الذين عبروا على مصر/ إبراهيم عبد المجيد
ليس انحيازا للماضي ولا حتى نوستالجيا، فكثير مما سأقوله لم أعشه، لكنني عرفته من القراءة. هل يستطيع أحد أن يذكر أسماء العظماء من المفكرين والكتاب والفنانين ورجال الصناعة، الذين عبروا على مصر، دون أن يملأ صفحات بالأسماء.. فقط الأسماء. تسأل نفسك أين ذهبت هذه الجهود، سنعطي أمثلة بسيطة على بعض المجالات وأولها العمارة.
كانت الطفرة فيها مع عصر إسماعيل باشا الذي أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا، ولن أطيل. اذهب إلى إنجازاته في وسط القاهرة في عصره وبعده طبعا، واذهب إلى مناطق أخرى واسعة وكبيرة، وانظر إلى شكل المباني بعد السبعينيات من القرن الماضي التي صارت عمارات عالية تفتقد حتى للشرفات. نوافذ معدنية وأجهزة تكييف. ليس ذلك فقط، بل ضربت بالحائط كل قوانين البناء، لقد صار هذا الأخير تقريبا يعم أغلب الأماكن في مصر، بل كل المدن رغم ما مرّ على مصر من عظماء المعماريين من الأجانب والمصريين.
اذهب إلى المجلات واحصر أعدادها وكيف كانت يوما بالعشرات للجاليات المختلفة، فضلا عن العربية. لقد عرفت أنا مثلا بمجلة «المقتطف» التي كان يرأس تحريرها شبلي شميل أوائل القرن العشرين، حين كنت تلميذا في السنة الأولى الإعدادية عام 1959، وفزت في الامتحان بدرجات جعلتني الأول على الفصل، فأعطوني في عيد العلم نسخة منها، وعدت إلى البيت فعرفت شيئا عن داروين ونيتشة، بل عن شعراء مثل طرفة بن العبد والمعري، فانفتحت أبواب القراءة والمعرفة، وما دمت تكلمت عن المدرسة فقد كان الفصل الدراسي في المرحلة الابتدائية لا يزيد عن عشرين، وفي الإعدادية والثانوي لا يزيد عن ثلاثين، وكانت لنا زيارة اسبوعية لمدة ساعتين للقراءة الحرة في المكتبة. منذ حوالي عشرين سنة سافرت إلى الإسكندرية مع طاقم من القناة الثقافية لعمل فيلم تسجيلي عن حياتي، وزرت مدرستي الإعدادية وقابلت الناظر. طلبت منه أن أدخل المكتبة فضحك، أي مكتبة يا إبراهيم! المكتبة مغلقة وكلها عناكب، والطلبة تقفز من فوق الأسوار مع الساعة العاشرة، بتأثير من المدرسين أنفسهم ليتلقوا الدروس الخصوصية.
انظر إلى عدد المدارس الخاصة الآن، وكيف كانت منعدمة في مصر، إلا مدارس الإرساليات الأجنبية القليلة، التي تعد على الأصابع، والتي كانت بدورها مفتوحة للجميع، وكيف صار التعليم الآن لمن يملك المال وليته تعليم. الأمر نفسه في الجامعات الخاصة التي استشرت كالجحيم. بينما مفكر كبير مثل طه حسين كان ضد التعليم الخاص وأوصى بذلك من زمان. انظر إلى عدد العرب من الشوام أو غيرهم الذين كانت مصر ملاذا لهم، إبان الاحتلال العثماني وبعده، وكيف نهضوا بالفنون من مسرح إلى سينما الى صحافة وغيرها، وساهموا في الصناعة، وانظر إلى الدعوات القبيحة التي تنتشر الآن على الميديا لطرد السوريين الذين جاءوا إلينا بعد أن دُمرت بلادهم، رغم أنهم لا يكلفون الدولة شيئا في مشاريعهم. شاهد أي فيلم أبيض وأسود قديم واقرأ أسماء منفذيه، من التصوير إلى الموسيقى إلى كل عناصر الفيلم، لتري كم الأسماء غير المصرية عليه والعربية أكثر من غيرها. وبالمرة انظر لعدد الأفلام التي كانت تُنتج وقتها وحتى السبعينيات وانظر إلى عددها الآن. انظر إلى الحدائق التي كانت تقام على نظام الحدائق الفرنسية، وانظر إلى هوجة قطع الأشجار في مصر الآن، مرة بسبب كوبري في الطريق، ومرة بسبب أنها تحجب التصوير بكاميرات المحلات، ومرة بسبب أنها تستهلك كثيرا من المياه، رغم أنها أشجار مضت عليها عشرات السنين ولا حاجة لها بماء أو طعام، وفي كل الأحوال يتم بيع أخشابها. انظر إلى الأزياء التي كانت تتنوع بين الريف والمدينة، وبنت المناخ ونوع العمل، وكانت يوما مصدرا لأوروبا من مدن كالإسكندرية والقاهرة، ثم توحدت الآن في زي صحراوي، ونقاب أو حجاب للنساء. لن أمشي أكثر لكنني سأقف عند السبب. هذا هو الذي يهمني، لم يكن السبب قط تطورا طبيعيا حدث في البلاد، حتى رغم زيادة السكان والهجرة إلى الخليج، لكن كان السبب فعل الدولة نفسها ممثلة في الرئيس الحاكم ومؤسساته.
رغم ما فعله عبد الناصر من نهضة في الصناعة والزراعة والتعليم، إلا أنه أغلق الباب تقريبا على المجتمع المدني وصار كل شيء، من الثقافة إلى الاقتصاد ملكا للدولة، ولولا أن قوة دفع الفترة الليبرالية كانت لا تزال لخربت البلاد بسرعة. صارت هناك مركزية حقا وقومية عربية، لكن ما زلنا نطل على أوروبا في الثقافة والفنون. الضربة الكبرى كانت بفعل الدولة ممثلة في الرئيس السادات وأجهزته طبعا، هو الذي فتح الباب لكل ذلك التراجع والفوضى، ولا يزال الباب مفتوحا لا يغلقه أحد.
ما تفعله الدولة هو الحقيقة، وأي رأي آخر لا يُعتد به، إن لم يصب الأذى صاحبه. سبعون سنة الآن وما تفعله الدولة هو الحقيقة، فانتهى الأمر بنا إلى مدن عشوائية، وتعليم لا يعرف تلاميذه الفارق بين علامة الضمة والواو والكسرة والياء، واستيراد بدلا من التصنيع وردم للبحيرات، وإخفاء للشواطئ بالمقاهي وجراجات السيارات، وغير ذلك كثير محزن. وإذا انتقلنا للفكر فلا مكان لأي جديد، فأهم المعارك الآن هي أتفهها مثل المعارك حول الإفتاء، حتى أنه يبدو لي أن هناك من تخصص في إرسال الاسئلة التافهة لدار الافتاء، وتنشغل هي بالإجابة عليها فتمتلئ صفحات الميديا بين ساخرين ومؤيدين، وأكثرها في علاقة الزوج بزوجته، كأن الزواج صار مهمة شاقة. الدولة تعرف طريق الخروج من هذا كله، فهي صاحبة المدارس وصاحبة الإعلام وصاحبة الحكم المحلي، تستطيع أن تغير مناهج التعليم، وأن تغير سياسة الإعلام ليكون نافذة على الأفضل، وعلى الحقائق ليس على الأوهام، وصاحبة اختيار كوادره، فلم يحدث أبدا في طفولتي وصباي حين كنت أسمع الإذاعة، ثم في شبابي بعد أن دخل التلفزيون البلاد، أو بمعنى أدق بعد أن صار لدينا تلفزيون في البيت، أن سمعت أو شاهدت مذيعا يشتم في الناس. لم أسمع في حياتي لفظا نابيا من مذيع، بينما صار لدينا الآن من تخصصوا في ذلك. أي اختلاف في الرأي مع السلطة الحاكمة فصاحبه يستحق كل الألفاظ المشينة. صرنا لا بد من أن نوافق على كل شيء تفعله السلطة الحاكمة، حتى أسئلة من نوع كيف نصدر الكهرباء وترتفع أسعارها، أو كيف نصدر الغاز وترتفع أسعاره، أو كيف ترتفع مصاريف التعليم العام والخاص وأكثره أون لاين الآن، أو كيف صار الحبس المفتوح للمعارضين طريقا للحبس الذي لا نهاية له، فتتجدد القضايا وهم في السجون، وغير ذلك كثير من الإسئلة، لم يعد لها معنى ولا قيمة. أراها أحيانا على صفحات الميديا، لكن لا إجابة عليها، بينما الإجابة عليها طريق النجاح الوحيد.
أعود وأتذكر العظماء من المفكرين وأعطي مثالا واحدا على من تحدثوا وأخلصوا في البحث عن أفاق عصرية للدين، ابتداء من الكواكبي حتى نصر حامد أبوزيد مرورا بطه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وعشرات والله غيرهم، فأجده كأنما كان حرثا في البحر، ليس بسبب التطور الطبيعي للمجتمع المصري، لكن بسبب أن السلطة منذ السادات، وجدت في تغييب العقل فرصة لها، لإخراج الشعب من المعارضة الحقيقية. المدهش أن كل جميل كان لدينا يوما رغم الإقطاع، ورغم الفقر، وكان التطور يمشي في طريقه الطبيعي، أن يكون بيد الشعب وطبقته الوسطى ومفكريه، فالوصول إلى الديمقراطية لن يحدث بقرار، بل بكفاح وعصور. لكن منذ صارت السلطة وحدها هي التي تعرف طريق التطور، جرى ما جرى على الأرض وللمصريين أيضا، وصارت الديمقراطية كذبة، يجب أن لا يعرفها الشعب، بل هو غير مُؤهل لها.
روائي مصري
القدس العربي