سوزان سونتاج: ربما كان اختراع الكاميرا أهم من المطبعة
حوار جيوفري موفيوس مع سوزان سونتاج
نشر في عدد يونيو 1975 من مجلة بوسطن ريفيو
ترجمة: زين الشافعي
جيوفري موفيوس: في أحدث مقالاتك في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، والتي كانت عن التصوير الفوتوغرافي، كتبت: «لا يمكن لأي عمل أدبي روائي أن يحمل أصالة الوثائق»، وأنه يوجد «في أمريكا عداء مريب مع كل ما يحمل سمة الأدب». هل تعتقدين أن الأدب الروائي في طريقه إلى الزوال؟ هل ستنتهي الكلمة المطبوعة؟
سوزان سونتاج: يعاني كتّاب الأدب من قلق شديد إزاء انعدام المصداقية. لم يعد هناك اطمئنان تجاه الكتابة الأدبية الصريحة، بالإضافة إلى محاولات إضفاء الواقعي على الروائي. ومن أمثلة ذلك مؤخرًا، فيليب روث في كتابه «حياتي كرجل»؛ يحوي الكتاب ثلاث روايات قصيرة، كُتبت أول روايتين -كما يزعُم- بواسطة الراوي الأساسي في الرواية الثالثة. هو أمرٌ شائعٌ هنا أن أن تحمل الوثيقة التي تحتوي شخصية الكاتب وتجربته سلطة أكبر من الأدب الروائي، ربما أكثر من أي بلد آخر، وهذا يعكس امتداد الرؤية السيكولوجية التي أصبحت تسيطر على كل شيء. لقد أخبرني بعض الأصدقاء أن كتابات الروائيين الوحيدة التي ما زالت تثير انتباههم هي رسائلهم ومذكّراتهم.
موفيوس: هل تعتقدين أن سبب حدوث هذا هو حنين الناس إلى الماضي، والالتقاء به وبذويهم والآخرين مجددًا؟
سونتاج: أعتقد أن الأمر باعثه انقطاع عن الماضي أكثر مما هو اهتمام به. لا يؤمن العديد بقدرة المرء على إماطة اللثام عن العالم والمجتمع، لكن فقط عن نفسه.. «كما يراها». وفي اعتقادهم ليس للكتّاب سوى الإدلاء بشهادتهم، إن لم يكن الاعتراف. وأن الكتابة ليست إلا عن رؤيتك للعالم، وأن تضع نفسك على المحكّ. على الأدب أن يكون «حقيقيًا..» مثل الصورة الفوتوغرافية.
موفيوس: لم تكن رواية «الراعي» ولا «عدّة الموت» سيرة ذاتية.
سونتاج: في الروايتين اختلقت محتوى أكثر إلحاحًا من محتوى السيرة الذاتية. وهناك قصص حديثة مستوحاة من حياتي بالفعل؛ مثل قصة «مشروع رحلة إلى الصين» التي نُشرت في إبريل عام 1973 في مجلة أتلانتيك الشهرية. لكن لم أقصد القول إن الميل إلى الإفادات الشخصية والاعترافات، الواقعي منها والروائي، هو الدافع الذي يحرِّك القراء والكتاب الطَموحين. الميل إلى الرؤية المستقبلية والتنبؤ على الأقل بنفس الأهمية. لكن هذا الميل يؤكد أيضًا سيادة الخيال على الماضي التاريخي المتيقّن. هناك بعض الروايات التي تقع أحداثها في الماضي، مثل أعمال توماس بينشون، هي حتمًا خيال علمي.
موفيوس: الاختلاف عندك بين كتّاب السيرة الذاتية وكتّاب الخيال العلمي يذكّرني بمقطع من إحدى مقالاتك في نيويورك ريفيو، التي ذكرت فيها أن بعض المصوّرين ينصبون أنفسهم علماء، والبعض الآخر أخلاقيين. العلماء «يجعلون من العالم مادة قابلة للتشكيل» بينما الأخلاقيون «منكبّون على القضايا الصعبة» ما هو نوع القضايا التي تعتقدين أنه يجب على المصوّرين الأخلاقيين التركيز عليها؟
سونتاج: أنا لا أرغب في إبداء ملاحظات توجيهية الناس، وما الذي يجب أن يفعلوه، لأنني دائمًا ما آمل أن يفعلوا العديد من الأشياء المختلفة. يتركّز اهتمام المصوّر كأخلاقيّ على الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية والحوادث، الخراب والدمار. عندما يقول المصور الصحفي «لم أجد شيئًا حتى أصوِّره»، هذا عادةً ما يعني أنه لم يجد ما هو مريع ليصوره.
موفيوس: والعلماء؟
سونتاج: أظن أن الاعتقاد السائد في التصوير الفوتوغرافي هو أن أي شيء بإمكانه أن يكون مثيرًا للاهتمام إذا صورته. يتضمن هذا اكتشاف الجمال؛ الجمال الذي يمكن أن يكون موجودًا أي مكان، ولكن يُعتقد عادةً أنه يسكن العشوائية والركاكة. يخلط التصوير الفوتوغرافي بين مفهوميّ «الجميل» و«المثير للاهتمام». إنه نمط يضفي نظرة جمالية على العالم أجمع.
موفيوس: لماذا قررت الكتابة عن التصوير الفوتوغرافي؟
سونتاج: لأنني خضت تجربة أن أكون مهووسة بالصور. ولأنه تقريبًا كان لجميع القضايا الجمالية والأخلاقية والسياسية المهمة، وسؤال «الحداثة» نفسه و«الذوق الحداثي»، دور في تاريخ التصوير الفوتوغرافي الوجيز نسبيًا. قال ويليام إيفينز عن الكاميرا إنها الاختراع الأهم على الإطلاق منذ المطبعة. وربما اختراع الكاميرا أكثر أهمية لتطور الإدراك. إنها كذلك، بالفعل. استخدامات التصوير الفوتوغرافي التي التحمت بثقافتنا، وفي المجتمع الاستهلاكي، كل هذا يجعل من التصوير الفوتوغرافي أمرًا مؤثرًا ومثيرًا للاهتمام. في جمهورية الصين الشعبية، لا يملك الناس نظرة «فوتوغرافية»؛ يصوّر الصينيون بتصوير بعضهم والأماكن المشهورة والآثار، مثلما نفعل، لكنهم يفزعون من أجنبيّ يهرع لتصوير باب مزرعة قديم، ومحطم، ومقشور. إنهم لا يفهمون فكرة «التصويريّ» ولا يدركون التصوير الفوتوغرافي كأداة لإعادة ملاءمة الواقع وتحويله -إلى قطع- مما ينكر وجود كل ما هو غير ملائم أو لا يستحق الذكر. مثلما يُذكر حاليًا في إعلان كاميرا « Polaroid SX-70»: «لن تستطيع التوقف. فجأة، حيثما تنظر، سترى صورة».
موفيوس: كيف يمكن للتصوير الفوتوغرافي تغيير العالم؟
سونتاج: عبر منحنا قدر عظيم من الخبرة، والتي هي «بطبيعة الحال» ليست ملكنا. واختيار الخبرات التي تحمل في طيّاتها كل ما هو منحاز وأيديولوجي. بينما يظهر أنه لا شيء لا يمكن للتصوير الفوتوغرافي التهامه، إلا أنه كل ما لا يمكن القيام بتصويره يصبح أقل أهمية. فكرة مالرو عن المتحف الذي بدون جدران (المتحف المتخيّل) هي فكرة عن آثار التصوير الفوتوغرافي؛ علاقتنا باللوحات والتماثيل، وكيفية تأملها، هي حاليًا مقيّدة بالصور. ليس فقط أننا نعرف عالم الفن وتاريخ الفن أساسًا من خلال الصور، وإنما أيضًا نعرفهم بشكل لم يدركه أحد قط. عندما كنت في أورفيتو للمرة الأولى منذ بضعة أشهر، انقضيت ساعات وأنا أتأمل واجهة الكاتدرائية، لكن لم أرها حقًا -بالمعني الحديث من الرؤية- إلا بعدما اشتريت كتابًا عن تلك الكاتدرائية بعد أسبوع؛ أتاحت لي الصور رؤية «حقيقة» الكاتدرائية التي لم يكن في وسع عيني «المجرّدة» رؤيتها.
موفيوس: هذا يوضّح قدرة التصوير الفوتوغرافي على خلق نسق جديد تمامًا للرؤية.
سونتاج: تحوَّل الصور الأعمال الفنية إلى مواد معلوماتية. يحدث هذا بواسطة التوازن التي تحدثه بين الجزئي والكلّي. عندما كنت في أورفيتو، كان بإمكاني رؤية الواجهة بكاملها عند العودة للخلف، ولكن حينها لم أبصر التفاصيل. ثم كان بإمكاني الاقتراب ورؤية تفاصيل كل ما لم يكن أعلى من، لنقل، ثمانية أقدام، لكن لم يكن هناك من وسيلة أدرك بها الكلّ. ترتقي الكاميرا بالجزء إلى مستوى مميز. كما يشير مارلو، بإمكان الصورة عرض جزء من تمثال؛ رأس أو يد، والذي يبدو بكامل روعته، ويمكن أيضًا استنساخه بجانب عنصر آخر، ربما أكبر عشرات المرات، لكنه بين صفحات الكتاب ما زال يحتلّ نفس الحيّز من المساحة. وعلى هذا الأساس، يقضي التصوير الفوتوغرافي على شعورنا بالقياس.
بالإضافة إلى أنه يفعل أشياء عجيبة في شعورنا بالزمن. لم يحدث أبدًا في التاريخ البشري أن عرف الناس شكلهم عندما كانوا أطفالًا. كلَّف الأغنياء بإعداد البورتريه لأطفالهم، لكن كان فن البورتريه محدودًا منذ عصر النهضة خلال القرن التاسع عشر بمفاهيم الطبقة الاجتماعية، مما منع الناس من الحصول على معرفة يعوّل عليها عن شكلهم في الماضي.
موفيوس: في بعض الأحيان كان يحوي جسم شخص آخر مع رأسك.
سونتاج: أجل. والسواد الأعظم من الناس لم يستطيعوا تحمّل ثمنه، ولم يعلموا أبدًا كيف كان شكلهم حين كانوا أطفالًا. حاليًا، لدى جميعنا صور نرى فيها أنفسنا ونحن في عامنا السادس، ونرى وجوهنا ملمّحة إلى ما سنبدو عليه لاحقًا. وأيضًا لدينا نفس المعلومات عن والدينا وأجدادنا، توجد عاطفة غامرة في هذه الصور؛ إنها تجعلك تدرك لوهلة أنهم كانوا أطفالًا يومًا ما. أن يكون المرء قادرًا على رؤية نفسه أو والديه عندما كانوا صغارًا هي تجربة فريدة خاصة بعصرنا الحالي. لقد شكَّلت الكاميرا علاقات جديدة ومثيرة للأسى للناس مع أنفسهم، ومظهرهم الخارجيّ، وشيخوختهم، وفنائهم. إنه نوع من الرثاء لم يكن موجودًا أبدًا من قبل.
موفيوس: لكن هناك شيء ما في حديثك يناقض فكرة أن التصوير الفوتوغرافي يُبعدنا عن التاريخ؛ أثناء قراءتي لعامود أنتوني لويس في جريدة نيويورك تايمز هذا الصباح، دوَّنت اقتباس أليكسندر وودسايد، هو متخصّص في الشؤون الصينية-الفيتنامية ويدرّس في هارفارد. قال: «ربما ُتعدّ فيتنام واحدة من أنقى الأمثلة على المجتمع ذي الحسّ الاعتمادي بالتاريخ، والمهووس به. بينما على النقيض تحاول الولايات المتحدة باستمرار محو التاريخ، حتى تتفادى التفكير بالمنظور التاريخي؛ مقترنةَ بدينامية مع فقدان الذاكرة المتعمّد». كان الأمر صادمًا أنك تؤكدين في مقالاتك أيضًا على أننا في أمريكا مستأصلون، لا نملك من ماضينا من شيء. ربما احتفاظنا بالسجلات الفوتوغرافية هو توق إلى الانعتاق.
سونتاج: التفاوت بين أمريكا وفيتنام أمر صادم حقًا. بعد رحلتي الأولى إلى شمال فيتنام عام 1968، ذكرت في الكتاب القصير الذي كتبته «في رحلة إلى هانوي» كم كان صادمًا ميل الفيتناميين إلى الإشارات والمقارنات التاريخية، مهما كان الأمر فجًا وبسيطًا في نظرنا؛ أثناء حديثهم عن العدوان الأمريكي، تجد الفيتناميين يشيرون إلى أمر ما فعله الفرنسيون، أو حدث آخر أثناء احتلال الصين لهم، الذي استمر آلاف السنين. يعيش الفيتناميون في ظل الاستمرارية التاريخية، وهذه الاستمرارية تحوي تكرارات. إنما الأمريكيون، إذا فكروا يومًا في الماضي، لا يبالون بتلك التكرارات. أحداث كبرى مثل الثورة الأمريكية والحرب الأهلية والكساد الكبير، يجري التعامل معها كأحداث فريدة وغير مألوفة ومستقلة. إنها علاقة مختلفة مع التجربة: لا يوجد شعور بالتكرار. لدى الأمريكيين حسّ خطّي تمامًا بالتاريخ، في حالة كان لديهم حسّ بالتاريخ من الأساس.
موفيوس: وما دور التصوير الفوتوغرافي في كل هذا؟
سونتاج: العلاقة الأمريكية بالماضي لا يتضمّنها حمل الكثير منه. الماضي يعوق الحركة، ويستنزف الطاقة؛ إنه عبء، لأنه يغيّر ويناقض التفاؤل. إذا كانت الصور هي كل علاقتنا بالماضي؛ فهي علاقة غريبة وهشة وانفعالية. عندما تلتقط صورة قبل تدمير شيء ما. تتحول تلك الصورة إلى وجوده الآخر، بعد الموت.
موفيوس: لماذا تظنين أن الأمريكيين ينظرون إلى الماضي على أنه عبء؟
سونتاج: لأن، على عكس فيتنام، هذه ليست دولة «حقيقية» وإنما مُختلقة، ذات عزيمة، دولة خارقة. معظم الأمريكيين أبناء أو أحفاد لمهاجرين، وجزء كبير من أسباب قرارهم بالانتقال هنا في الأساس يعود إلى تعويض خسائرهم. كان الأمر انتقائيًا عندما حاول المهاجرون الحفاظ على رابطتهم بوطنهم وثقافتهم الأصلية، كان المحرك الأساسي هو النسيان. ذات مرة سألت جدتي من ناحية أمي، والتي توفّيت وأنا في السابعة، من أين أتت؟ قالت: «أوروبا». حتى وأنا في السادسة كنت أعلم أنها ليست إجابة وافية. قلت: «ولكن، من أين جدتي؟» كررت بحدة: «أوروبا». وحتى يومنا هذا لا أعرف من أي بلد أتى أجدادي. ولكن لدي صور لهم، أعتزّ بها، وكأنها تذكارات غامضة لكل ما لا أعلمه عنهم.
موفيوس: أنت تتحدثين عن الصور مثل شرائح قوية ومستقلة من الزمن يمكن السيطرة عليها، «شرائح متقنة» من الزمن. هل تعتقدين أننا نحتفظ في ذاكرتنا بالصور الفوتوغرافية على نحو أكمل من الصور المتحركة؟
سونتاج: أجل.
موفيوس: ولماذا تظنين ذلك؟
سونتاج: أعتقد أن الأمر له علاقة بالذاكرة البصرية. ليس الأمر فقط أنني أتذكر الصور الفوتوغرافية أفضل من الصور المتحركة، ولكن حتى ما أتذكره من فيلم ما يعادل مجموعة من الصور المتفرقة. أنا أستطيع تذكّر القصة، وسطور من الحوار، والإيقاع، ولكن ما أتذكره بصريًا عبارة عن لحظات مُختارة، حوّلتها، في الواقع، إلى لقطات. مثل ذلك في حياة الإنسان. كل ذكرى من الطفولة، أو من أي فترة ليست من الماضي القريب، هي أقرب إلى صورة فوتوغرافية أكثر منها شريط من فيلم. وقد جعل التصوير الفوتوغرافي هذه الوتيرة من الرؤية والتذكّر أكثر موضوعية.
موفيوس: هل ترين الأشياء فوتوغرافيًا؟
سونتاج: بالتأكيد.
موفيوس: هل تلتقطين الصور؟
سونتاج: لا أملك كاميرا. أنا مولعة بالصور، لكن لا أحبذ التقاطها.
موفيوس: لماذا؟
سونتاج: ربما لأنني سوف أتعلق بالأمر كثيرًا.
موفيوس: وهل هذا أمر سيء؟ هل سيعني هذا أن شخصٌ ما تحوّل من كونه كاتبًا ليكون شيئًا آخر؟
سونتاج: أنا أعتقد أن موقف المصوّر تجاه العالم يتناقض مع نظرة الكاتب للأمور.
موفيوس: كيف يختلفان؟
سونتاج: يسأل الكتّاب أسئلة أكثر. إنه أمر شديد الصعوبة عند الكاتب أن يعمل تحت افتراض أن أي شيء يمكنه أن يكون مثيرًا للاهتمام. العديد من الناس يعيشون حياتهم وكأن بحوزتهم كاميرا. لكن لا يمكنهم القول، أثناء رؤيتهم. وعند روايتهم لحدث مثير للاهتمام، عادةً ما تتلاشى تدريجيًا تلك الرواية في عبارة «ليت لو كان بحوزتي كاميرا». توجد حالة عامة من التداعي في مهارات الحكي؛ لم يعد هناك الكثير ممن يجيدون حكاية القصص.
موفيوس: هل تعتقدين أن هذا التداعي نتج عن بزوغ التصوير الفوتوغرافي من قبيل الصدفة، أم أن هناك علاقة سببية مباشرة بينهم؟
سونتاج: الحكي خطّي، بينما التصوير الفوتوغرافي لاخطّي. يمتلك الناس الآن شعور شديد التطور بالعابر والمؤقت، لكنهم ما عادوا قادرين على معرفة ما يشكّل البداية والمنتصف والنهاية. لقد فقدت النهايات والاستنتاجات مصداقيتها. كل حكاية، مثل جميع أنواع العلاج النفسي، لا يبدو أن لها نهاية. ولذلك أي نهاية ممكنة تبدو متعسفة وذاتية، وأصبح الأسلوب الذي اعتدنا عليه للفهم هو التعامل مع الأمور وكأنها قطع أو أجزاء من شيء أكبر، ربما لا حصر له. أعتقد أن هذه الحساسية ذات صلة بانعدام الحسّ التاريخي الذي تحدثنا عنه منذ قليل. أنا أتعجّب وأشعر بخيبة الأمل من هذه الرؤية شديدة الذاتية التي يرى بها أغلب الناس العالم، إذ بإمكانهم إعادة تشكيل كل شيء ليتناسب مع همومهم وأزماتهم، لكن ربما هذه، مرة أخرى، سمة أمريكية للغاية.
موفيوس: ويتعلّق كل هذا أيضًا بامتناعك عن الاعتماد على تجربتك الخاصة في كتابة أعمالك الروائية.
سونتاج: يتراءى لي أن الكتابة بصفة رئيسية عن نفسي هي طريقة ملتوية لكتابة ما أريد. لم أعتقد يومًا أن ذوقي أو حياتي بمسرّاتها وعثراتها لهما طابع نموذجيّ يُقتضى به، رغم أن تطوري ككاتبة كان منصبًّا على حرية أكثر مع «الأنا»، واستخدام تجربتي الخاصة بشكل أكبر. حياتي هي كل ما أملك، وكل ما خيالي يملك. ولذلك أحب إحكام السيطرة عليها.
موفيوس: هل تحضر هذه الأسئلة في ذهنك أثناء الكتابة؟
سونتاج: أثناء الكتابة لا أبدًا. لكن أثناء الحديث عن الكتابة، بالتأكيد. الكتابة هي عمل غامض؛ يجب على الكاتب أن يكون واعيًا بطبقات مختلفة من المفهوم وكيفية تنفيذه، وأن يكون في حالة قصوى من التأهب والاستشعار، وأيضًا في حالة من البساطة والجهل. رغم أن هذا ينطبق على أي نوع من الفن، إلا أنه يرتبط أكثر بالكتابة؛ لأن الكاتب على عكس الرسّام أو الملحّن يعمل على وسيط يستخدمه الجميع طوال الوقت خلال حياتهم. قال كافكا: «ينتزع الحديث القيمة، والجديّة، والحقيقة من كل شيء أفكر فيه». في اعتقادي أن أغلب الكتّاب يرتابون من الحديث، يرتابون مما يقال في استخدامات اللغة اليومية. ويتم التعامل مع هذا الأمر بأشكال مختلفة، بعضٌ منهم بالكاد يتحدّث، وآخرون يلعبون الغميضة، مثلما أنا، بلا شك، ألعب معك الآن. يملك المرء الكثير ليبوح به. كل إبانة للذات يجب أن يصاحبها إضمار؛ يتطلب الالتزام بالكتابة مدى الحياة تحقيق التوازن بين هاتين الحاجتين المتناقضتين. لكنني أعتقد أن اتخّاذ الكتابة كنموذج للتعبير عن النفس هو أمر بدائي للغاية. لو كنت ظننت يومًا أن ما أفعله أثناء كتابتي هو التعبير عن نفسي لرميت الآلة الكاتبة في القمامة. لن أستطيع تحمّل ذلك، لأن الكتابة أكثر تعقيدًا من مثل هذا النشاط.
موفيوس: ألا يعود بنا هذا إلى موقفك المبهم تجاه التصوير الفوتوغرافي؟ أنت مفتونة به، ولكنك تجدينه شديد البساطة.
سونتاج: أنا لا أظن أن المشكلة مع التصوير الفوتوغرافي هو أنه شديد البساطة، لكن ذلك الأسلوب المستبدّ للنظر إلى الأشياء. التوازن الذي يُحدثه بين أن تكون «حاضرًا» و«غائبًا» هو أمر سطحي، خصوصًا عندما يتم اعتماده كأسلوب؛ والذي يحدث بالفعل حاليًا في ثقافتنا. لكنني لست معادية للبساطة في حد ذاتها. هناك علاقة ديالكتيكية بين البساطة والتعقيد، مثل تلك الموجودة بين إبانة الذات وإضمارها. الحقيقة الأولى هي أن كل موقف هو بالفعل شديد التعقيد، وكل ما يفكر فيه الإنسان يصير بطبيعة الحال أكثر تعقيدًا. الخطأ الأساسي الذي يقع فيه الناس عند التفكير في شيء، سواء كان حدث تاريخيًا أو في حياتهم، هو أنهم لا يدركون أن الأمر شديد التعقيد. الحقيقة الثانية هي أن الإنسان لا يستطيع العيش بعيدًا عن كل هذه التعقيدات التي يدركها، ويحتاج الأمر إلى التبسيط الشديد حتى يكون قادرًا على التعامل معها بحكمة وعطف وبشكل لائق وفعّال. ولذلك يحاول الإنسان أحيانًا أن ينسى، ويكبت، ويتجاوز ذلك الإدراك المعقّد الذي يُعرقله.