من أنا بين الأنداد؟.. القراءة كتعدّد/ تغريد عبد العال
اكتشف الكاتب الإيطالي، أنطونيو تابوكي، الشاعرَ البرتغالي، فرناندو بيسوا، حين قرأ أول مرة قصيدته “دكان التبغ” مترجمة إلى الفرنسية، وذلك في فرنسا في أحد الأكشاك، وكان هذا هو المدخل الذي عرّف تابوكي على بيسوا الواسع المتعدد، فقال لنفسه: من يكتب هذه القصيدة الرائعة، عليّ أن أتعلم لغته. وهنا بدأت رحلة تابوكي في تعلم اللغة البرتغالية، فسافر إلى البرتغال، وترجم معظم أعمال بيسوا، وكتب رواية عن بيسوا اسمها: “الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيسوا”، ومقالات عنه وعن أنواته المتعددة. فهل كانت تلك القراءة مدخلًا مهمًا إلى حياة تابوكي؟ وهل كان تابوكي واحدًا من أنداد بيسوا؟ ربما تتيح لنا القراءة فرصة أن “نموت لنصبح آخر”، كما يقول الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه.
فرناندوا بيسوا الشاعر البرتغالي الذي قال على لسان أحد أنداده ألبرتو كايرو: لست نفسي دائمًا حين أتكلم وحين أكتب، ها هو يلهم الكاتب الإيطالي ليصبح كاتبًا مهمًا في ما بعد، ويكتب عن تلك الأنا المتعددة في معظم رواياته، وهذا ما جذبه إلى بيسوا وإلى البرتغال، وهو الذي قال في سؤال عن روايته المهمة “بيريرا يدَّعي”: إني مقتنع أن على كل كاتب أن يتبع نبضات قلبه”.
لقد اتبع تابوكي نبضات قلبه حقًا، وذهب بعيدًا ليتتبع أثر صديقه الشعري العميق بيسوا. ففي كتابه “الحنين إلى الممكن”، الذي ترجمه إلى العربية، نزار آغري، ويضم ثلاث محاضرات عن بيسوا ألقاها في المعهد العالي للدراسات الاجتماعية في باريس، يتحدث تابوكي عن علاقة بيسوا بالزمن وبالحنين، الذي هو ترجمة لفكرة ما في داخلنا، وهي أن الحياة لا تتكرر أبدًا. وقد حاول الأدب الدخول إلى معنى تلك الفكرة، والحديث عن أن الزمن لا يستعاد، وهذا يتجلى بقوة في قصائد بيسوا التي تعيش شخصياته في اللحظة ذاتها والحاضر نفسه، وبذلك ينطبق ما قاله أوكتافيو باث على شخصيات بيسوا: ليس للشعراء سيرة حياة، قصائدهم هي سيرة حياتهم.
وربما أيضًا، أتساءل هنا: أليس قراؤهم هم جزء من تلك الحيوات التي صاروا جزءًا منها؟ ربما يجيب تابوكي بطريقة مواربة عن ذلك في روايته “الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيسوا” التي ترجمها إلى العربية إسكندر حبش، ففي الرواية يلتقي بيسوا وهو على فراش الموت بأنداده، فيحدثونه عن هواجسهم وعن أفكارهم، ولكنهم يقولون له إنهم سيختفون إذا اختفى، ويصارحونه بأسرار لا يعرفها هو، وكأن الكاتب هنا يؤكد حقيقة الانفصال بين هذه الأنوات، بحيث تكون هنالك حياة مختلفة لكل واحد منهم، وكأن هنالك صداقة بين هذه الأنوات المختلفة، لتخلق آخر جميلًا ونقيضًا في الوقت نفسه، كما قال بيسوا في إحدى شذراته: “ما يلزمنا أن يتضاعف كل واحد من خلال نفسه”.
هل حدث الأمر ذاته مع ألبرتو مانغويل، الكاتب الكندي والمثقف الموسوعي، الذي يحب دائمًا أن يقول عن نفسه إنه قارئ فقط، لكننا وبسرعة نتذكر صديقه بورخيس عندما نقرأ اسمه؟ فقد كان مانغويل قارئًا للشاعر والكاتب الأرجنتيني بورخيس، وتأثر كثيرًا به. يقول في كتابه “مع بورخيس”: “كنت في السادسة عشرة، وكنت أزور بورخيس ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع في الشقة التي يتقاسمها مع أمه والخادمة فاني”. ونصحت عمة مانغويل أن يسجل على دفتر ملاحظات ما يقوله بورخيس، لكنه لم يفعل، لأنه كان يشعر بالامتلاء من حديث بورخيس عن الكتاب، وكان يشعر أنه حديث مختلف حول دقة الكتب، وحول اكتشاف كتَّاب لم يقرأهم بعد. كان عمى بورخيس قد اشتد عليه تدريجيًا في عمر الثلاثين، واستقر بعد عيد ميلاده الثامن والخمسين، وكان ثالث مدير للمكتبة الوطنية أصابه العمى، وكان يتحدث عن ذلك بسخرية، كما يتحدث دائمًا عن الشعراء الذين أصابهم العمى، كهوميروس، وميلتون.
وكان يملي على مانغويل السطور التي كتبها في ذهنه، ثم يطلب منه أن يعيد قراءتها مرة أخرى، مرة ومرتين ثم خمس مرات، ثم يعتذر. كان بورخيس يقول عن نفسه إنه قبل كل شيء قارئ، وكتب الآخرين هي ما تحيط به. كانت كتبه التي ألفها مفقودة من مكتبة الشقة، وكان يقول بفخر لزائريه إنه لا يمتلك كتابًا واحدًا يحمل اسمه. لا يتحدث بورخيس كثيرًا عن صداقته للكتَّاب الذين يعرفهم إلا من كونه قارئهم، وكأنهم لا ينتمون إلى عالم اليوم، بل إلى عالم الكتب، وهو يؤمن أيضًا أن القارئ أيضًا يقوم بمهمة الكاتب، هكذا يقول لمانغويل وهما يتمشيان: “ليس في وسعك معرفة إذا كان الشاعر جيدًا، أو رديئًا، إلا إذا كانت لديك فكرة عما كان ينوي أن يفعله”. ويتابع “وإذا لم أفهم قصيدة، فإني لن أستطيع أن أفهم نية كاتبها”. القراءة بالنسبة لبورخيس هي الطريقة لأن يكون كل هؤلاء الذين يعرفهم ولن يكونهم، كالعشاق والمحاربين ورجال التأثير. القراءة، إذن، تعدد بالنسبة إليه، وهي أيضًا مكان لتصبح آخر.
وقد كتب مرة في نص مشهور نشر عام 1952: “كل كاتب يخلق الأسلاف الخاصين به”، وبهذه المقولة تبنى بورخيس سلالة من الكتاب الذين يظهرون اليوم كبورخسيين بالمعنى الحرفي؛ أفلاطون، ونوفاليس، وكافكا، وشوبنهار، وريمي دي غورمون، وتشسترون.
يقول مانغويل في كتابه “فن القراءة”، ويصف أيضًا نفسه كقارئ، إن القراءة أيضًا هي قراءة متعددة، فنحن نقرأ كل شيء حولنا، العالم والوجود والفن التشكيلي والسينما، ولكن الكلمات بالنسبة إليه تمنح العالم تماسكًا منطقيًا. ويضيف في إشارة لرواية “مئة عام من العزلة”: “عندما ابتلي أهالي ماكوندو بمرض يشبه فقدان الذاكرة حل بهم في أحد الأيام، خلال عزلتهم ذات المئة عام، أدركوا أن معرفتهم بالعالم قد تختفي بوتيرة سريعة، وأنهم قد ينسون ما كانت تعنيه بقرة، أو ما تعنيه شجرة، أو ما يعنيه بيت، فاكتشفوا أن الكلمات هي الترياق، ولكي يتذكروا ما عناه عالمهم لهم كتبوا بطاقات تعريف وعلقوها على البهائم والأشياء؛ هذه بقرة، هذا باب، لذلك تخبرنا الكلمات عما نحسبه نحن كمجتمع ـ ماهية العالم”.
عندما نقرأ ألبرتو مانغويل ندرك كم شكلت الكلمات والقصص عالمه الداخلي وحياته ككاتب. فها هو يكتب في كتابه “مدينة الكلمات” عن معنى الآخر والهوية من خلال تحليله لملحمة جلجامش، التي يخلق فيها الشاعر قرينًا بريًّا لجلجامش هو أنكيدو، يصبح صديقه وكأنه وجهه الآخر، وهما في النهاية يصبحان مهمين ليدرك أحدهما عمق هويته داخل مدينته أوروك، وحتى تضحية أنكيدو كانت مهمة لمجد المدينة الأسمى أوروك.
وهنا ربما ندرك أن الكلمات والصداقات التي ننسجها ونحن نقرأ، والأبطال الذين نصادفهم، سواء في الكتب، أو في الحقيقة، هم جزء من تلك الرحلة التي نتتبع فيها آثارًا إلى هويتنا. وربما هكذا تتحول الترجمة أيضًا إلى صداقة وشعور بالقرب من هذه الأرواح الكبيرة في العالم.
ضفة ثالثة