حكايات المغيبين قسراً في سوريا-مقالات مختارة-
يعيشون على أمل أن “يرنّ بخبر عن الأحبة”… الهاتف رفيق عائلات المخفيين/ات قسراً في سوريا/ نزيهة سعيد
ما هو الأمل؟ لدى عائلات المعتقلين والمعتقلات والمخفيين والمخفيّات قسراً في سوريا من قبل النظام السوري أو الفصائل الأخرى التي تسيطر أو كانت تسيطر على مناطق معيّنة فيها، هو مكالمة هاتفية، هو رسالة نصية، هو رسالة واتساب تطمئنهم على حبيب/ة أو قريب/ة، بعد سنوات عدّة مرّت بلا أي خبر عنه/ا.
حتى الآن، لا يزال الهاتف هو رفيق هؤلاء المنتظرين. لا يفارقهم. يمنون أنفسهم بأن يصلوا إلى الحقيقة أو اليقين.
الاختفاء القسري حسب تعريف الأمم المتحدة هو “القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون”.
هذه الجريمة مارسَتها السلطات في سوريا ومارسَتها أيضاً عدّة جماعات من الجماعات التي انخرطت في الحرب التي أعقبت انطلاق ثورة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية في آذار/ مارس 2011.
وخصصت الأمم المتحدة يوم الثلاثين من آب/ أغسطس من كل عام كيوم دولي لضحايا الاختفاء القسري. وبهذه المناسبة نظّمت كل من “عائلات من أجل الحریة”، “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صیدنایا”، “رابطة عائلات قیصر”، “مبادرة تعافي” و”مسار: تحالف أسر الأشخاص المختطفون/ات لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش”، في العاصمة الألمانية برلين، فعالية للفت انتباه العالم إلى قضية المفقودين والمفقودات والمخفيين والمخفيات قسراً في سوريا، عبر وضع أكثر من 300 هاتف في ساحة “بيبل”، لترمز إلى كل العائلات السورية التي تنتظر خبراً عن أحبائها.
اختير هذا المكان لأنه ساحة عامة ومزدحمة بالناس، للفت انتباه المارة والسياح من جميع الجنسيات، للتعرف على معاناة الأهالي ورفع الوعي بجريمة الاختفاء القسري في سوريا، وحتى يساهم هؤلاء الأشخاص بمطالبة حكوماتهم باتّخاذ إجراءات فورية لإطلاق سراح المعتقلين والمخفيين قسراً وإعطاء أهاليهم حق المعرفة. هذا ما قالته لرصيف22 ميس، واحدة من الفريق المنظّم للفعالية.
الهاتف يمثّل الأمل
“نقف في برلين مع عائلات المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا، لأن ألمانيا فيها أكبر تجمع للاجئين السوريين في أوروبا، لنذكّر العالم باليوم العالمي للاختفاء القسري وبأن هناك عشرات الآلاف من المختفين قسرياً في سوريا”، تقول ميس التي تفضّل ألا تتحدث باسمها الكامل وتضيف: “أهاليهم لا يعرفون شيئاً عنهم. البعض منهم تعود فترة اختفاء أحبائهم إلى تسع سنوات وثماني سنوات، ولا زالوا ينتظرون جنب الهاتف للحصول على خبر عن أحبائهم المعتقلين. لماذا اعتُقلوا؟ هل هم أحياء أم أموات؟ وفي حال الوفاة، ما هو سبب الوفاة؟ وكيف؟ وأين قبرهم؟ الأهالي يطالبون بحق المعرفة من النظام السوري وجميع الجماعات المسلحة التي قامت بجريمة الإخفاء القسري، بإنهاء استخدام الإخفاء القسري كوسيلة للضغط على المجتمعات”.
لماذا الهاتف؟ تجيب ميس: “لأن الهاتف يمثّل الأمل، الأمل في أن يرنّ بخبر عن الأحبة، ويصبح بمثابة الصديق عندما يصبح لديك مختفٍ قسرياً، فهناك بعض الأهالي معنا من الذين وجدوا صور أحبائهم في ملفات قيصر التي سُرّبت وتتضمّن صوراً لمَن قُتلوا تحت التعذيب في سجون الأسد، ولكن لا يزال لدى الكثير منهم الأمل ولو بقبر يزورونه، أو بخبر بأن هذه الملفات غير صحيحة. حياة هؤلاء الأهالي معلّقة، لا يستطيعون المضي دون معرفة الحقيقة”.
لا يمر يوم لا أطالب فيه بحريتهما
تقول لرصيف22: “زوجي وابني مخفيّان منذ عام 2012. شاركا في وفد هيئة التنسيق الوطنية التي شُكّلت في ذلك الوقت في الصين، للتباحث في الحل السياسي السلمي في سوريا، وعند عودتهما إلى المطار اعتقلوهما، ومنذ ذلك التاريخ لا أعرف عنهم أي شيء. وبالنسبة إليّ، قضية المعتقلين هي قضيتي في كل مكان وفي كل زمان، وفي كل ظرف أطالب بالكشف عن مصير المختفين قسراً والمعتقلين لدى كل الأطراف، ونحن المتواجدون في الخارج نستطيع أن نعبّر عن هذه القضية والحديث عنها، ونحن صوت العائلات التي لا تزال داخل سوريا ولا تستطيع الحديث عن اختفاء أبنائها”.
وعن علاقتها مع الهاتف، تروي محمود: “أنا منتظرة دائماً وأبداً رنّة هاتف تأتي بخبر أو معلومة أو إشارة تفرح قلبي أو تطمئنني عنهما. رنين التلفون في أوقات معيّنة كمنتصف الليل أو في وقت مبكر من الصباح يحفّزني، ويمنحني أملاً بأن هناك خبراً، فالهاتف هو رفيقي الدائم”.
وتتابع: “أنا وصديقاتي وزميلاتي مؤمنات بأن التغيير لن يأتي غداً، ولكن العمل الذي نقوم به، والمطالَبات، دائماً وأينما كنّا، هو عمل تراكمي، كي لا تُنسى هذه القضية، فنحن عائلاتهم وعلينا أن نبقي هذه القضية حيّة، فأنا مؤمنة بأنه يجب ألا يمر يوم دون أن أعمل شيء من أجلهم أو أطالب بحريتهم. نعم لديّ أمل كأم وكزوجة، يجب أن نعيش من أجله، فالظلم والاستبداد لا يدوم لآخر الزمان”.
ويقدّر المرصد السوري لحقوق الإنسان وجود نحو 200 ألف مفقود في سوريا، نصفهم تقريباً في سجون النظام.
بانتظار خبر حلو
أمين ملا خاطر (62 عاماً) كان يعمل محاضراً في جامعة الفرات والمعهد البيطري في دير الزور، وكان برفقة زوجته سمر علوني عندما مرّا على حاجز عسكري منذ ست سنوات وثمانية أشهر، وهناك اعتُقل ولم تعد سمر وابنيها وبنتها يعرفون عنه شيئاً.
تقف سمر في الساحة حاملة صورة زوجها، وتقول لرصيف22: “اعتُقل زوجي من قبل النظام إلا أنني لا أعرف اليوم أين هو ومع أي طرف من أطراف النزاع، وأنا كالبقية بانتظار أي خبر سواء كان حيّاً أو متوفياً، لا سمح الله. نعيش على الأمل، ونطالب بالإفراج عنهم، ونطالب بالمحاسبة، ونطالب بمعرفة أين هم؟ أين جثامين المتوفين؟ نطالب بالعدالة”.
وأشارت إلى إنها تنتظر أن يرن الهاتف ليأتي بـ”خبر حلو” مفاده “أُفرج عنهم، تعالوا لرؤيته”.
بانتظار اتصال من أحبائنا
كان كريم سليمان، الصحافي المواطن السوري يقف في الساحة حاملاً صورة أخيه محمد علي سليمان (36 سنة) المعتقل منذ ثماني سنوات لدى النظام السوري “لإيصال رسالة إلى العالم بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري بأنه لا يزال لدينا أمل، ولم نستسلم من أجل أحبابنا داخل السجون والمعتقلات عند نظام الأسد، القاعدة، داعش، قسد وغيرها من الفصائل الإرهابية التي تخفي أحبائنا قسرياً. نودّ أن نقول للمجتمع الدولي أننا موجودون وأننا بانتظار اتصال من أحبائنا بأنهم بخير أو بأنهم نالوا الحرية”، حسبما يقول لرصيف22.
ويضيف: “على الرغم من أن والدتي تلقّت اتصالاً عام 2015 من شخص مجهول يخبرها بأنه قُتل تحت التعذيب، إلا أنها لم تصدّق هذا الخبر لأنها لم ترَ الجثة وتعيش على أمل أنه حيّ وأنه في يوم من الأيام سيعود، فنحن بانتظار أي معلومة عنه، أي رقم غريب من سوريا يتصل بنا، أو يرسل رسالة نصية أو محادثة واتساب، على أمل أن يكون أخي على الجانب الآخر من المحادثة”.
مصدر للألم والأمل
تقف راية الحمصي، العضوة في “عائلات من أجل الحرية”، حاملة صورة خطيبها يامن البيج (41 عاماً) الذي تعرّفت عليه عام 2010، وجمعتهما الثورة وشغف التغيير والحرية، واتفقا على أنه لو حدث شيء لأي منهما على الآخر أن يكمل الطريق، ولكنها، كما أخبرَت رصيف22، لم تكن تتخيل أنها سيكون الشخص الذي يجب أن يكمل الطريق، فالحياة بتأنيب ضمير والانتظار صعبين والطريق طويل.
اعتُقل يامن عام 2012 في مبنى عمله كمهندس اتصالات. تعلّق: “نحن هنا لإيصال رسالة مهمة وقوية هي أنه من حقنا أن نعرف أين المعتقلين، سؤال نسأله منذ سنوات، ورغم بساطته إلا أنه للأسف ليس له جواب، نحن هنا لنعبّر عن معاناتنا في الانتظار، حياتنا المرهونة بتلفون، بخبر نسمعه عن المغيّبين منذ سنوات، فحياتنا لم تعد كما هي قبل اختفائهم”.
وعن الأمل، تقول راية: “لا يمكن أن نكون بدون أمل، أحياناً أفكّر في أن مطالبتنا لهم بالبقاء أحياء وأقوياء تحت كل هذا التعذيب وكل هذه السنوات هو أنانية منّا، ولكن الأمل هو الذي يجعلنا ننتظر”.
وشرحت الحمصي أن لها علاقة مؤلمة بالهاتف: “في اللحظة التي اختفى فيها يامن أُغلق هاتفه، فأصبحت أخاف عندما يكون هاتف أي شخص أتصل له مغلقاً في أي مكان، كما أننا لسنوات طويلة ننتظر أن ترنّ هواتفنا ليأتينا خبر بأنه أُطلق سراحه، أو لأن هناك معلومات عنه، فهذا مصدر للأمل والألم”.
رصيف 22
————————————–
“كأنّه سيعود غداً”…حكايات المغيبين قسراً في سوريا/ كارمن كريم
لا يقلُّ ألمُ فقدانِ المغيبين قسراً مع الوقت، تتكرر الأسئلة ذاتها في كلّ صباح: أين هو؟ هل هو حيٌّ؟ ماذا يأكل، كيف ينام، ماذا يشرب؟ أسئلةٌ تغذيها التخيلات المرعبة عن نهاية الأبناء والأخوة والآباء كما تغذيها الآمال أيضاً.
“اللحظة الأكثر رعباً كانت عند اتصالي للمرة الثانية به، لكن خطه كان خارج الخدمة”، تصف راما (اسم مستعار) اليوم الذي فقدت فيه عائلتها الاتصال مع أخيها، وتتالت المحاولات، إلا أن هاتفه بقي مغلقاً.
اضطرت العائلة بعد مجزرة داريا عام 2012 إلى مغادرة المدينة، من دون معرفة مصير ابنها، هل توفي تحت القصف أم أن النظام اقتاده إلى أحد سجونه؟ وعلى رغم الوعود الكثيرة منذ اختفائه، إلا أن لا خبر عنه حتى الآن.
هل هو حيّ؟
لكلّ مفقود أو مغيب قسراً حياة تركها خلفه وهي أكثر ما يؤلم هذه العائلات، كآخر سيجارة دخنها، طريقة رمي ثيابه على السرير، هاتفه المحمول، أحذيته، زجاجة عطره، دفاتره، كتبه. تعذّب الأغراض الشخصية عائلات المفقودين، إذ عليها مواجهة الفقدان كلما مرت بالقرب من غرفهم. لم تتخلّ الكثير من العائلات عن الأغراض الشخصية لأبنائها حتى أبسطها كفرشاة الأسنان أو شفرة الحلاقة، يحتفظ كل فرد بالجملة الأخيرة التي قالها له المفقود، تتردد هذه العبارات في كلّ جلسة لاستذكاره، جلساتٌ تنتهي بالبكاء دوماً.
تعيش آلاف العائلات ضياعاً وتخبطاً في ما يتوجب عليها فعله بعد مضي هذه السنوات كلها، هل تفقد الأمل وتسلّم بموت المختفي أم تستمر في بحث عقيم؟ لكنها كلما توقفت عن البحث أو استسلمت شعرت بتعذيب الضمير، فقد يكون المغيّب حيّاً وينتظر أهله في مكان ما. “اقتاد الأمن أخي أحمد منذ خمس سنوات ولا نعلم عنه شيئاً، وحتى اليوم ترفض والدتي العبث بغرفته كأنه سيعود غداً” تقول فاطمة (اسم مستعار).
لا يقلُّ ألمُ فقدانِ المغيبين قسراً مع الوقت، تتكرر الأسئلة ذاتها في كلّ صباح: أين هو؟ هل هو حيٌّ؟ ماذا يأكل، كيف ينام، ماذا يشرب؟ أسئلةٌ تغذيها التخيلات المرعبة عن نهاية الأبناء والأخوة والآباء كما تغذيها الآمال أيضاً، “بحس كل ما رن الهاتف إنه هو”، هكذا تصف أم أحمد انتظارها ابنها بعد خمس سنوات. كل ما تريده هذه الأم هو أن يكون ابنها حيّ في مكان ما، لكنها في الوقت نفسه تقول بتردد: “بس إذا كانوا الانذال عم بعذبوه فالموت أريح، مش هيك؟”.
النساء ضحايا الغياب
فقدت أحلام (اسم مستعار) الاتصال بزوجها بعد هجوم الجماعات الإسلامية المتطرفة على المنطقة الصناعية في مدينة عدرا عام 2013، حيث كان يعمل في أحد معامل الإسمنت، وصلتهم بعض الأخبار بأنه اعتقل مع آخرين كرهائن للعمالة وحفر الأنفاق، وكل ما استطاعوا الوصول إليه هو صورة لزوجها يحمل لافتة كُتب عليها اسمه وتاريخ اختطافه. كانت أحلام قد أنجبت طفلها قبل شهر من تغييب زوجها، اليوم عمر ابنها 8 سنوات. عانت وحدها في تربية أطفالها والانتظار الفارغ، ليقرر والدها في النهاية إجبارها على ترك الأطفال لبيت جدهم وتطليقها من زوجها. تعاني اليوم أحلام وتواجه مصيرها الذي أخذ منها زوجها وأطفالها وسرق شبابها لتختبر باكراً الفقد والخسارة بأقسى أشكالهما.
تعيش آلاف العائلات ضياعاً وتخبطاً في ما يتوجب عليها فعله بعد مضي هذه السنوات كلها، هل تفقد الأمل وتسلّم بموت المختفي أم تستمر في بحث عقيم؟
تخشى سلمى (اسم مستعار) أن تنسى قصة زوجها يوماً بعد آخر، “أخاف أنا أنسى ما حصل، وحين يمر يوم من دون تذكر ما نعيشه أشعر بالعار وأغضب من نفسي”. لا مستقبل لعائلات المغيبين فهم عالقون تماماً في الماضي، تحولت حياتهم إلى سلسلة من البحث والأمل وفقدانه، “لا يمكن الاستمرار، لكن لا حل آخر” تقول سلمى، فالاستسلام يعني التسليم بموت المغيب، لكنهم يحتاجون إلى جثة على الأقل يضعونها في قبر، جثة يقتلون بها أملهم في اللقاء، فالبقاء بين ضفتي الحياة والموت، الأمل واليأس، هو ما لا تقدر عائلات كثيرة على تحمله أكثر.
بعد فقدان والدها باتت لآية ردود فعل عنيفة، رفضت في البداية الذهاب إلى المدرسة وظهرت لديها أعراض شبيهة باضطراب كرب ما بعد الصدمة واضطراب قلق الانفصال وهذا ما جعلها لاحقاً تثير الكثير من المشكلات في المدرسة، رافضة تقرّب أي طفل منها أو التعامل مع أي من رفاقها. تقول والدتها إن أطفالها غير قادرين حتى اليوم على استيعاب فقدان والدهم ومصيره المجهول، أسئلة الأطفال تغدو أصعب في كل يوم، ترافقها مخاوف وقلق من فقدان أمهم أيضاً، فأي غياب قصير لها أو غير مبرر يعني نوبات ذعر وبكاء الصغار.
تُجّار المغيبين قسراً
يبرع النظام السوري في تحويل ديكتاتوريته إلى مورد مربح لأذرعه وضباطه، فباتت قضية المغيبين قسراً تجارة رائجة، وبين ليلة وضحاها تحوّل كل من له صلة بالنظام وقادر على الوصول إلى المعتقلين تاجراً لأخبارهم. ثمن خبر عن مفقود هو حفنة من المال، اتصال واحد قد يكلف الملايين، أمّا رؤية مغيّب لعشر دقائق فستكلف أضعاف هذا، وفي النهاية قد يكون المفقود متوفياً بكل بساطة. في بعض الأحيان تحتاج العائلات إلى التأكد مما إذا كان المفقود لدى النظام أم لا، ليتمكن أهله من متابعة البحث في مكانٍ آخر. اعتقل الأمن السوري أحد أبناء العشائر في مدينة السويداء، لم يعرف ذووه الوجهة التي قيد إليها، تواصلوا لاحقاً مع محامٍ يمتلك شبكة من العلاقات الأمنية وبالفعل تمكنوا من سماع صوت ابنهم في البداية وجاءت الوعود بأنه سيخرج خلال ثلاثة أشهر. أرسلت العائلة مبالغ كبيرة للمحامي، مقابل الإفراج عنه خلال أسبوع، اتصل المحامي بعد يومين ليخبرهم بوفاة ابنهم، هكذا بكل بساطة، عائلة مُنِحَتْ الأمل لثلاثة أشهر ثم خطفوا منها سعادتها إلى الأبد، لم تستطع العائلة الوصول إلى جثمان ابنها حتى وكأن ما حصل مجرد خدعة للحصول على مالهم وقتل ابنهم بعد ذلك!
يقول محمد (اسم مستعار)، “بعنا كل ممتلكاتنا، في البداية باعت والدتي ما لديها من مجوهرات، لاحقاً بعنا سيارتنا ثم بدأنا ببيع أغراض المنزل وصولاً إلى بيع منزلنا على أمل الوصول إلى أبي”. بعد 8 سنوات من اختفائه لم تصل العائلة إلى أي معلومة عن الرجل الستيني، وفي الوقت نفسه خسرت كلّ ما تملك وتعاني من الفقر والبحث الدائم عن منزل للإيجار.
عندما يعلم السماسرة رغبة الأهل في بيع منزلهم أو أثاثه مقابل الوصول إلى خبر عن معتقل، فإنهم يتحكمون في سعر المنزل ويمنحون العائلات مبالغ قليلة مقابل الأثاث، وكأنه لا يكفي هذه العائلات جهنم الانتظار والقلق، بل يتحول الجميع إلى مستغلين يودون الحصول على حصتهم من التغييب قسراً، يتابع محمد: “حين بعت المنزل واجهت صعوبة في الوصول إلى سعرٍ جيد، الجميع يستغل حاجتك الملحة إلى المال ويحاول الحصول على منزلك بثمن بخس”.
هناك أكثر من 130 ألف مفقود في سوريا، وهذا يعني 130 ألف عائلة، 130 ألف انتظار وابن وأخ وأم وأخت، تُدفن أعمارهم خلف الآمال الكاذبة والصور…
درج
—————————————
عن الضحايا والجلادين… حالة سوريا/ عمرو حمزاوي
منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في 1945، والكثير من الأعمال الفنية والأدبية والفلسفية والأكاديمية الأوروبية يناقش النتائج النفسية والذهنية لخبرات الاضطهاد على الضحايا كما الجلادين. لم تتوقف النخب المثقفة في أوروبا عند الأطروحات العامة بشأن طبيعة الحكومات القمعية وأسباب بقائها كما عوامل انهيارها.
بل تجاوزت ذلك إلى التفكير والبحث في تفاصيل حياة ضحايا المظالم والانتهاكات، وحياة الجلادين الذين يتورطون في إنزال الظلم بغيرهم إن طاعة للحكومات وأجهزتها الرسمية، أو اقتناعا مريضا بإيديولوجيات تحرض على العنف واضطهاد الآخرين.
خلال العقود الماضية، لحق بالنخب الأوروبية نخب المستعمرات الأوروبية السابقة في القارتين الآسيوية والافريقية التي إما تعاملت مع الاستعمار كخبرة قمعية طويلة المدى سبقت الحرب العالمية الثانية ومذابح النازيين وصنعت ضحايا وجلادين على نطاق إنساني واسع، أو بحثت في تداعيات ظواهر إجرامية كالعنصرية والاستيطان العنصري واستغلال «الأوروبيين البيض» في سعيهم المحموم للقوة والثروة لغيرهم من الشعوب اقتصاديا وعلميا. وبالمثل لحق بالأوروبيين مثقفو أمريكا اللاتينية الذين أبدعوا فنا وأدبا وكتابات فلسفية وأكاديمية تبهر في تشريحها لثنائيات الضحية والجلاد، إن في سياق العلاقة بين المستعمرين (المستوطنين) الأوروبيين والسكان الأصليين (ذوي الجذور الآسيوية والافريقية) أو فيما خص خبرة الفاشيات العسكرية وأجهزتها الأمنية والعنف المريع الذي مارسته ضد المواطن والمجتمع إلى أن أنجز التحول الديمقراطي.
أما في بلاد العرب، فطويلا ما تجاهلت النخب المثقفة حتمية الانتقال من عموميات الحديث عن خبرات القمع والظلم والاضطهاد إلى مناقشة ما تحدثه بالبشر ضحايا وجلادين، وما تلحقه بهوياتهم وبنظرتهم إلى ذواتهم وإلى الآخرين في مجتمعاتهم. يوجد عدد محدود من الأعمال البديعة مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للأديب الطيب صالح والكتابات الأكاديمية المتميزة ككتابات إدوارد سعيد التي تناولت بالتحليل العلاقة بين المستعمر الضحية والمستعمر الجلاد، ويوجد عدد أقل من الأعمال الفنية كبعض الأفلام الروائية التي صنعها المخرج عاطف الطيب واهتمت بالعلاقة الأخلاقية والإنسانية المركبة بين الضحايا والجلادين، ويوجد بعض كتابات أصدرها في السنوات الأخيرة فلاسفة ومؤرخون وأدباء من بلدان المغرب العربي حول المتبقي من إرث الاستعمار الأوروبي في الثقافة والفكر واللغة وحول استتباع المجتمع ونخبه من قبل الحكومات السلطوية. باستثناء تلك الأعمال، لن نعثر في سجلاتنا العربية على إبداعات وأعمال تساعدنا على فهم حقائق الاضطهاد كما تتنزل في عالم الضحايا والجلادين واقعا يوميا.
عربيا، نحن اليوم في معية لحظة مناسبة لإنتاج فن وأدب وأعمال فلسفية وأكاديمية تتجاوز عموميات الحديث عن القمع والظلم وتوثق ما يحدثه الاضطهاد بنا كضحايا وجلادين. لا يغادر من تسلب حريتهم، ويلقون وراء الأسوار، السجون وأماكن الاحتجاز كما دخلوها. ويجافي الموثق من خبرات عالمية تتشابه مع أوضاعنا العربية أن نفترض أن من يتورطون في تنفيذ القمع والعنف والتعذيب وانتهاكات أخرى يحتفظون بإنسانية سوية، حتى وإن كانوا نفرا من «الموظفين» الذين يتلقون أوامر الأجهزة الأمنية أو «المواطنين الصالحين» الذين يصدقون الحكومات التي تبرر القمع. ويناقض منطق الأشياء أن يروج لوهم تمتع المدافعين عن الحقوق والحريات بقدرات بطولية خارقة تمكنهم من مواجهة القمع والتغلب على الخوف أو أن يروج لأسطورة استعداد بعض «الخيرين» للتضحية الدائمة. فالحقيقة هي أن الضعف والخوف والرغبة في النجاة الشخصية إزاء القمع الممنهج للحكومات هي مشاعر إنسانية طبيعية ومتوقعة وعميقة التأثير وتستدعي مقاومتها اعتراف الإنسان بوجودها والعمل الجماعي مع مدافعين آخرين عن الحقوق والحريات على احتواء آثارها دون ادعاء بطولات زائفة أو تورط في مزايدات كلامية.
عربيا، نحتاج إلى فنانين وأدباء وفلاسفة وأكاديميين ومبدعين وعلماء يوثقون حقائق الاضطهاد كما نختبرها ضحايا وجلادون.
نحتاج إلى فهم ما تحدثه بنا وبهوياتنا وبإنسانيتنا بعيدا عن العموميات والمزايدات. نحتاج إلى التيقن من قدرتنا الفردية والجماعية على الشفاء يوما ما من شرور الاضطهاد لكيلا نغرق في ظلامية دوائر قمع وعنف وانتقام وكراهية لا تنتهي. نحتاج إلى حديث صريح للضحايا عن خوفهم وحديث للجلادين عن عذاب الضمير والعقل، وحديث صريح أخر عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن الاضطهاد والمظالم.
فكما سألت حنا أرندت في النصف الثاني من القرن العشرين، هل يتحمل المسؤولية أصحاب السلطة والنفوذ بمفردهم أم هل يرتب تورط «الأعوان» و«الموظفين» في إنزال المظالم بالناس عبر آليات تنفيذ الأوامر مسؤوليتهم هم أيضا؟ بصيغة بديلة، وبالنظر إلى الحالة السورية على سبيل المثال، هل تقتصر المسؤولية عن المظالم والانتهاكات غير المسبوقة التي يتعرض لها السوريون على رأس السلطة التنفيذية الذي زج بالبلاد إلى هاوية فاشية ودموية مفزعة وعلى أعوانه المباشرين في المؤسسات النظامية والأمنية والرسمية أم هل تمتد خطوط المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية إلى موظفي العموم في تلك المؤسسات الذين يضطلعون بتنفيذ أوامر إنزال المظالم والانتهاكات بالناس «كروتين عمل يومي» يتضمن التورط في القتل الجماعي وسلب الحرية والإلقاء وراء الأسوار والتعذيب والتصفية الجسدية؟ بل هل تمتد خطوط المسؤولية أيضا إلى أصحاب المساحات في الفضاء العام الذين يتخصصون في تبرير أوامر ديكتاتور الشام إن بإنكار اشتمالها على مظالم وانتهاكات أو بالربط الزائف بين المظالم والانتهاكات وبين ضرورات الدفاع عن الوطن وأمنه أو باعتبارها مقدمة لإنقاذ الوطن من مؤامرات أعداء الداخل والخارج؟
كاتب من مصر
القدس العربي
——————————–
130 ألف مفقود على يد النظام في سوريا والأهالي ينتظرون خبراً
————————————–
سورية جهنم على الأرض/ الدكتور رضوان زيادة
ربما مرت الكثير من البلدان العربية والأفريقية بظروف الحرب كما تعيشها سورية اليوم، بيد أن الوضع في سورية اختلف عن هذه البلدان لطريقة انتهاء الحرب، ففي لبنان على سبيل المثال انتهت الحرب الأهلية عام 1990، بعد تسوية سياسية عرفت باتفاق الطائف الذي أسس دستوراً جديداً وبنيت الحياة الديمقراطية في لبنان على أساسه، وسيطرت القوات السورية على كل معاقل المعارضين للاتفاق بغرض فرضه بالقوة. ورغم ظروف الحياة القاسية التي عاشها اللبنانيون بعد الحرب إلا أن سياسات الإنماء الحريرية أعادت للبنان ألقها، إلى أن وصلت إلى طريق مسدود مع سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة، ورهنها لبنان لحسابات خارجية.
أما في العراق فانتهت حرب ما بعد الاحتلال الأمريكي باتفاق سياسي يضع العملية الديمقراطية كأولوية له، ورغم استمرار العنف إلا أن نفط العراق كان قادراً على إعادة بعث الحياة التي دمرها الاستبداد والفساد.
الصورة في سورية تبدو مؤلمة وقاتمة إذ تمكن النظام من الانتصار على المعارضة المسلحة في مناطق مختلفة من سورية، بالاعتماد على سلاح الجو الروسي الذي لم يميز بين المدنيين والعسكريين، وباللجوء إلى المليشيات الإيرانية وحزب الله، وبالتالي أعاد الأسد سيطرته على الكثير من مناطق المعارضة وأعاد إخضاعها لمبدئه في الحكم القائم على التعذيب والقتل وغياب حكم القانون. فقد نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً يوثق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها نظام الأسد ضد اللاجئين العائدين إلى سوريا من لبنان ومخيم الركبان الحدودي (مخيم غير رسمي يقع على الحدود بين الأردن وسوريا)، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، خلال الفترة بين منتصف 2017 وربيع 2021، استناداً لمقابلات أجرتها المنظمة مع 41 مواطناً سورياً، من بينهم بعض العائدين وأقاربهم وأصدقائهم، بالإضافة إلى محامين، وعاملين في المجال الإنساني، وخبراء متخصصين في الشأن السوري، التقرير يرسم صورة في منتهى الفظاعة عن التعذيب والاغتصاب والقتل والإهانات اليومية التي يتعرض لها المدنيون السوريون.
لقد شعرت وأنا أقرأ التقرير بالغثيان من كل هذه الفظاعات التي تجري في بلدي سورية، وكأن هذه المنطقة التي كانت إشعاعاً للحضارات، عبر التاريخ عادت إلى العصور الوسطى الأوربية في التفنن بطرق ووسائل التعذيب، يذكر التقرير في أحد شهاداته “بعد أن أطلقوا سراحي، لم يكن بمقدوري أن أقابل أي شخص جاء لزيارتي لمدة خمسة أشهر، انتابني خوف شديد منعني من التحدث مع أي شخص، ظلت تلاحقني الكوابيس والهلاوس، كنت أتكلم أثناء نومي. كنت استيقظ من نومي عادة مرعوباً وأنا أبكي. أصبحت لدي إعاقة بسبب تلف أعصاب يدي اليمنى من جراء (التعذيب)، كما أصبت بتلف في غضاريف فقرات ظهري”.
ملايين من السوريين يعيشون هذا الأذى النفسي اليومي من صور وقصص التعذيب التي عاشوها أو سمعوا عنها، ويستكمل التقرير بالقول في إحدى أكثر الشهادات إيلاماً ووحشية بحق اللاجئين الذين قرروا العودة إلى وطنهم الأم، فقد وثقت منظمة العفو الدولية 14 من حالات العنف الجنسي الذي ارتكبته قوات الأمن، من بينها سبع حالات اغتصاب شملت خمس نساء، وفتى مراهقاً، وطفلة في الخامسة من عمرها. ووقعت أعمال العنف الجنسي عند المعابر الحدودية أو في مراكز الاعتقال، أثناء استجواب الضحايا. وجاءت الإفادات التي سجلتها منظمة العفو الدولية متّسقة مع أنماط موثقة توثيقاً جيداً من أعمال العنف الجنسي والاغتصاب ارتكبتها قوات الأسد ضد المدنيين والمعتقلين أثناء الصراع.
فعندما عادت نور من لبنان، استوقفها أحد ضباط الأمن على الحدود، وقال لها:
“لماذا رحلت عن سوريا؟ لأنك لا تحبين بشار الأسد ولا تحبين سوريا؟ أنت إرهابية… سوريا ليست فندقاً تغادرينه وتعودين إليه متى تريدين”.
ثم اغتصبها ضابط الأمن، هي وابنتها البالغة من العمر خمس سنوات، في غرفة صغيرة تستخدم في التحقيق عند المعبر الحدودي.
لم يعد الأسد يستخدم فروع أجهزة الأمن كمراكز اعتقال سرية للتعذيب والقتل، وإنما أصبح يلجأ وبكل وقاحة إلى النقط الحدودية التي أصبحت مراكز تعذيب تنتظر اللاجئين العائدين إلى وطنهم وبلدهم. وصلت به الجرأة إلى تحويل كل المكاتب والمراكز الحكومية إلى فروع أمنية وأجهزة اعتقال وتعذيب أمام أعين السوريين والعالم.
لم يعد يردع الأسد شيء من الوطنية أو الأخلاق في ممارسة الاغتصاب بحق طفلة عمرها خمس سنوات فقط، هل يمكن أن يصدق إنسان حجم الوضاعة التي وصلت إليها أجهزة وشبيحة الأسد، إنهم مخلوقات لا يحق لنا وصفهم بالإنسان، في الولايات المتحدة يطلق على المغتصب لقب “المفترس”، لأنه يقوم بافتراس ضحيته بدون أي حس يحمل الإنسانية أو الأخلاق وتقوم السجلات المدنية بتسجيل اسمه في قيوده الدائمة، بحيث يحرم من الحصول على أي قرض، ويجب إعلام كل المواطنين باسمه إذا ما انتقل للعيش في أية منطقة سكنية، فهو استحق لقب المغتصب مدى الحياة، فما عسانا نقول اليوم عن ذلك “المفترس” الذي كانت ضحيته مجرد طفلة عمرها خمس سنوات.
الناس نيوز
——————————-
========================