مراجعات الكتب

“متحف البراءة”.. أورهان باموق يخلّد ذاكرة الحب/ بشير البكر

أن تتحول الأشياء المشتركة بين حبيبين إلى موجودات متحفية، ذلك ما لا يخطر على البال. يمكن أن نكتب سيرة للأشياء من أجل تشكيل حياة الأحداث، وهذا حصل كثيرًا في الرواية، وخصوصًا على مستوى استنطاق المكان، ولكن تجميع التفاصيل وتركيبها في رواية موازية هذا هو الجديد الذي قام به التركي أورهان باموق صاحب رواية “إسطنبول”، الذي حاز بفضلها جائزة نوبل عام 2006، وهي عبارة عن سيرة ذاتية للكاتب الذي ولد في حي “جيهان جير” في وسط مدينة إسطنبول، والذي تم بناؤه تدريجيًا منذ عدة قرون، ولكنه بات حيًا “كوزموبوليتيًا” في القرنين الأخيرين، منذ بدء “عصر التنظيمات” في أربعينيات القرن التاسع عشر، وازدهر خلال مرحلة الانفتاح التي عاشتها تركيا مع السلطان عبد الحميد الثاني الذي دام حكمه قرابة ثلاثين عامًا، 1876-1909.

صدرت رواية باموق عام 2008، وهي تحمل اسم “متحف البراءة”، وتسرد علاقة عاطفية بين شاب من طبقة ثرية مع قريبة له من أصول طبقية متواضعة، وتدور أغلب أحداثها في حي “نيشان طاش” أحد أحياء إسطنبول القديمة، وزمن الرواية هو ما بين منتصف السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ومنذ أن خطرت فكرة الرواية على الكاتب لأول مرة في التسعينيات، بدأ في جمع أشياء لعرضها في متحف حقيقي يضم اليوم آلاف الأشياء من الحياة اليومية في طفولته في إسطنبول ما بعد الخمسينيات، ويمكن للمرء أن يجد أيضًا قصة “الحياة اليومية وإسطنبول”. وصمم باموق شخصيًا كل خزانة من خزائن المتحف البالغ عددها 83 لوحة تشير إلى أجزاء مختلفة من الكتاب. كل منها يشبه متحفًا صغيرًا في حد ذاته، يصف بشكل فردي “الذكريات والمعاني المرتبطة بأشياء من الحياة اليومية” كما هو موصوف في الرواية، وفقًا لـ”كتالوج” المتحف.

المتحف الذي أقامه باموق في مسقط رأسه بحي “جيهان جير” ليس موازيًا بصورة مباشرة للرواية، واحتوى على موجودات من حياة إسطنبول خلال عشر سنوات، الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية. ولكنه يلعب مع الماضي الحميم ويعمل على تحويله إلى موجودات متحفية، وفي ذلك محاولة للتعويض عن خسارة الماضي الذي يريد أن يحتفظ به، وهذا ما تقوله الفكرة الثانية التي يوحي بها المتحف وهي التملك. هو يريد أن يقول بأن الكائن في وسعه امتلاك الماضي، ولكنه في الحالين يعزي الذات بفكرة لا تلبث هي ذاتها أن تصبح قديمة، ويمر عليها الزمن بقدر ما يعبر على الموجودات التي تصير من زمن آخر، ويستكشف الزائر للمتحف ذكريات الحب المفقود: مشبك الشعر، قرط أذن واحد، فستان منمق، صور بالأبيض والأسود، آلاف من أعقاب السجائر، المملحة التي لمستها الحبيبة ذات مرة، الكلب الصيني الصغير الذي يجلس على قمة تلفزيون عائلتها. تجد هذه الأشياء في النهاية منزلها في المتحف الذي تحول إلى مزار للحياة اليومية، الذي سيقضي باموق سنواته الأخيرة في بنائه، ويدعو إلى فهم كل عنصر في المتحف الذي تحول إلى ما يسميه في مكان آخر “هوزون” (حزن). ويقول إنها مفردة تركية تعني حزنًا، لكن hüzün يحمل فهمًا لاهوتيًا لـ “مكان الخسارة “، ويحافظ على مرثية الحنين إلى الماضي، وينقل إحساسًا بـ”الفشل الدنيوي [و] الخمول”، ولهذا فإن كل مكان ولحظة من الجمال في إسطنبول تبدو وكأنها مشعّة بالحزن. وهذا يجعل الرواية نظيرًا في العصر الحديث لتحفة باموق “اسمي أحمر” الرواية التي تدور أحداثها في مدينة القرن السادس عشر.

الرواية متروكة على سجيتها مثل علاقة حب تشق طريقها بلا عقبات، وكان يمكن لها أن تكون أقصر. ومع ذلك، بقي البناء محكمًا، ولو أردنا أن نختصرها من الصعب تحديد أي وجبة أو لحظة من الشوق يجب أن نستغني عنها، ومن هنا يكتسب متحف البراءة مدى، وهو مدى يسمح للحكاية أن تحفر في المشاهد. والطريف أنه تظهر في الصفحات الأخيرة من الرواية شخصية ثانوية تُدعى أورهان باموق، وهي شخصية شوهدت لآخر مرة على أنها مخرج في إحدى الحفلات، لحظة توقف ما وراء القصة للإيحاء بأن السرد واقعي، في عمل يقول في نهاية المطاف إن البطل كمال حقق حلمه المجنون المتمثل في إنشاء متحف لتكريم حبه للفتاة “فسون”، وهذا المتحف ليس سوى جنة زمانهم المشترك المفقود. الزمن الذي نفد، كما لو كانت المدينة بأكملها نصبًا تذكاريًا لأيامها الأجمل. ولكن متى كان ذلك؟ تحت حكم أتاتورك، ربما؟ أو ربما قبل ذلك، في الماضي العثماني، كان هذا يكمن في كل مكان ولكن شخصيات الكتاب نادرًا ما تتحدث عنه. إنها مدينة قديمة، قديمة جدًا لدرجة أنه في عام 1975، عندما بدأت هذه الرواية الضخمة، لا يزال راويها الرئيسي كمال يقود سيارة شيفروليه عام 1956. ومع ذلك، ومن المفارقات أن هذه أيضًا علامة على شبابها، لأن تركيا باموق نفسها قد أتت متأخرة إلى الحداثة، بينما يتحدث كمال وأصدقاؤه الآتون من وسط البرجوازية الثرية في إسطنبول باستخفاف عن أولئك الذين يبدون “أتراكًا” أكثر من اللازم.

يمثل المتحف في الرواية منزل عائلة الحبيبة، والذي يزوره كمال، لمدة ثماني سنوات بعد أن تزوجت من شخص آخر، ولكنه في الواقع مكان كي يفهم العشاق الخائبون مدى خسارة الحب، وأن الحب ليس مجرد لقاء سعيد، بل له جانب مظلم أيضًا. ويكفي أن يقوم زائر المتحف بترتيب الموجودات على نحو ما، حتى يجد قصته الخاصة ماثلة أمامه. يتردد صدى هذا الشعور بين العديد من الزوار الذين أخذوا الوقت الكافي لقراءة الكتاب، حيث ربط باموق بين الحبكة في الرواية والمتحف بالتوازي.

تم افتتاح متحف البراءة بعد أربع سنوات من إصدار الكتاب، وهو كائن في حي “جيهان جير” الشهير في إسطنبول في منزل أحمر من خمسة طوابق من القرن التاسع عشر، تملكه عائلة باموق. وفي عام 2014، فاز المتحف بجائزة المتحف الأوروبي لذلك العام، ويضم معروضات في أربعة من طوابقه في خزانات ذات واجهات زجاجية، والتي قال باموق ذات مرة إنها مستوحاة من أعمال الفنان والمخرج الأميركي جوزيف كورنيل. وبحسب باموق، يسلط المتحف الضوء على “العلاقة بين ذاكرتنا والأشياء.. الأشياء التي نكتسبها ونراها أثناء الوقوع في الحب تذكرنا أيضًا بمراحل حبنا”.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى