السرد المستحيل والسرد غير الطبيعي/ حسن سرحان
قلت في مقال سابق إنه توجد في السرد الروائي المعاصر ظواهرُ لم يلتفت إليها الدارسون والباحثون في السرد في بلداننا، أو لنقل إنهم لو يولوا تلك المظاهر العناية التي تستحق، لاعتقادهم أنها مألوفة ومتواترة ومن ثم هي مبتذلة، ولا تستحق الكثير من الاهتمام، لاسيما عندما تكون جزءاً من اللعبة السردية.
وهي كذلك طبعا، غير أن كونها عرفاً سردياً متوارثاً لا يعني إهمالها أو قبولها مثلما هي، وكأن أمر وجودها من المسلمات التي لا تحتاج إلى تفسير وتأمل، ولاحقا تصنيف يقترح وضعها داخل فئات.
كما أن ذلك لا يعني، خصوصاً، الموافقة على تبويبات قديمة ومستعجَلة، فضلاً عن كونها مستوردة حبست تلك الظواهر في أطر ومسميات معينة قبل أن تغلق خلفها الباب بمزلاج الجمود والكسل والخمول الفكريين.
تناولت في كتابي «السرد المستحيل» الذي صدر مؤخراً في الأردن عن دار نشر خطوط وظلال، ظاهرتين اثنتين من تلك الظواهر التي لم يعن بها النقد العربي كفايةً، كي لا أقول إنه غفل عنها، بما أن رأياً كهذا قد يستفز أناساً ويثير حفيظة آخرين. أقصد بتلكما الظاهرتين: السرد المستحيل والسرد المشكوك فيه، اللتين درستهما وفق رؤيتي الخاصة واجتهادي الذاتي، مشيِّداً بنائي على أساس ما توصل إليه في هذا المجال علماءُ السرد ما بعد الكلاسيكي الغربيون.
أضيف، اليوم، إلى الظاهرتين أعلاه ظاهرة ثالثة ذات حضور أخذ يكبر وينمو على مهل، لكن بأثر ملحوظ باطراد في كتابات روائيي ثمانينيات القرن الماضي العالميين، لاسيما أولئك الذين كتبوا روايات تعيد سرد فترات تاريخية معينة من الماضي الذاتي أو العام. أعني بذلك ظاهرة السردِ الذي يعمدُ النسيان عن طريق تعطيل ذاكرة السارد بسبق إصرار. من يقرأ بدقة مؤلفات موديانو، بيريك وقسماً من روايات إشنوز وايشيغورو وغيرهم ممن يجيدون الصمت، وخفْضَ الصوت عندما يقتضي الأمر، أقول من يقرأ روايات هؤلاء لا بد أن تستوقفه لحظاتٌ سردية يختار الكاتب خلالها، من غير اضطرار، تعطيلَ ذاكرة السارد وصرفَها عن تناول أحداث تاريخية بعينها، عامة أو خاصة، وإجباره على تناسي فترات زمنية بذاتها بلا حجة أحيانا أو بحجج واهية أحياناً أخرى يبرر بها نسيانه أو تناسيه لتلك الأحداث. لم أجد لهذا السرد تسمية بعد، لذا سأسميه مؤقتاً بالسرد النسّاء أو المتناسي وأعرّفه، مبدئياً، أنه السرد الذي يعمد قائلُه بتصميم بيِّن إلى إيقاف عمل ذاكرة السارد، كي تبقى مناطقُ من سيرة الشخصيات معتمةً يتناسى السارد أثناء مروره عليها تفاصيل صغيرة، أو كبيرة تتعلق بتلك الشخوص وبحكاياتهم وتاريخهم وحيواتهم البرانية والداخلية، على وجه الخصوص.
على حد علمي ـ وحظي من العلم قليل ـ أن هذا الادعاء بالنسيان، وتعطيل الذاكرة المتعمد والممنهج والقصدي من جانب الرواية المعاصرة، لم يسترع انتباهَ أحدٍ من الدارسين العراقيين ولا العرب، ومن المحتمل أنه لفت نظر نفر قليل جداً من الباحثين الغربيين. شخصياً، أعرف واحداً فقط من هؤلاء الأخيرين وهو الأكاديمي والناقد الفرنسي دومينيك راباتيه، الذي أشار في معرض مداخلة قصيرة له بخصوص روايات موديانو، إلى أن مؤلف «ميدان النجمة» يحجم مرات، تأدباً وحنواً على بعض شخصياته، عن ذكر تفاصيل يراها مخجلة لهؤلاء.
لم يتطرق راباتيه إلى نوع النسيان ولم يسمه مع أنه ربط بينه وبين حق الشخصية في إغفال حكايات أو أجزاء من حكايات، وتحدث عما سأسميه أخلاقية النسيان وسمو التغافل عند موديانو وآخرين. لذا سيكون عملي المتواضع مواصلةً لجهود البروفيسور الفرنسي في مجال التأسيس النظري والتطبيقي لظاهرة السرد النسّاء في الرواية المعاصرة.
ليسمح لي القارئ الكريم أن أترك هذا الموضوع مؤقتاً، واعدا إياه بتناول المسألة في دراسة لاحقة أبحث فيها باستفاضة السرد النسّاء مناقشاً أسبابه وتمظهراته التقنية. الغرض من طلب السماح بالتأجيل هو أني أريد، هنا، الكلام ثانية عن السرد المستحيل والتركيز، في هذا المقام، على مدى قربه أو بعده من السرد غير الطبيعي. هذه المحاولة القليلة الأثر تَواصلٌ مع مشروعي السابق في الحفر والتنقيب حول السرد المستحيل، وهي مساعٍ غير منتهية للآن إذ لم تتشكل بعد على نحو مكين، مما يسمح لها بالوصول إلى وضعية قارة، وتقديم استنتاجات باتّة شأنها في هذا شأن كل التجارب المعرفية التي تحتاج وقتاً وجهداً وتآزراً غير موجود مع الأسف في وسطنا الثقافي عموماً.
قلت عن السرد المستحيل إنه سردٌ ينتهك قوانين الواقع، ويضعها على المحك ويخرق ميثاق القراءة وينطوي على نيةِ خداع مبَيّتة وقصدِ تمويه تجاه القارئ الخارجي للنص.
يكمن في ما سبق قسمٌ مهم من الاختلافات بين السرد المستحيل والسرد غير الطبيعي، التي سوف أشرحها بالقدر المتيسر في نهاية المقال بعد الفراغ من الفكرة السابقة. يخالف السردُ المستحيل أحكامَ الواقع عندما لا يجد بأساً في تسليم مهمة الحكي، داخل نص لا يتضمن أي إشارة، تلميحاً أو تصريحاً، يُفهم منها أنه غير واقعي، أو يتحدى الواقع، إلى سارد لا يجوز عقلا ولا يمكن منطقا -بحدود منطق وعقل العالم الذي نحيا فيه، ويعيد النص الأدبي إنتاجه ويقصد التماهي معه ولا يرمي إلى تدميره ـ تكليفه بهذا الواجب لاستحالة قدرته على القيام به ولتعارض هذا التكليف مع المنطق الداخلي للنص أولاً (طبيعة رسم الشخصيات، واقعية المكان، عدم وهمية الزمان) ومع تجارب القارئ الحياتية وتصادمه مع خبراته الفعلية ثانياً، التي لم تألف التعامل مع حوادث سابقة تكلم فيها الموتى بعد موتهم، أو المغمى عليهم أثناء فترة إغمائهم، أو تحدث فيها المجانين بمنطق سليمي العقل. من هذه الناحية، فإن السرد المستحيل سردٌ إشكالي بالضرورة والقياس، من حيث إنه يفرض أسئلة لم يجد لها علمُ السرد جواباً حاسماً إلى الآن: من يرى؟ من يتكلم؟ إلى من يوجه المتكلمُ خطابَه؟ بأي واسطة يتم إيصال هذا الكلام/الرسالة/الخطاب/النص؟ كيف يتم تشفير هذا الخطاب وتحويله من رموز إلى معانٍ وصور؟ من يتولى التشفير؟ ما هي الصيغة التي ينهض عليها هذا الخطاب أساساً؟
قبل الإسهاب والذهاب إلى ما هو أبعد، أريد توضيح نقطة تبدو لي مهمة، وسأدخل إليها عن طريق السؤال الآتي: ما مبرر قول إن السرد «مستحيلٌ» في نص أدبي/تخييلي بإمكانه، من حيث المبدأ العام، خرق جميع المستحيلات والقفز على كل القوانين؟ بالمناسبة: أنا لا أقر بهذه القاعدة العامة ولا أقبلها، لأن الرواية الحديثة ـ أعني رواية القرن التاسع عشر فصعوداً ـ ليست فن اللامعقول كما يروج إلى ذلك البعض، ولا هي المكان الأنسب لخرق قوانين الواقع الأساسية. الروايةُ الحديثة ـ بنسخها الواقعية والقريبة من الواقعية ـ ابنةُ العقلانية الديكارتية التأملية ونتاجُ الفلسفة الوضعية الأوروبية التي هي من أكبر ثمرات التفكير الأوروبي في القرن التاسع عشر. منذ ذلك الحين، ألزمت الروايةُ نفسَها بعدم «الخروج على النص» وبالاتكاء على التشبّه بالواقع، كأساس ومبدأ كل شيء، وكضامن حيوي ومباشر لوجود وديمومية وشرعية الظاهرة الروائية في غرضها الرئيس المتمثل في فهم نمط حضور الإنسان داخل العالم، العالم الذي نراه وليس ذلك الذي تتوهم وجودَه شطحاتُ الخيال، أو تتصور تضاعفَه افتراضاتُ الفيزياء ومعادلاتُها الرياضية.
أعود إلى السؤال: لماذا يكون السرد مستحيلاً في نص أدبي ينسجه التخيلُ ذو الحدود غير المنتهية؟ بهذا الخصوص، من الضروري تثبيت أمرين. الأول هو، ما سبق قوله من إن السرد المستحيل الذي أدرجت توصيفاً له في كتابي، سالف الذكر، يختص بالأدب الواقعي حصراً، حيث لا شبهة تتعلق بالشخوص وإمكانية وجودهم كـ»ذوات» يحيون، من ناحية التفاصيل العامة، كالمتعلقة بالزمان والمكان، حيوات قريبة من تلك التي يحياها البشر الحقيقيون. بمعنى أن ميكانيكية سرد حيواتهم، وما يرتبط بها تحرص على إبقاء قوانين الواقع سليمةً أو تقريباً. الأمر الثاني الذي أودُّ تثبيته يستهدف التفريق بين السرد المستحيل والسرد غير الطبيعي. أقول بهذا الشأن: لا يُسمّى السردُ مستحيلاً عندما يردُ في نص عجائبي «merveilleux » أو أسطوري أو خرافي أو بمصطلح جامع: ما فوق واقعي «surnaturel» لأن حضوره في كتابات من هذا النوع يجب ألا يثير الاستغراب ما دام يتماشى مع المعطيات الزمانية/المكانية والمحتوى الحكائي للحدث المروي، واختيار شخوصه، ناهيك من عدم تعارضه مع ميثاق القراءة الذي يحدده، بشكل قاطع، الجنسُ الذي ينتمي إليه النصُّ المقروء. أنا أعترض على تسمية هذا السرد بالسرد غير الطبيعي، لأن لا شيء فيه غير طبيعي ضمن حدود قوانين العالم الذي يولد فيه طالما أن الحدث السردي وما يرتبط به لا يُحاكم إلا على ضوء قوانين النص التي نشأ فيها، حيث الكون له أنظمته ومقاييسه المخالفة غير المقصود منها أصلا تحدي خبراتنا أو تجاربنا الحياتية، ولا وجود فيها لشبهة احتيال أو نية خداع أو غايةِ استدراج، كما هو الحال مع السرد المستحيل الذي تحويه كتاباتٌ أدبيةٌ تنتسب صراحةً إلى الواقعية من جهة أجوائها العامة وشخوصها وحكاياتها.
أن تتكلم سمكةٌ أو أن يتحدث حصانٌ في نص يصنف نفسه، قبل البدء بقراءته أو منذ مستهله، فوق واقعي لا يعني أن السرد غير طبيعي، بل هو طبيعي جداً ومقبول بما فيه الكفاية، وفق المنطق الخاص والقوانين والمعايير الحاكمة لذلك العالم الذي ظهر فيه، التي رضي بها القارئ قبل المباشرة بفعل القراءة. للقارئ طبعا، إن شاء، رفضُ أن تتكلمَ إليه سمكةٌ أو أن يستمع إلى حديث حصان، أو أن يتابع حكايةَ لونٍ أحمر، إن عدَّ كلَّ ذلك استخفافا بفكره واستهزاءً بعقله وتسفيهاً لوعيه وانتقاصاً من إدراكه. يكفيه، تعبيراً عن الرفض، أن يغلق الكتاب، أو أن يلقيه جانباً وستنتهي مغامرة القراءة من قبل أن تبدأ عند هذا الحد، بلا ضرر ولا ضرار. مواصلة القارئ للقراءة هي التعبير المباشر عن رضاه بالعقد القرائي وعلامةٌ دالة على قبوله التخلي عن عالمه والدخول في عالم آخر يعلم، مسبقاً، اختلافه عن دنياه الحقيقية. هذا الرضا إقرارُ موافقة يغلق أمام القارئ، ما أن يتخطى العتبات، بابَ طرح أسئلة تتعلق بالممكن وغير الممكن، والجائز وغير الجائز والمعقول وغير المعقول في ما يقع من حوادث وشخصيات في زمان لا يشبه زمانه، ومكان لا يطابق مكانه لا من قريب ولا من بعيد. يشمل هذا المنعُ التساؤلَ عن نمط السرد وأهلية السارد للتصدي لمهمة الحكي. ينفتح بابُ طرح هذه الأسئلة وغيرها متى ما لمس القارئ مخالفةَ النص لميثاق القراءة، وهنا تكمن نيةُ الخداع وقصدُ الاحتيال الذي تحدثت عنه آنفاً.
حينما يستعمل كاتبٌ روائي السردَ المستحيل في مؤلَّف ينتمي إلى الواقعية، فإنه يحتال على عقد القراءة الذي أبرمه القارئ ضمنا قبل البدء بمطالعة النص. تتمثل فكرة الاحتيال في أن النص يتدثر بغطاء الواقعية، كي يستدرج القارئ ويضمن إمضاءه لميثاق القراءة، لكنه يحتال عليه في ما بعد عندما يجعل الموتى يتكلمون أو المغمى عليهم يسردون مخالفاً شروط الواقع ومتطلباته التي انطلق منها وأوحى للقارئ باحترامها والتقيد بها، وذلك بتقديمه لشخصيات تمتلك كل أو جزءاً كبيراً من القابلية على تصديق حضورها، تتحرك وتنمو في أجواء وعوالم لا تستعصي على الاختبار ويمكن أن يقتنع القارئ بإمكانية وجودها.
يبقى هناك أمر يجب مناقشته في مناسبة ثانية: عندما يتعلق الأمر بالفانتاستيك، هذا النوع الأدبي ذو الخصوصية الشديدة، هل نصف السرد بغير الطبيعي؟ أم بالمستحيل؟ هذا طبعا في حالة أن النص المعني يقدم سرداً ينطبق عليه توصيف السرد المستحيل، وهو أمر وارد جداً في الأدب الفانتاستيكي. عن هذا الموضوع سيكون مقالي المقبل.
كاتب عراقي
القدس العربي