دمشق: عن الضحك في زمن الحرب/ سلوى زكزك
في الحرب لا نصر على الضحك وقد لا نجرؤ، لكن إن فعلنا، نرفع صوت القهقهات، نوسع مساحتها، ونكررها، نضحك أكثر ، أعلى وأوسع، وندعي أن فمنا عاجز عن الإقفال كي لا نتوقف عن الضحك، في الحرب نترك الحدث يصنع ضحكاته ونستسلم.
الحرب والضحك فعلان متناقضان، هكذا هي القاعدة، من يغيّب من؟ ومن يؤجج من؟ ومن ينمو على حساب الآخر ومن يموت أولاً؟
الحرب والضحك تفصيلان حياتيان، يعبثان كل على طريقته بتوازن حالة مستقرة، لدرجة تبدو وكأنها ثابتة، كأن تعبث الضحكة بسطوة الحزن، وتعبث الرصاصة بوجه يبتسم.
صرخ زوجها: اخرجي يا مجنونة لقد سقطت قذيفة في أرض الدار!
كانت تغسل رأسها من بقايا الحنة، الماء المتدفق خفف من صدى دوي القذيفة، دوي اعتادت عليه كما الجميع، لكنها لم تتوقع يوماً أن تصل القذيفة إلى أرض بيتها، دلقت ماء الدلو كله على رأسها، لبست بسرعة برنسها وخرجت. من شباك المطبخ شاهدت تجمع الجيران ، وزوجها المرتجف يشرح لهم كيف دارت القذيفة حول رأسه واستقرت محدثة حفرة صغيرة في الأرض. كان الجميع يبارك لزوجها سلامته وعدم انفجار القذيفة، عبرت نحو غرفة النوم ، ارتدت على عجل ثيابها وخرجت، صارت فوراً في مستقر القذيفة التي وصفتها بسخرية عارمة : إنها صغيرة جداً، ثم أصابتها موجة متواصلة من الضحك، ضحكت باستخفاف أثار غضب زوجها ودهشة الجيران، نظرت إلى زوجها وقالت: طالما أنها سقطت بهدوء ولم تنفجر! كان عليك تركي أستكمل استحمامي.
للحرب أنياب وضواحك، تتلبس وجه الناس وتضحك، يتبادل البشر والحرب أنخاباً ضاحكة على شرف الموت أو النجاة، لا فرق أيضاً.
في الحرب يضحك الناس بشدة لكنهم يرفقون كل ضحكة بعبارة “الله يجيرنا من شر الضحك”، وكأن الأخير حالة معادية للحرب تستوجب العقاب.
في الحرب تأتي الضحكة متخفية بزي غريب، تجيء في غير محلها كما يقولون، لكنها تأتي في عز أوانها، الفرق شاسع ما بين المكان والأوان هنا، المكان مجرد مساحة صماء، لا تأثير أو تعريف لها إلا نسبة إلى الأوان، أي أن التوقيت هو الذي يجعل من هذا المكان المستقبل للضحكة، حافلاً ومحتفلاً بها كحدث يغير الحالة العامة ويكسب المكان تعريفاً جديداً مرتبطاً به ويمتد عبر الزمن.
يعمل فارس في منجرة للخشب، شفرة المنشرة الحادة تأكل ثلاثة أجزاء من أصابع يده اليمنى، يصرخ، يهرع العابرون لنجدته، في الطريق تسقط قذيفة، لكنها بعيدة منه، يصل إلى المستشفى الخاص الذي كان يخاف دخوله دوماً بسبب عجزه عن دفع كلفة العلاج فيه، يدخل قسم الإسعاف، يضمدون جراحه، يعتذرون عن عدم إجراء أي عملية جراحية، لأن غرف العمليات محجوزة لعمليات الجراحة الكبرى لطوارئ الإسعاف فقط! لا يسألونه عن سبب الحادثة ولا عن مكان الإصابة، اسمه ودوي القذيفة في مكان معروف ومصنف بأنه منطقة صديقة تفترض أنه قد أصيب بإحدى الشظايا.
على باب المستشفى يضحك فارس طويلاً، يحدق بيده المضمدة ويتحسس الفراغ الحاصل فيها ويضحك، يضحك بشدة وهو يقول لجاره: “لو ما في حرب كنا دفعنا عشرات الآلاف”.
في الحرب تعتبر خسارة أجزاء من الأصابع أمراً بالغ البساطة، يستحق الضحك لا البكاء، على رغم الألم الذي يتبخر عندما تقول لنفسك وللآخرين بأنك تداويت في المستشفى الخاص صاحب الاسم المشهور والمرعب، مجاناً.
هل ثمة اختصاص اسمه صناعة الضحك؟ أم أن الضحك لا يحتاج إلى صناعة؟ يتوالد من رحم الأوجاع، يتسلل كاللص ويقدم نفسه مجلجلاً عبر قهقهة، ابتسامة واسعة، فم مفتوح من الدهشة، أو عيون تضحك بخجل ومواربة تكز على أسنانها كي لا تحدث الضحكة أثراً ولا تصدر صوتاً.
في الحرب لا نصر على الضحك وقد لا نجرؤ، لكن إن فعلنا، نرفع صوت القهقهات، نوسع مساحتها، ونكررها، نضحك أكثر ، أعلى وأوسع، وندعي أن فمنا عاجز عن الإقفال كي لا نتوقف عن الضحك، في الحرب نترك الحدث يصنع ضحكاته ونستسلم.
عليا بائعة خضار في سوق شعبي، لطالما اشتكت من التعب ومن أعباء المنزل الريفي والعائلة الكبيرة والزوج العاطل من العمل، ومن سوق الخضار والتسوق ومجاملة الزبائن والشجار مع بعضهم /ن أحياناً. لطالما أرهقها الجلوس في الطريق وحر الصيف وبرد الشتاء، وأتعبها طول الطريق وصعوبة المواصلات من بيتها إلى السوق وبالعكس، جاءت يوماً إلى السوق ورأسها مضمد، كان وجهها متورماً وتحت عينيها هالات زرق من أثر إصابتها بشظية صغيرة، إنما حادة ومدببة اخترقت رأسها وهي عائدة إلى المنزل، يومها تغير سلوك الجميع في السوق، أعدت الجارة القهوة لعليا، والصيدلاني الذي اعتاد الشراء منها منحها مسكناً بالمجان، اشترى معظم الزبائن منها دون غيرها من البائعات الريفيات، نفدت خضرواتها بسرعة، وقبل عودتها الى المنزل تمنت لها زميلتها الشقاء: “الله يبلي ويعين، شقفة الحديدة نفعتك وما ضرتك)، ضحكتا بشدة حتى سالت الدموع، كل منهما تبكي على حالها، عليا تضحك ألماً ولسان حالها يقول لو تعرفين مدى وجعي، وشريكة الشقاء تضحك عجزاً ورغبة في العودة باكراً إلى البيت.
للحرب أذرع متطاولة، تضرب وتختفي، تجرح وتتخفى وراء ستارة من طلاوة الكلام، تدعي أنها ضرورية لتنظيم الكون، تبرر بطشهم تحت ذريعة معالجة الاختلال الحاصل وأن لا حل إلا في الحرب.
الحرب خزان من الغياب، الكل غائب وإن حضر، سيدة الغياب هي في حضور قاهر ومخيب لجدوى حضور كل من عداها، تتحول إلى غطاء يبرر الغياب، هي الحرب، غطاء يتقبل لا عودة الجميع، هكذا هي الحرب، غطاء يصف الغائبين بألفاظ حاسمة ويجب أن تكون عامة، خونة، مرتزقة، تجار أزمة، مغرر بهم، ضعاف نفوس، أشاوس، أبطال، أولاد البلد.
في مركز تجمع الحافلات العامة التي تنقل الركاب من وسط المدينة إلى أقصى غربها، يتجمع الناس، كل الناس نساء، بالكاد تحصي رجلين هرمين وبضعة أطفال، حتى الأطفال من الذكور قليلي العدد، ازدحام خانق والسائق مصر على عدم فتح باب الحافلة، تصرخ النساء: افتح، تأخرنا، لا حافلة أخرى في المكان، والسائق لا يرد على أحد، يشرب الشاي من ترمسه بلا توقف.
يشكونه لمراقب الخط، يقترب منه ويسأله، يجيب السائق بأنه مضطر للوقوف أكثر من 10 دقائق، حرارة المحرك مرتفعة جداً، يصرخ بالراكبات الغاضبات: “الباص حميان ويحتاج وقتاً، تضحك النسوة، يتغامزن، تصرخ سيدة: يا حسرة يغيب الرجال، يموتون، وتحمى الحافلات فقط، تقول أخرى: ومن يبقى من الرجال ميت على قيد الحياة ويضحكن. يضحكن والسائق يتلقف ضحكاتهن بضحكة أوسع، يفتح باب الحافلة ويناديهن: اطلعوا حبيباتي.
احتفلت النساء بغياب بعض الرجال، وضحكن من خلو الأسرة من روائحهم التي لا يحبونها، تذرع الرجال بحاجة النسوة الأرامل والوحيدات للحماية والرعاية وحاجة أطفالهن للحليب، وتزوجوهن في ليلة غائمة، تزوجوهن دونما ضحكة واسعة أو أغانٍ صاخبة أو إنارة، لكنهم ضحكوا في العتمة وحدهم فرحاً بأجساد النساء المهجورة، وبعض النساء تزوجن بالسر، انتقلن من عتمة الوحدة والغياب إلى عتمة شبق الرجال الطامعين بالمزيد. امرأة تضحك بشدة عند كوة إصدار البيان العائلي: تعلمها الموظفة بأنها متزوجة من ثلاثة رجال في آن معاً، تعلن: الأول ذهب ولم يعد ولا تملك أي وثيقة أو طريقة لتطليقه والثاني متأكدة من موته لكنها لا تملك إثبات وفاة والثالث تزوج بالأمس زوجته الرابعة، وهي هنا لتثبت نسب ابنتها منه كي لا يضيع حق الطفلة، تقول الزوجة للموظفة أن من يعقد القران، يعقده على عجل، لا يطلب ورقة مطلق تثبت عزوبية الزوجة أو الزوج.
تضحك الموظفة والمراجعون والمراجعات، أما الزوجة فتقول: “ع قبال الرابع صيت غنى ولا صيت فقر”.
يعرّف الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الإنسان بأنه الكائن الضاحك الوحيد في العالم، لا يربط ضحكته بالحرب أو بالسلم، ولا بالفرح أو الحزن، ولا يؤكد ارتباط أي من الكائنات بالضحك سواه، يبدو أن كل ما نتخيله غير دقيق عن كائنات أخرى تضحك أو تبتسم، أو عبر صور متناقلة بغزارة، هل تلقي الحيوانات النكات؟ هل يضحك الحجر عندما تزل قدم أحدهم به؟ الإنسان وحده من يصوغ المتناقضات ويضحك بها ولها، وحده من يموت في الحرب ضاحكاً رغما عنه أو برضاه لا فرق، للضحكة سطوتها ودربها غير المغلق. النافذ ما بين إطباق شفة وأخرى وما بين تسبيل رمش وآخر.
زعم طفل أن الرصاصة كانت تبتسم له عندما اخترقت صدغه، فاستقبلها بضحكة أوسع، لكنه لم يمت، واستمر يضحك للرصاص العابر كما لو أنه فراش ملون، والمرأة التي كانت تنشر الغسيل على شرفتها ابتسمت بشدة لأن الشظية أطاحت بجزء من شحمة أذنها ولم تثقب برميل المازوت فتخسر محتوياته أو ينفجر.
للحرب أنياب وضواحك، تتلبس وجه الناس وتضحك، يتبادل البشر والحرب أنخاباً ضاحكة على شرف الموت أو النجاة، لا فرق أيضاً.
للضحكات في زمن الحرب ذاكرة خاصة، عميقة ومدوية، ليس تكريساً لبصمة الحرب، بل تشديداً على الشيفرة الوراثية للإنسان، كائن لا يضحك، هو كائن خارج الإنسانية. ولتضحك الحرب كما شاءت أو تشاء، ستلعب وحيدة حين تعتقد أنها قادرة على تصنع ضحكة أو إطلاقها دونما إنسان مقابل، هو الهدف وهو الوسيلة وهو المآل، ونهاية الحكاية ومبتدأها، القيمة هنا للفعل، من يصنع الضحكة؟ من يسخر منها؟ من يتحايل عليها؟ ومن يفوز بها؟ ومن يحفظها عميقاً من أجل الحياة، الحياة لا الحرب، لتبدو الحرب هنا مجرد ضحكة تبدت ومن ثم اختفت.
درج