البدانة الروائية/ سعيد يقطين
بدأت تبرز على صعيد الإنتاج الروائي العربي ظاهرة تسترعي الانتباه، هي «الرواية الضخمة». صارت أغلب الروايات تتعدى صفحاتها الثلاثمئة. كما أن الروايات المسلسلة التي تتكون من أكثر من جزء بدأت تظهر بين الفينة والأخرى، وكأن ثمة تنافسا ضمنيا، وبدون وعي أحيانا، بات يؤسس لتصور مفاده أن الروائي الناجح هو من يكتب أكبر عدد من الروايات، أو النصوص الطويلة، أو يتحدى نظراءه بكتابة ثلاثيات أو خماسيات. إنني أتحدث هنا بشكل عام، لأنني أومن بأن العوالم الروائية تفرض نفسها على الكاتب، ومتى كان هناك تلاؤم بين تلك العوالم وحجم الرواية كان ذلك أجدى وأنفع، ومتى كان العكس، كنا، في حال الرواية الضخمة، أمام ما أسميه «البدانة الروائية».
يتشكل أي عمل سردي، كيفما كان نوعه من نواة سردية مركزية ينهض عليها العمل السردي بكامله. نشبه هذه النواة بالحجرة الصغيرة الملقاة في النهر فتتشكل منها عدة دوائر يتسع بعضها من بعض. هذه النواة السردية المركزية يمكن أن تتشكل منها حلقات تمتد على مجلدات، كما نجد في سيرة الأميرة ذات الهمة وولدها عبد الوهاب. كما أن النواة السردية المركزية يمكن أن تكوِّن حكاية من «كليلة ودمنة». لقد قدم لنا التنوخي في مصنفه «الفرج بعد الشدة» حكاية في بضعة أسطر، ونواتها السردية هي نفسها التي قدمها لنا باولو كويلو في رواية «الخيميائي».
يمكن أن نعدد الأمثلة الدالة على أن الرواية، أي رواية، عبارة عن تراكم مواد حكائية موازية، أو تطوير لأحداث، أو إدخال شخصيات جديدة، وجعلها تندمج في المادة الأساسية، وهكذا دواليك. ولعل العامل الأساس الذي كان يؤدي إلى ممارسة هذا التراكم الذي ينجم عنه ما سميته في القراءة والتجربة بـ»التوالد السردي»، يكمن في الخضوع لرغبة السامع أو القارئ أو المشاهد. كان الراوي الشعبي، لكي يضمن جمهورا ثابتا ودائما، يجعل جلساته الحكائية متواصلة ومتسلسلة. ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بخلق حبكات فرعية، يتولد بعضها من بعض، ويكون الرجوع إلى أصل القصة بعد تضمين وتوليد قصص فرعية لا حصر لها. ولهذا السبب كانت مجالس الراوي الشعبي لسيرة واحد تمتد لستة شهور مثل سيرة عنترة. هذا البعد التراكمي هو نفسه الذي شاهدناه في القرن التاسع عشر، عصر ازدهار الرواية، حيث كان مديرو الجرائد يستكتبون الروائيين لكتابة روايات مسلسلة، تنشر على حلقات. كما أن التصور الذي كان سائدا حول دور الروائي في المجتمع الغربي كان يؤهله ليكون شاهدا على العصر، فكانت الروايات التاريخية، أو الواقعية التي ترصد جوانب متعددة من حياة المجتمع، تتحقق من خلال الرواية ـ النهر. ولهذا نجد أعمال بلزاك السردية الكاملة (91 عملا سرديا) والناقصة (46 عملا)، تقدم تحت عنوان واحد: «الكوميديا الإنسانية»، أي أن الروائي عنده مشروع متكامل، وكل نصوصه ليست سوى نص واحد في حلقات. ولعل هذا هو الطموح الذي ابتدأ به نجيب محفوظ عندما كان يروم كتابة تاريخ مصر من الفراعنة إلى زمانه.
أما في العصر الحديث، فيبرز لنا ذلك التراكم والتوالد، من خلال ما ألفناه في المسلسلات الأمريكية «دالاس» مثلا والمكسيكية والتركية والسورية. فنجاح الجزء الأول من المسلسل يؤدي إلى خلق أجزاء متعددة للمسلسل نفسه. إن الدراما المسلسلة (soap opera ) لها أهداف مختلفة عن الرواية النهر (رومان رولان مثلا) التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر، وإن كانت تلتقي معها في الطول وكونها تدور على شخصيات بعينها.
فهل الروائي العربي المعاصر يكتب وفق خلفية الروائي في القرن التاسع عشر، أو حسب التصور الذي هيمن في القرن العشرين؟ فهل هو ملهي القارئات اللواتي يشتغلن في البيوت، أو مؤرخ العصر؟ ليمارس التطويل والتوليد؟ ما هو التصور الذي ينطلق منه الروائي العربي في تشكيل عوالمه الحكائية، وتقديمها من خلال بنيات سردية؟ وهل حجم الرواية هو المحدد لقدرة الروائي على ابتداع العوالم التخييلية؟ عندما نطرح مثل هذه الأسئلة لا نريد بذلك تقييد حرية الروائي في الكتابة، بحسب الإطناب أو الإيجاز أو المساواة. ولكننا نركز هنا بالضبط على التطويل، أو التضخيم الذي صار وكأنه مبتغى للتدليل على القدرة الروائية. وهناك فرق بين التطويل والإطناب. كما أن هناك فرقا بين الإيجاز والإخلال؟
كثيرا ما أقرأ راوية ضخمة، فأجدني واقعيا أمام روايتين لا رواية واحدة؟ وأحيانا أرى أن العديد من الفصول يمكن أن تزول، منم دون أن يكون لها أي تأثير يذكر… لكن الروايات المبنية على الإيجاز هي في الواقع أصعب من كتابة الرواية الطويلة. إنها الرواية التي لا يمكن أن نحذف منها كلمة واحدة. وهذه هي الرواية الحقيقية في رأيي. وأعطي هنا مثال رواية «الغريب» لكامو. فكلما قرأت هذه الرواية، ظهرت لي بشكل مختلف. أما الروايات الضخمة فلا يمكن أن نعيد قراءتها؟ البدانة الروائية نتاج الكتابة السريعة، تماما كما أن الوجبات السريعة لا تؤدي إلا إلى البدانة: مرض العصر.
كاتب مغربي
سعيد يقطي القدس العربي