أطروحة تونسية: الواقعية في الرواية السورية/ منصف الوهايبي
ليس من مقاصدي في هذا المقال، إعادة تلخيص أبواب هذا الرسالة الجامعية المتميزة «إنشائية الواقعية في نماذج من الرواية السورية» (خطاب عتبات الرواية الواقعية، الخارجي منها والداخلي؛ وواقعية الحكاية، والفضاء وبناء الأحداث) ولا الوقوف على الأعمال الروائية التي استأنس بها الباحث الجاد خالد الهرابي (الزمن الموحش لحيدر حيدر، وألف ليلة وليلتان لهاني الراهب، وفسيفساء دمشقي لغادة السمان وأنقاض الأزل الثاني، لسليم بركات، وقصر المطر لممدوح عزام) وهي في تقديره «مُدونة تُمثل أهم اتجاهات الرواية الواقعية في سوريا؛ وتكشف عن عُمق التجربة الجديدة التي تفصح عنها».
إنما أحب أن أقف على القضايا التي تثيرها هذه الرسالة، وهي تدعونا بلغة علمية رصينة، إلى إعادة تنسيب أحكامنا؛ كلما تعلق الأمر بالمدونة الروائية العربية الحديثة، بخاصة في سوريا.
ما أزال أتذكر من دروس الفلسفة في أواخر الستينيات من القرن الماضي، أن ما هو موجود فعليا من الأشياء، إنما يتعلق بفرديات لا بكليات. و«الكليات» حدود يضعها العقل البشري بدافع الرغبة في إدراك حقائق الأشياء. ويبدو أن «الفضاء المعرفي» أو «أبستيمي» بلغة أهل الفلسفة؛ ونعني ذاك الذي يتم ضمنه التعلق بإمكان مفهوم كلي للرواية مثلا وغيرها، فضاء منشد إلى سقف «النسق».
من ذلك مثلا «واقعية الرواية» أو«وثائقية الأدب» في هذا العصر، حيث نعيش منذ النصف الثاني من القرن الماضي، ثورة في العلم والتكنولوجيا؛ لها أثر لا ينكر في شتى النظم الاجتماعية والثقافية؛ ومنها الأدب الروائي. أما مقولة النسق فتدور على كل خطاب معرفي، سواء تعلق بممارسة فكريةً نظرية مجردة أو بممارسة فكرية إجرائية عمليةً.
والأرجح أن الذين يتعجلون تحديد مفهوم «واقعي أو «وثائقي» بما هو الحد الكلي لهذا الجنس من الكتابة، إنما هم واقعون في حبائل النزعة الإسمانية، التي تُسند الاعتقاد في المصطلح من حيث هي تفيد الميل إلى إحلال الاسم محل الحقيقة، أو تفيد كون حقيقة الشيء اسمه.
والأدب الواقعي أو الوثائقي أجناس وأنواع أي هو مفاهيم. وبسبب من ذلك يحسن كما تنبهنا هذه الرسالة، ألا نقع في الخلط بين تصور للمفهوم، يمكن أن نسمَه بـ«فطراني»؛ وهو الذي يبحث تحديد الشيء ضمن بنية الذات، باعتبارها تشتمل على مبادئ فطرية، أو ما نسميه تجوزا «طبيعة إنسانية» وهي غير ثابتة، وبين موقف يمكن اعتباره «خبرانيا» يدور أساسا حول ربط المفهوم بوشائج ممكنة مع العالَم؛ وهو يلتقط المفهوم من عملية تمفصل بين الذات والمرجع، أي الأدب وأصوله في السياق الذي أنا فيه.
هل لهذه الواقعية أيديولوجيا، وهي التي تتسع في الرواية خاصة، لشتى المذاهب والمدارس؟ هل لها قوانين تضبطها وتحدها؟ وهل هي مظهر من مظاهر «الحداثة» عند العرب المعاصرين؟ نحن نقول عادة إن الحداثة الغربية عامة تعلي من شأن»الفردانية» بل من تضخم الذات؛ وهي من «موت الإله» عند نيتشه، إلى «موت الإنسان» عـند فوكو، وما إلى ذلك مما دأبنا على ترديده؛ في ما نحن نشهد اليوم كيف نعيش في خضم هذه الثورة التكنولوجية، وهذا التاريخ الذي نراه يُصنع أمامنا؛ وما يقال من ضرورة حماية الإنسان العاقل من الإنسان الصانع، يجعلنا ننسب الكثير من أحكامنا ومسلماتنا، فثمة في الآداب الغربية توجه إلى سيطرة البنية على الشخصية، أو ما يسميه روبرت شولز انحطاط فردانية الشخصية الوظيفية، في الرواية الحديثة، وظهور التنميط، إلى لغة روائية تلتف على نفسها، وتتحول من أداة معرفة إلى موضوع معرفة على نحو ما نجد عند سليم بركات الشغوف باللغة وألاعيبها، وما إلى ذلك من الرؤى التي تجعل الحداثة حداثات؛ أو هي تنشأ في ظل ما نسميه «غياب الأب» واحتجابه قد يخفي أبا آخر «شرعيا».
على أني أحب ها هنا أن أشير إلى ضرورة التمييز بين «الوثائقية» التي تعود اليوم بقوة، والواقعية. والأولى لا تعني الواقعية كما نعرفها في روايات بلزاك وزولا ودوستويفسكي وديكنز ونجيب محفوظ وإميل حبيبي والطيب صالح وغيرهم، وإنما النزوع إلى التوثيق على نحو ما نجد عند الألماني جنتر ولراف الذي يدعو إلى استخدام اللغة المحكية بدل الأدبية الفصيحة، وصرف النظر عن «الرواية الخيالية» أو عند هينريش بول وهو ينسج بعض رواياته من مواد وثائقية مثل»صورة جمعية مع سيدة». ولذلك نتريث كلما تعلق الأمر بأدبنا، فالأخذ بمفهوم لم يتأسس بعد يمكن أن يفضي إلى خلط غير يسير بين التيارات والاتجاهات، دون سند من اختبار النصوص والاستئناس بها، و«واقعية» حيدر حيدر أو سليم بركات أو غادة السمان.. ليست بالواقعية المتجانسة. وبعضهم يعرف كيف يستأنس بالزمنية الخطية مرجعا وثائقيا، غير أننا ما أن نقرأ النص، حتى ندرك أن الزمنية الروائية عندهم لولبية، لا تتوزع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنما هي حاضر أبدي. وهو حاضر يدعونا إلى إعادة النظر في وظيفة الأدب، وهو الذي يتغير اليوم. وهي وظيفة ما انفكت تزداد هشاشة في مجتمعاتنا العربية، لا بسبب ظهور محامل ووسائط معرفية أخرى يتعاطى معها كثيرون بمنطق تزجية الفراغ، أو «تمضية الوقت» بعبارتنا اليوم؛ وليس بمنطق التحصيل المعرفي، وإنما لأسباب عديدة مرتبطة في الجملة بتفشي الأمية، وباهتزاز المنظومة التربوية والتعليمية؛ بل السياسية.
وما حققه أدبنا من هذه الوظيفة ليس أكثر من معرفة مجتزأة مفتتة لا ترتقي إلى محل المقاربة المتكاملة لمسألة ما، أو وضعية معينة؛ فضلا عن كونها لا تسمح برؤية ذات دلالة لكينونة الفرد أو المجتمع، ولعل هذا ما يجعل قارئا مثلي ينتبه في كل هذه الروايات، التي استأنس بها الباحث، إلى بعد استشرافي فيها، ونحن نعيش محنة سوريا، حيث الكتابة تحتل موقع المراقب، وهي في وسط الحدث؛ حتى ليمكن القول إن الأدب بدأ يتعلم من الصحافة ومن طريقتها في رصد الوقائع وتوثيقها وتسجيلها، أو ما يسميه ترومان كابوت (1924 ـ 1984) «الرواية الخيالية بلا خيال» وهي تسمية فيها مقدار كبير من الصواب؛ والقارئ المعاصر مأخوذ أكثر بالأعمال الأدبية غير الخيالية، من سير وذكريات ويوميات ووقائع تاريخية.
ولعل هذا ما يسلب الأدب سمة «الجميل» بالمعنى المبذول أي التناسب؛ ويضفي عليه سمة العلم، أو يجعله يرتبط بالتكنولوجيا على نحو مثير. وكل هذه الروايات على اختلاف لغتها وبنيتها، تنهض مثالا لافتا للتقنية الروائية العالية التي تتميز لا باستخدام اللغة السردية فحسب، وإنما أيضا الصور المرئية أو ما يسمى «أيقنة الصورة». وبعضها مادة غنية لسيناريو سينمائي محكم، على نحو ما نلاحظ في روايات غادة السمان.
صحيح أن هناك فروقا وظلالا خفية دقيقة بين عالمي الأدب الروائي والسينما: فالأول إيهامي داخلي، والثاني طبيعي خارجي، والرواية تظل مسرودة في صيغة الماضي، حتى إن توخى صاحبها صيغة المضارع؛ في حين أن السيناريو يُكتب في المضارع، لأن دلالة المضارع في الأصل دلالة استقبال. وهذا الحال يتواصل حتى عندما يكون هناك «فلاش باك» إذ تصطحب الكاميرا المتفرج إلى الماضي ليشاهده وهو يحدث. صحيح أن الزمن في السينما لا ينفصل أبدا عن المكان، فلا بد أن تتخذ الشخصية مكانا لها (إلا في الفيلم التجريبي حيث بإمكان المخرج أن يحيط شخصيته بحيز أبيض مسطح). وأما في الأدب الروائي فالفصل ممكن، ويستطيع الكاتب أن يستبعد عنصر المكان من السرد؛ كلما كان هدفه استيعاب تجربة الشخص النفسية مثلا، ولكن على الرغم من هذه الفروق وغيرها وهو كثير، فإن كُلا من الروائي وكاتب السيناريو، يستخدم لغة مرئية «تقلب السمع بصرا» بتعبير أسلافنا، أو هي تخاطب العين على قدر ما تخاطب الإذن، وتتيح له أن يرى الحدث أو المنظر؛ وهو يُكتب ويُفصل من خلال الحركة والحوار.
وبعض هؤلاء يتوخى أسلوبا أقرب ما يمكن إلى السيناريو، سواء في تغيير التتابع الزمني للأحداث وقطع تدفقها، أو في معالجة المكان والزمان، حيث يحكم الانتقال من مكان إلى آخر، ويضغط الزمن أو يمده؛ كلما لزم..
إن عالم هذه الروايات هو عالم المدينة الشامية، مثلما هي عالم الارتياب الذي يسِم المكان والزمان، مثلما يسِم الأشياء والذوات؛ بما فيها الراوي ذاته. فهو مثل كل شخصية موضوع اتهام وريبة؛ ما دام كل شيء قابلا للتأويل في سياق المساءلة والتحقيق.
الرواية السورية هي رواية «الآن/الهنا»،على أن بين كتابها اختلافات وقواسم أكثر من أن يتسع لها هذا المقال، وبإمكان القارئ أن يقف عليها في ثنايا الرسالة وتفاصيلها الممتعة. وعلى كل فإن الحفاوة بالمكان من حيث هو متخير سيميولوجي، ينطوي على دلالات حضارية وثقافية واجتماعية؛ هي السمة الفارقة في كتابات هؤلاء السوريين، وإن مازجتها الخصائص الطبيعية والمعمارية، بأقوى الوشائج.
كاتب مغربي
القدس العربي