النساء والكتابة عن ألمهن.. أشعور مضاعف بالعار؟/ كاثرين أنجل
تختبر النساء اللاتي يكتبن عن ألمهن شعورًا مضاعفًا بالعار: مرّة لأجل الأذى الذي تعرضن له، ومرّة لأجل فعل تعرية الذات الذي يقمن به.
في الحلقة الثانية من المسلسل التلفزيوني “قد أدمّرك” (2020) – المسلسل الذي نال استحسانًا كبيرًا، وهو من بطولة ميكايلا كويل، ويدور حول الحيوات المترابطة لمجموعة من الشباب والشابات السود من سكان لندن- تجلس أرابيلا، الشخصية الرئيسية في المسلسل بدور كاتبة، في مركز شرطة مع صديقتها كوامي وامرأتين موكّلتين بــِــ”قضيتها”. أرابيلا (التي تقوم كويل بدورها) لا تعرف بالضبط ما هي “قضيتها”: إنها تعتقد أن مواد مخدرة قد دُسّت في شرابها في الليلة السابقة، وفي ذهنها صورة لرجل، تراه من الأسفل، متعرّقًا، في دورة مياه، ويرافقه صوت ارتطام مكتوم. تشير واحدة من النساء إلى هذه “الذكرى”، وتستخدم أيضًا كلمة “اعتداء”. لكن أرابيلا تصحّح لها؛ “إنها ليست ذكرى”، تقول، إنها مجرد “شيء داخل رأسي”. أرابيلا ذاتها لا تعرف ما هو بالضبط، و”قد لا يكون حتى حقيقيًا”؛ ألا يجب إذًا أن يكونوا حذرين في شأن الكلمات التي يستخدمونها؟ توافق الشرطية، وتتابع بلطف.
الرجل الذي تصفه أرابيلا طويل القامة، وله فتحتا أنف كبيرتان. لكن الشرطية توضّح لها بأنه إذا كان الشخص فوقك، فسيبدو أطول قامة، وستبدو فتحتا أنفه كبيرتين. “هل تستطيعين أن تري عيني الرجل؟” تسألها المرأة. “نعم، أستطيع أن أرى وجهه كاملًا بوضوح شديد”، تقول أرابيلا. “ربما نستطيع رسمه إذًا. إلى من ينظر؟” تسأل المرأة. يسود صمت. تتدفق مشاعر أرابيلا، وتسحب بلوزتها الفضفاضة لتغطي بها وجهها. إنها هي: الرجل ينظر للأسفل إليها. والآن بعد أن أدركت ذلك، لا تريد أن تُرَى. لا تريد أن يُنظَر إليها.
في كتابها “الأنوثة والسيطرة” (1990)، تناقش الفيلسوفة الأميركية ساندرا لي بارتكي أن العار – عكس الشعور الذنب المتعلق بالأفعال- “يُستثار بإدراكِ عيبٍ خطير في الذات”. العار، وفقًا لبارتكي، يتطلّب “الإقرار بأنني أنا، إلى حد كبير، كما أُرى من قبل الآخرين”. عندما تغطي أرابيلا وجهها في مركز الشرطة، ما يُقَرّ هنا، وما لا يُحتمل، هو إدراكها لنفسها على أنها المرأة التي اُغتصِبت، في عيون المغتصب، وفي عيون المرأة التي تواجهها. إنها ترى نفسها كما تُرَى.
لطالما كان الشعور بالعار أداة قمع، وطريقة في ضبط وتوجيه سلوك النساء والمختلفين. مع هذا، العار، كتجربة، هو أيضًا جزء من ترسيخ الشعور بـِــ”ذاتية مقيَّدة”، كما عبّرت عنه الباحثة الأدبية الإنكليزية كاي ميتشل في كتابها “كتابة العار” (2020). العار يفردنْنا؛ إنه يجعلنا نشعر بأنفسنا كأنفسنا في فرديّتنا المتألمة. والعار، مع كلّ شناعته، “ليس أقلّ من الإحساس الجوهري بكوننا ذاتًا”، كما كتب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في كتاب “بقايا أوشفيتز” (1998). إننا نختبر أنفسنا كأفراد، إلى حد ما على الأقل، بفضل أفعال العار، ما يعني أن العار ضروري من الناحية التنموية لعمل المجتمع. العار يتيح تنظيم سلوكنا. لكنه في أثناء ذلك، يجعلنا، بحدّة وعلى نحو غير مريح، مدركين لأنفسنا كـَــ”موضوعٍ للآخرين، وموضوعٍ موصوم بالعار فوق ذلك”، وفق تعبير ميتشل. فإذا كانت النساء بهذا المعنى مُشيّئاتٍ على نحو مضاعف، فربما يكون من شأن العار أن يفرْدن النساء، على نحو مكثّف وخاص. وهذه الثنائية – “تفريد مؤلم” و”علائقية خارجة عن السيطرة”، كما تعبّر عنها المنظّرة في مجال أحرار الجنس إيف كوسوفسكي سيدويك في كتاب “لمس الشعور” (2002)- تُنتِج سلطة متناقضة: “الشخص هو شيء في اختباره للعار”، كما تكتب سيدويك. أو أن العار، كما تقول ميتشل، “يورّثنا الفردانية كهبة وكعبء في الآن ذاته”.
قد لا تقدّم هذه الـ”هبة” الكثير من العزاء للذين يتصارعون مع تجارب محفّزة بشدة للعار، كالاعتداء الجنسي مثلًا. في واقع الأمر، إن إحدى السمات المميِّزة لتجربة الاعتداء الجنسي هو الشعور بعارٍ لا يستطيع أي مقدار من الطمأنة والإصرار – بأن الضحية ليست مسؤولة عن الاعتداء عليها- أن يمحوه تمامًا. في مذكراتها المعنونة “أختار إيلينا” (2019) تقدم لوسيا أوسبورن كرولي وصفًا مؤثرًا لاعتداء جنسي عنيف تعرضت له حين كانت مراهقة، بالإضافة إلى عواقبه اللاحقة التي تجلّت في شكل مرض جسدي مزمن. الكتاب عبارة عن استكشافٍ لتداعيات العنف الجنسي، ولقدرة العقل على دفع ذكرى تجربة مريعة إلى الجسد، وخارج الإدراك الواعي. كذلك، يظهر فيه بشكل ملحوظ أثرُ كتاب “الجسد يسجّل النتيجة” (2014) للطبيب النفسي الهولندي بيسل فان دير كولك. تكتب أوسبورن كرولي: “كنت خجلة من الاعتراف بأن هذا حدثَ معي، لكني بعدها رحت أذكّر نفسي بالقصة التي اختلقتُها لأخدّر الشعور الأول بالعار: أن ذلك لم يحدث قط”. وتكتب أيضًا: “شعرتُ بالعار من نفسي لأنني احتجت إلى المساعدة”. العار يتكدّس فوق العار. والعار يدور ويعيد إنتاج نفسه؛ لقد شعرتْ أوسبورن كرولي بأنها “محكومةٌ بأن تحمل عارَ” الرجلِ الذي اعتدى عليها (الرجل المدان هو ذاته بــِ “فعلٍ همجيّ وشائن”).
مع الوقت، تجد أوسبورن كرولي بعض العزاء وتبدأ بالتعافي بالفعل، بفضل تصميمها ومساعدة المختصين. لكنها قبل ذلك أمضت سنوات، كما تكتب عن نفسها، “متمنية أن أختفي”، محاولة أن “أمحو حياتي”، و”باحثة عن أكثر أفعال الاختفاء عمقًا وديمومة”؛ أن تكون لا مرئية، أن لا تُرَى، وتغطي وجهها ربما، كما فعلت أرابيلا في مركز الشرطة. لكن، في آخر الأمر، ترفض أوسبورن كرولي هذا الاختفاء، لا سيما في فعل كتابة هذا الكتاب، لأنه “أن أكون لا مرئية يعني أن أتخلى عن الشيء الملموس الوحيد الذي أملك أن أقدّمه: هذه الحكاية التحذيرية”.
الكتابة – ربما عن الاعتداء الجنسي على وجه الخصوص- هي تمرين في إدارة العار: ليس العار المتعلّق بالاعتداء ذاته وحسب، بل المتعلّق بفعل الكتابة عن الاعتداء كذلك، كما بالكتابة عن الذات. ولطالما كان على كتّاب المذكرات، لا سيما كتّاب المذكرات النساء، أن يفاوضوا خليط المشاعر المعقّد الذي تستحثّه الكتابة بضمير المتكلم، ومناخ ألم النساء. في مقالة “نظرية كبرى موحدة في ألم الأنثى”، والتي نشرتها في كتاب مجموعة مقالاتها “امتحانات التعاطف” (2014)، كتبت ليزلي جاميسون:
“أنا سئمة من ألم الأنثى وسئمة أيضًا من السئمين منه. أعرف أن موضوع المرأة المتألمة هو كليشيه، لكني أعرف أيضًا كثيرًا من النساء اللاتي ما زلن يتألمن. ولا أحب الافتراض القائل بأن جراح الأنثى قد أصبحت شأنًا باليًا؛ ذلك الافتراض يجرحني”.
لقد لقيت مجموعة جاميسون تلك استحسانًا واسعًا عند نشرها، ولعلّ من الإنصاف القول بأن القرّاء والناشرين لم يسأموا بالتأكيد من ألم الأنثى خلال السنوات اللاحقة لنشر الكتاب. كتبت جاميسون، في ذلك الحين، عن روح سائدة حولها بوصفها “ما بعد مجروحة”، كما كتبت عن إدراكها بأن “الانجراح” شأنٌ مبالغ فيه، ومغال في تقديره. وقد تماهت جاميسون مع تلك الروح وكتبت: “أنا أذكى من ذلك. نحن جميعًا، كما يبدو، أذكى من أن نكون من تلك النسوة اللاتي يلعبن دور الضحية، يربضن حول فراش المرض، ويوزّعن ألمهن مثل بطاقة عمل”.
مذكرات النساء
غالبًا، تم النظر إلى كاتبات المذكرات على أنهنّ يكشفن أكثر مما يجب، وأنهنّ يتاجرن بوجعهنّ، وكثيرًا ما ذمّهن النقاد بسبب ذلك. مذكرات كاثرين هاريسون “القبلة” (1997) حول علاقتها المحرّمة بأبيها، هي توصيف سابرٌ مصاغ بشكل متقن لتجربة مؤلمة ومربكة. وعلى الرغم من كون ذلك الكتاب إنجازًا جميلًا، فإن مراجعاته تستذكر حقبة تكتّمٍ ماضية، وتتهم كاتبته بالنرجسية، وبكونها استدرجت الانتهاك. كذلك، قوبل عملا المذكرات للكاتبة الإنكليزية ريتشل كوسك عن الأمومة والطلاق – “عملُ حياة: عن الأمومة”(2001)، و”العاقبة: عن الزواج والانفصال” (2012)- بشيء من النفور الشرس. ثم أعيد الاعتبار إلى كوسك لاحقًا كروائية ذات سرد متجرد على نحو خاص؛ وفي عام 2012، وصفتها كاتبة العمود الصحافي في “صاندي تايمز” كاميلا لونغ على أنها “هشة”، وتضيّع نفسها في “تفاصيل محتدمة” لا تنتهي.
لطالما تساءلتُ عن الشراسة التي تُقابل بها كتب المذكرات التي كتبتها نساء. ربما لا أحد منّا يريد أن يرتبط بالنساء اللاتي جُرحن؛ لكن الارتباط، أو الاعتراف بهنّ على الأقل، يكون غالبًا مفعّلًا في الحافز لقراءة المذكرات. وعندما تواجه القارئات كتابة الكاتبات اللاتي يروين بالتفاصيل تجارب مؤلمة ومحفّزة للعار (والتي قد تكون القارئات اختبرنها أيضًا)، فإنهن يستطعن اختبار الشعور بالعار مرة أخرى، وعلى نحو مضاعف. ثمة إذًا تدوير للعار؛ إن إثارة وخزاتِ العار التشابهيّ عند القارئ يمكن أن يؤدي إلى اختلاجاتِ النفور وتشنجاتِ الازدراء تجاه المرأة التي تسلّم عارها للورق، وتعرّيه طوعًا ليراه الجميع. وقد يوجد الإقبال والنفور معًا في القارئ ذاته. فقد يتوق القرّاء للحكايات المكتوبة بضمير المتكلم والتي تروي التجارب الصادمة لشخص ما، لكنهم في الوقت ذاته يشعرون بالذعر منها؛ كما يشعرون بالخزي لأجل الكاتبة، ربما لأجل تعرية الذات غير المنضبطة التي تقوم بها. وفي هذا المجال، كتبت المنظّرة في مجال أحرار الجنس هيذر لاف، مستشهدةً بعالم الاجتماع إيرفنغ غوفمان، عن ازدواجية المشاعر التي يحسّ بها الأشخاص الموصومون عندما يُواجَهون بــِ”نوعهم”. فعندما نشعر بوخزات التشابه مع الكاتبات اللاتي نقرؤهنّ، لا سيما حين نميّز مهانةً مشتركة أو وجعًا مشتركًا، فإن توقًا لعدم التماثل قد يعقب ذلك مباشرة، لأننا نريد أن نؤكد لأنفسنا أننا، بتعبير جاميسون، “ما بعد مجروحون”. هل تنفر النساء عندما يقابلن “نوعهنّ”؟
حين يؤنّب النقّادُ الكاتباتَ لكشفهنّ أكثر مما ينبغي، نرى العار يدور، يُمرَّر من شخص إلى آخر، يُرفض، ثم يستدير على أعقابه، مثل هراوة لا يريدها أحد، لكن الجميع قد لمسها خلسة. وهكذا يحوم حول كل كتابة ذاتية مسمّاة “اعترافية” – حول كل كتابة مذكراتية- السؤال: لماذا؟ ما هو مسوّغك، ما هي أحقيّتك؟ ولأجل ذلك، غالبًا ما تستبق الكاتبات أنفسهنّ السؤال، ساعيات إلى الإجابة عنه بعبارات سياسية- من أجل تبرير انتهاكهنّ المضاعف (التجربة، والكتابة عنها)- عبر استدعاء هدف أكبر: التطلع إلى مساعدة النساء الأخريات. تعترف أوسبورن كرولي في “أختار إيلينا” أنها، ككاتبة، لا تستطيع تغيير العالم؛ لكنْ “ما أستطيع تغييره هو حجم الصمت. وزنه. وكيف يسحبنا للأسفل”. إنها ليست القصة التي كانت لتختارها، تكتبُ أوسبورن كرولي في أحد المقاطع المُحزنة، بل القصة التي لديها، و”كلّ ما أستطيع فعله هو أن أرويها، وآمل أن صدقي بشأن ما فقدتُه قد يساعد النساء والفتيات لكي يرفعن صوتهنّ بينما لا يزال التعافي ممكنًا”. تحاول الكاتبات أن يحمين أنفسهنّ من اتهاماتٍ بقلة الحياء، من مزاعم بالية بالنرجسية والانغماس في الذات تطارد الكتابة بضمير المتكلم حدّ الغثيان. إنهنّ يحاولن استباق احتمال أن العار سيلتصق بهنّ.
في مسلسل “قد أدمّرك”، لا تستكشف كويل العار الذي يستحثّه الاعتداء الجنسي وحسب، بل ما يتحوّل العار إليه كذلك. في أعقاب الاعتداء الجنسي مباشرة، تقف أرابيلا في مواجهة محيّرة مع زين، وهو كاتب يساعدها في إتمام كتابها: يزيل زين الواقي أثناء ممارسة الجنس من غير علم أرابيلا. وعندما تدرك ذلك – وتدرك أن ذلك أيضًا يندرج ضمن فئة الاعتداء- تتهمه علنًا بالاغتصاب. وتصوّر صديقتها تيري فيلمًا عن ذلك الاتهام العلني أثناء مؤتمر عن الكتابة، ملتقطة زين وهو يهرب من المكان. في إثر ذلك، تُصنع صور “Gifs” المتحركة، تضج مواقع التواصل الاجتماعي بالحادثة، وتتدفق إشارات الإعجاب الالكترونية، والقلوب، والتأييد. وقرابة نهاية المسلسل، تكون أرابيلا قد تحولت إلى بطلة في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أن الناس في الشارع يطلبون التقاط صور “سيلفي” معها. ومع وصول ملفها الشخصي إلى حده الأقصى، تستنهض أرابيلا “حروب انستغرام وتويتر ضد المغتصبين ومدمري الحياة كل يوم” (وفق كلماتها). كما أنها تقاطع تفاعلات كثيرة في الحياة الواقعية لكي تنشر على الإنترنت (حتى أثناء وجودها في موعد مع طبيب). ومع الوقت، يطلب منها المتابعون والمتابعات أن تشهّر بمغتصبيهم وتفضح معلوماتهم الشخصية على الإنترنت، محولين إياها إلى ناطقة باسم وسائل التواصل للحديث علنًا عن الاعتداء الجنسي. لقد تحّول عارها إلى تحدٍّ، والتحدي أصبح درعًا تحمي به نفسها، ولكنها به أيضًا تؤذي أصدقاءها.
“هل تحتاجين وسائل التواصل الاجتماعي؟” تسألها المعالجة النفسية. “من المهم أن نتكلم”، تجيبها أرابيلا. غير أن المعالجة – وهي شخص هادئ، لطيف، ومتشكّك- تخبرها أن نماذج الأعمال لشركات التواصل الاجتماعي تحفّز الكلام “غالبًا على حساب الاستماع”.
يبدو إذًا أن رفض العار وتحديه، أمران حسنان بدهيّان. إن الرغبة برفض العار المفروض على النساء تتحول إلى إصرار على رفض ذلك العار. ألا ينبغي أن نفتخر بعدم شعورنا بالعار؟ ألا ينبغي أن نشعر بالعار من شعورنا بالعار ذاته؟ قد يلعب هذا الجانب دورًا في محاولة الكتابة المذكراتية أن تتخطى تجارب مؤلمة كالاعتداء الجنسي: فعلُ توازنٍ معقد تسعى الكاتبات من خلاله لاستكشاف العار وربما التطهر منه؛ أو تحويله إلى شيء آخر، مثل يقظة نسوية، وتخلص من وصمة العار وإطلاق الأحكام.
لكن تلك مهمة صعبة بالفعل، بما أن العار، كما قالت سيدويك، “مُعدٍ على نحو غريب ومُفردن على نحو غريب”. والمنفعة التي تحصدها الراويات من الحديث عن تجارب الاغتصاب التي مررن بها غير واضحة، كما ناقشت الباحثة الإنكليزية تانيا سيريسير في كتابها “المُجاهرة” (2018). في ذلك الكتاب تستشهد سيريسير بكتاب “لا تفعلي: كلمة للنساء” (1988) الذي يروي توصيف الكاتبة الكندية إيلي دانيكا للاعتداء الجنسي الذي تعرضت له وهي طفلة. وتقول سيريسير إنه بعد أن تلاشى الاهتمام بقصة دانيكا، بدا كما لو أن أثر القصة قد تلاشى أيضًا. “عبر السنين، كنت أنا وعدد من الزملاء نكسر الصمت مرارًا وتكرارًا، لكنه كان يعود ليبتلعنا مرة أخرى بعد لحظات من كلامنا”، تقول دانيكا. وإلى تلك الكلمات تضيف سيريسير مجازها المعبّر: “بدلًا من اختراق الصمت مثل حجرٍ عبر لوح من الزجاج، كان كلام دانيكا أقرب إلى حجر أُلقي في بركة ماء، صانعًا طرطشة وتموجاتٍ تتلاشى تدريجيًا، تاركة سطح البركة كما كان من قبل”.
يُطلب من النساء، غالبًا باسم النسوية، أن يكنّ فخورات ومتحديات؛ أن يتحدثن عن تجاربهن الفظيعة المليئة بالعار تحديدًا من أجل رفض ذلك العار. ويُطلب من النساء أن يظهرن المقدرات النسوية المتمثلّة بالسمو، والتحدي، والقوة: أنا لا أشعر بالعار! لكن، في أثناء ذلك، يتم تذكيّرهن باستمرار أن أحدًا ما، في مكان ما، مستعد جدًا لأن يقول لهنّ: “يجب أن تشعرن بالعار!” كذلك، تُشجَّع النساء على أن يروين تجاربهن السلبية، حتى وإن كانت هذه الحكايات تُكذَّب في معظم الأحيان. ومع كل هذا، تُحَثّ النساء على قصّ قصصهن المليئة بالعار، وعلى قصّها باعتزاز.
وقد كان هذا ملموسًا على وجه الخصوص في الشهور المحمومة لحملة “#أنا أيضًا” (#MeToo) بين عامي 2017 و2018؛ والتي اشتملت على وعي بأن النساء مطالبات أن يعرضن مهانتهن كوسيلة لجلاء الرؤية السياسية، وعلى محاولةٍ لتثقيف وإنذار الناس، وصولًا لتغيير الحالة الراهنة. أنا نفسي شعرتُ بذلك؛ ذلك الضغط لأضمّ صوتي، قصتي، للجوقة. وأستطيع أن أشعر به الآن أيضًا، فيما يتعلق بجريمة قتل المرأة البريطانية سارة إيفرارد في آذار/ مارس 2021. بالإضافة إلى الطريقة التي تثير بها وسائل الإعلام الاجتماعي وتكافئ أفعالا كلامية مختلفة؛ هذه المرة حول الطرق المتعنّتة التي تُقيَّد بها حركة النساء، والطرق التي ندير بها، نحن النساء، مخاطر العنف. إن عملية تجميع الأدلة تلك فعّالة على نحو لا يمكن إنكاره، ومن شأنها أن تجعل النساء يدركن أنهنّ لسن وحيدات، ويشعرن كما لو أن العالم يستمع إليهنّ. وقد يكون لها الكثير من الآثار الإيجابية الأخرى. لكن تسعير الكلام ليس نزيهًا.
لا يزال هنالك نفور وازدراء تجاه “اعتراف” النساء، أو قصصهن، وقدر كبير من الشك بها أيضًا، لا سيما حين يتعلق الأمر باتهامات الأذى الجنسي. ولا يزال العار يلحق بالنساء في كثير من الأحيان جرّاء هذا النوع من الإفصاح. ولهذا، من المنطقي أن يكون الشعور بالعار شيئًا تريد النساء التخلص منه، إما بالبقاء صامتات أو بادّعاء أنهن لا يشعرن بالعار؛ أو بكلمات أخرى، بمحاولة نقل العار وصولًا إلى إزاحته.
عن حق كل امرأة بقصّ قصتها
بالنتيجة، على الكاتبات أن يكتبن ما يردن كتابته، ولا يجب أن يلحق العار بأحد جرّاء قصّ قصته. ولهذا، سأدافع دومًا عن حق كل امرأة بقصّ قصتها، بكتابة كلماتها، وبقول كلامها. لكن، ما يؤلمني أن حديث النساء غالبًا ما يُؤمل منه أن يكون نقطة انطلاق نحو مزيد من المساواة، في حين أن المساواة ذاتها غالبًا ما يُبطل مفعولها من قبل قوى تتعايش بسهولة مع احتفاءٍ بقصص النساء، ومن قبل سياسات تجعل النساء باستمرار هشّات على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي؛ سياساتٍ تفشل في حماية النساء من العنف الأسري، عدم الاستقرار الاقتصادي، العنف العنصري، أو رهاب المتحولات جنسيًا.
أحيانًا أسأل نفسي أي نفعٍ للقصص في الأوقات الحزينة اليائسة؟! وكيف سيكون الحال، أتساءل، لو لم تكن النساء مضطرات لقصّ ألمهن وعارهن بالتفصيل من أجل أن تأخذ اللامساواة والعنف ضدّهن مكانته المستحقة في المشهد العام؟ أما في الوقت الحالي، فما لدينا هو أسوأ ما في الحالتين: تصنيمُ قصصنا، وواقعٌ اجتماعي راكد لا يُعرقَل فيه التقدم وحسب بل يتراجع كذلك. أتساءل أيضًا: لماذا على العدالة والمساواة أن تكونا منوطتين باستعراضٍ للجروح؟ ففي أحسن الأحوال، هذا الاقتضاء غير مُجدٍ؛ وفي أسوأ الأحوال، هو شديد القساوة. وعندما نرغب بسماع وقراءة قصص النساء، ما الذي نريده بالضبط؟ وهل نستطيع أن نجعل النساء يستكشفن حقًا كلّ مشاعرهن السلبية، بما فيها العار والمهانة، من دون أن يكنّ مضطرات للتشديد على غاية أسمى؟ أو من دون الحاجة لإظهار الاعتزاز والتحدي؛ كتأكيدٍ يفيد بطمأنة الجميع أن العار لم يلتصق بهنّ؟
*****
كاثرين أنجل: أكاديمية وكاتبة بريطانية. حاصلة على دكتوراه في تاريخ الطب النفسي والجنسانية من جامعة كامبريدج. تدير قسم الماجستير في اختصاص الكتابة الإبداعية والنقدية، قسم اللغة الإنكليزية، واختصاص المسرح والكتابة الإبداعية، في كلية بيركبيك، جامعة لندن. مؤلفة كتب: “من دون إتقان: كتاب عن الرغبة، الأكثر صعوبة في الحديث عنها” (2012)، و”عقدة الأب” (2019)، و”غدًا سيكون الجنس جيدًا مرة أخرى” (2021). تعيش اليوم في لندن.
رابط المقال الأصلي:
https://aeon.co/essays/shame-heaps-upon-shame-in-womens-memoirs-of-suffering
ترجمة: سارة حبيب
ضفة ثالثة