البحتة، على طريقة عدد كبير من المفكرين والمتصوفين، الذين اعتبروا أن المؤسسات الدينية ترخي حجاباً على النزعات الوجدانية الأعمق في الذات الإنسانية، إلا أنه من الصعب إنكار الوظائف الاجتماعية التي لعبتها الأديان عبر تاريخها، وعلى رأسها تنظيم عدد من الطقوس الجمعية، التي تؤمّن تماسك الجماعة، وتساهم في تحديد هويتها، وتنشئ قنوات للتواصل الإنساني، مثل طقوس الصلاة والأعياد والزواج والولادة والوفاة، وتحديد المُحرّم والمباح، المقدّس والمدنّس، الصحيح والخاطئ.
عوّل التقدميون دائماً على مصادر بديلة لتأدية هذه الوظائف، على رأسها العقل والقانون، اللذان يضمنان، حسبهم، نمطاً من التنظيم الاجتماعي المدني العقلاني، يحرر البشر من الوهم والخرافة، ويؤمّن تواصلهم الجمعي في الوقت نفسه، ولعل حركات مثل عبادة العقل وتبجيل شهداء الثورة، التي عرفتها الثورة الفرنسية في عصر الإرهاب ونزع المسيحية، من أكثر الأمثلة وضوحاً على عناية التقدميين بإيجاد بدائل للوظيفة الطقسية للأديان، إلا أن هذه الحركات باءت بالفشل، ليس فقط بسبب تعارضها مع مبدأ حرية المعتقد، الذي كان على رأس شعارات التقدميين، بل أيضاً بسبب الاختلاف المنهجي بين العقل والقانون من جهة، والطقس الديني من جهة أخرى، فمن الشروط الأساسية للعقلانية، السماح بالجدل والاختلاف، الأمر الذي يعيق نشوء طقس جمعي، قائم على التماثل والاندماج غير المشروط؛ في ما يحدد القانون الأطر العامة للتعاملات الاجتماعية، والعلاقة بين جهاز الدولة والمؤسسات الاجتماعية والمواطنين، وبإمكانه أيضاً نشر نوع من الفضائل المدنية في الحيز العام، إلا أنه غير قادر على إنشاء مجال وجداني جمعي مترسّخ، يتسم بالبداهة، ويتغلغل في التقليد الاجتماعي المعاش.
عملت الحركات القومية اللادينية في ما بعد على علمنة كثير من العناصر والطقوس الدينية التقليدية، تحت مسمى «الهوية الوطنية» أو «روح الشعب» لتصبح الأعياد القومية والانتماء الوطني بديلاً، غير مكتمل، للطقس الديني الجمعي.
في كل الأحوال لم تستطع أكثر المحاولات تقدمية الخروج من هرمية وتعالي الأديان، فالدولة، القانون، القومية، الثورة، صارت كيانات متعالية جديدة، في ما فشلت الدعوات اللاسلطوية، التي انتبهت إلى التماثل بين تعالي الدولة والكنيسة، ودعت للتسيير الذاتي المتحرر من كل سلطة عليا، في تحقيق نجاحات كبيرة في التنظيم الاجتماعي.
طقوس غير اجتماعية
بناءً على هذا فمن الممكن ملاحظة أن ما يسمى بـ«التقدمية» اليوم، يلعب دوراً طقسياً جديداً، بالنسبة للعالم البورجوازي الغربي، والفئات العالمثالثية المتأثرة فيه، فهو يحدد مجالاً للمحلّل والمحرّم؛ ممارسات وأطعمة وألفاظا يجب الابتعاد عنها، وأخرى تحوي نوعاً من البركة؛ تحديدات هوياتية؛ فرزاً بين جماعة المؤمنين والآخر غير المؤمن؛ رموزاً مقدّسة ومدنّسة؛ فضلاً عن شعور دائم بالذنب والخطيئة، يعوّض بالميل للاعتراف والتطهّر الدائم من الخطايا.
إلا أن الطقس الديني – التقدمي المعاصر يفتقر إلى الحميمية الاجتماعية للطقس الديني التقليدي، والفضائل المدنية للدعوات التقدمية الكلاسيكية، فهو لا ينشئ أي مجال للتواصل اللصيق بين البشر، ولا يؤمّن الحماية والرعاية المجتمعية، بل ربما كان العكس صحيحاً، إذ يحاول رسم دائرة سحرية حول الأفراد المحتفين بفردانيتهم، لدرجة تجعلهم يرون في كل تواصل ممكن تهديداً لحساسياتهم، أو اعتداء مصغّراً عليهم. كما أنه يفتت الحيز العام، فيصبح من المتعذّر نشوء أي نوع من الفضيلة المدنية، البورجوازية أو حتى العمالية، ما يدفع الأفراد لممارسة طقوسهم «التقدمية» ضمن حشد سلبي، متماثل لكن غير متراص، ويُغرق البشر في عبادة لذوات مفردنة، لا تقل خرافية عن أي كيان متعالٍ فوق طبيعي، دعك من أنه يبقيهم مكشوفين أمام كل أنواع الهيمنة والاستغلال والانتهاك، التي تمارسها حكومات وشركات الكبرى، باتت في معظمها من أكثر أنصار الفكر «التقدمي» إخلاصاً.
يمكن استخلاص نتيجتين من هذا: الأولى أن «التقدمية» المعاصرة ليست دعوة سياسية، تهدف إلى مكافحة التمييز، أو تغيير العلاقات الاجتماعية والسياسات العامة، بل منظومة عقائدية، بواجهة عصرية وتحررية، يجد فيها كثير من الأفراد تعويضاً، شديد الاختلال، عن اضمحلال الكنيسة، وتراجع الدول الوطنية ومؤسساتها الوسيطة، مثل النقابات ومؤسسات الرعاية الاجتماعية؛ والثانية أن الجدل السياسي والمنطقي مع هذه الأيديولوجيا غير مجدٍ على الأغلب، فهو قد يؤدي إلى شعور معتنقيها بالاعتداء على سلامهم وتوازنهم النفسي الهش؛ وتعريفهم للذات؛ فضلاً عن حرمانهم من بعض المعنى والعزاء، الذي تقدمه لهم عقيدة، تصوّرهم دائماً بوصفهم ضحايا لقوى لا يمكن تحديدها بدقة، في شرط يفتقر للأمان والاستقرار.
في أهمية التجديف
إلا أن لا جدوى الجدل السياسي مع معتنقي منظومة الاعتقاد «التقدمي» لا يعني ضرورة الخضوع لعقائدهم، أو القبول بالشرط القائم بكل مشاكله، لاسيما مع تقدم «ثقافة الإلغاء» ومحاولة فرض الأيديولوجيا التقدمية في كل مناحي الحياة، وعلى جميع البشر، ما يؤدي لكثير من التوتر الطائفي بمعنى الكلمة.
ربما كان اللجوء إلى حيلة قديمة، مرتبطة بالتنوير الراديكالي، وهي التجديف، مناسباً للغاية في هذا الشرط، فقد لعب التجديف في ظروف التحكّم الدوغمائي دوراً كبيراً في انتزاع مساحات التحرر، عبر أساليب كثيرة، منها التهكّم والمحاكاة الساخرة والتعرّض للرموز المقدسة والجرأة في نقد العقائد الراسخة. والأهم أن التجديف مرتبط بنيوياً بحرية الضمير والمعتقد، فمادام من حق المؤمنين ممارسة طقوسهم، والدعوة إليها في الحيّز العام، فمن حق غير المؤمنين، بوصفهم مشاركين في ذلك الحيّز، التجديف بها، وعدم القبول بفرضها عليهم، ما يؤمن التعددية الفعلية للمواقف والمنظورات الحياتية والأنماط الثقافية، والأهم مساواة الجميع، بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم، في المشاركة في الحياة العامة، وحريتهم بصياغة حياتهم الخاصة.
أما مكافحة التمييز والعنصرية، والقضايا الاجتماعية والبيئية، وأساساً الاستغلال والاضطهاد الطبقي، فهي مجال للعمل السياسي والنضال الاجتماعي، لا علاقة له غالباً بمنظومات الاعتقاد التقدمية المعاصرة، ولعل التجديف أيضاً مدخل مناسب لمعالجة هذه القضايا بشكل فعّال.
كاتب سوري
القدس العربي