الهوية معادلة معقدة/ بروين حبيب
ما الذي يساهم بشكل فعلي في بناء الهوية؟ هل يمكن لأي نظام معرفي أن يغير المعالم الهوياتية للأفراد والجماعات؟ وبتعبير آخر هل يمكن للهوية كشعور ثابت يربط الإنسان بجذوره الجغرافية والثقافية، أو الدينية، أن ينسحق جرّاء عوامل معينة، ما يؤدي إلى انسلاخه من كل تلك الروابط وتحوّله لكائن يقف فوق ألواح متحركة، تحرمه الشعور بالاستقرار والثبات، وتقوده تدريجيا إلى اختلال توازن دائم، ثم فقدان كامل لبوصلة التقدم؟
الفرضية المبنية على مفهوم «الهوية» ازدادت تعقيدا مع الزمن، فالتغيرات التي تعرّض لها العالم، أسست لفرضيات جديدة لمفهومها، وكلها صحيحة رغم اختلافها. فيما تفكك تماما المفهوم القديم الذي يربط الهوية بالانتماء الجغرافي، أو العشائري، أو ما شابه. يصعب اليوم أن نحدد هوية شخص سُحِبت منه جنسيته في بلده الأصلي، بسبب إفصاحه عن بعض الأفكار التحررية، التي لا تناسب هيئات سياسية ودينية في بلاده، وفي المقابل مُنِح جنسية البلد المستضيف له، والتي تمنحه كل حقوقه التي حرم منها في بلده الأم. نقف عاجزين أمام هذه التغيرات النّاسفة لرؤى لم تعد مناسبة لواقعنا المعيش. أتابع مثلا قصة حياة المرأة التي شعرت دوما بأنّ روحها الحقيقية وجدت في جسد غير جسدها، وأجرت سلسلة من العمليات الجراحية التي حوّلتها إلى رجل، ما جعلها تجد السكينة مع نفسها أخيرا، يصدمها المحيط المقرب منها والبعيد، برفضه الكلي لها بعد هذه التغيرات، فلا يكتفي بتعذيبها معنويا ونبذها، بل يهددها بإنهاء حياتها، فتخرج من كل الحدود التي ترسم هويتها القديمة، تطلب لجوءا، حتى تجد نفسها وقد أصبحت «مواطنا» في بلد آخر، بهوية جديدة، تسمح له بالعيش كأي إنسان عادي، لكن تماما كما أشعر بالقلق وأنا أتعثر بين ضميري التأنيث والتذكير لوصف الحالة كنموذج صغير عن تغير مفهوم الهوية، أرى هذا التعثر الذي يقع فيه كثيرون، مهاجرون من أجسادهم إلى أجساد أخرى، مهاجرون من أوطانهم الظالمة إلى أوطان أكثر إنسانية ورأفة بهم، وآخرون هاربون من طوائفهم إلى اللاطائفة، من ثقافة بائدة إلى ثقافة مواكبة للتطورات العظيمة التي يشهدها العالم…
لا هوية ثابتة، لا مفهوم مستقر على تعريف من تلك التعريفات، التي تفرّعت من بعضها بعضا. يُولد اليوم مفهوم جديد مرتبط بصناعة الهوية، لا على ما تفرضه الجماعات المنغلقة على حالها، بل على الفردانية المنبثقة من رغبات الأنا، ومدى ارتياحها في عناوين تعرّف عنها. يصعب على القارئ المتعب من أسئلة لا أجوبة نهائية لها أن يبحر في شساعة المصطلح واتجاهاته سيسيولوجيا وسيكولوجيا، كما ليس كل قارئ على استعداد لخوض هذه المغامرة، لهذا تحضرني حكاية شانتال وحبيبها جان مارك، التي رواها الروائي الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا في روايته «الهوية» وكما العادة أراهن على أن الرواية أكثر تمكنا لإيصال الأفكار للقارئ مهما تعقدت.
كونديرا نفسه سحبت منه جنسيته التشيكية، بعد معاناة وقمع لم يحتملهما، فلجأ إلى فرنسا وطلب جنسيتها، هذا جانب يجعلنا ربما نفهم موضوع الهوية من خلال أدبه، وتحديدا هذه الرواية. وهي من أغرب رواياته، بعنوان مباشر، وحاد، دون أي إيحاءات أدبية جمالية فيه، كأنما انزلق من قلم كونديرا سهوا وهو يفكر في موضوع يبني عليه فكرته الروائية.
الحكاية لا تبدو في البداية أكثر من قصة رجل وامرأة عاديين جدا، يقعان في الحب، لكن، انتباه! الكاتب يحذرنا منذ البداية من أن «الشخصيات الروائية لا تولد من جسد أُمّ من لحم ودم، لكن من حالة، جملة، استعارة تحتوي على بذرة بشرية أساسية يتخيلها المؤلف غير مكتشفة بعد، أو أنه لم يتم ذكر أي شيء أساسي عنها».
تولد «شنتال» من رحم وصف شحيح يحيلنا إلى هوية غريبة، «الرجال لن ينظروا إليّ بعد الآن» فمتى كانت محبوبة؟ ومتى أصبح الأمر غير ممكن؟ ما الذي تغيّر فيها لتصبح لامرئية أو غير جذابة؟ ثم هل يمكن أن تتغيّر نظرتنا للآخر، فنحبه في بعض حالاته، ونكرهه في أخرى؟ هل الحب مرتبط بهوية المعنِي التي تعرف عنه، أم بأمور أخرى يجتهد في إبرازها؟ وضعنا كونديرا في مواجهة قصة مربكة، مليئة بالأسئلة، وقد قيل إنها نص تراقصت فيه علامات الاستفهام بعدد نافس الكلمات، فهل السبب صعوبة بلوغ المعنى الحقيقي للهوية؟ للوهلة الأولى نعتقد أن كونديرا يقدم نمطا بسيطا من الكتابة، بعيدا عن «أطروحاته الفلسفية» لكنه سرعان ما يعود إلى الصف الذي تعوّد أن يوقفنا فيه، فيخرج من قبعته السحرية المعنى تلو المعنى لاحتمالات هوية شنتال، وكأنه يريدنا أن نعرف أن الهوية صورة يصنعها الآخر لنا، بالتأكيد هناك هوية ذاتية، نولد معها وتولد معنا، لكن الحياة تمضي في خط تصاعدي، نكبر ونشيخ، نفقد أحبة، ونكسب آخرين، وخلال حياتنا المتشابكة بالناس يصبح لدينا أعداء، هم أيضا لديهم تأثيرهم في صنع هويتنا، وتغيير ثقلها حتى بيننا وبين أنفسنا.
في تخيلات شانتال، وضياعنا ونحن نبحث معها عن مراسلها السري، تطرح كل أنواع الاحتمالات للرجل المعجب الذي يطاردها برسائله، ننسى جان مارك الذي تقاسم معها الحياة على الحلوة والمُرّة، نجد مبررات لها وهي تستعيد فرحها بعاشقها السري، ثم ننتكس دفعة واحدة حين نكتشف النهاية التي خطط لها المؤلّف، فتحضر آراؤنا، بحدّة وانفعالية، فما حدث ليس مقبولا. فكل تلك الهزّات العنيفة وليدة مخيّلة ملّت من السكون، والحياة الرتيبة، وهي الأسباب التي تجعل من هوية صاحبها هوية باهتة، مسطّحة، تكاد تظهر للعيان لو أنها بعيدة بعض الشيء عن الظلال، لو أن الضوء لامسها قليلا، وهذا كان دور «فكرة الرسائل» التي كانت العامل الفعّال الذي كشف الستارة عن هوية مجهولة لشانتال، وأيضا لجان مارك نفسه.
يحصل الإنسان على هويته باسم ولقب عائلي وتاريخ ومكان مولده، ثم شيئا فشيئا تبدأ التعقيدات تطاله، حين تتسع مداركه ومعارفه، ويصبح القرار في يده أو في يد غيره. قد يكون مجرد «قطرة» تسبح في سائل بحجم المحيط، وقد يكون النقطة التي تقترب شيئا فشيئا وتأخذ الأشكال المختلفة وفق المسافة التي تتحكم في نظرنا.
ألم نرَ أشباحا في غرفنا ليلا حين كنا أطفالا؟ ألم يكن الشبح في الحقيقة قميصا معلّقا على شمّاعة مثبّتة على الحائط؟ أو انعكاسا لنور طفيف تسرب من بين شقوق النافذة؟
أعتقد أن الحديث عن الهوية، وفق نظرة أدبية محضة، يشبه إلى حدٍّ كبير نظرة كونديرا، وهو أقرب إلى اكتشاف هوية الشبح الذي تختلف حقيقته، حسب قوة الأضواء الموجهة نحوه، وقوة الإدراك المرتبطة بتقدمنا في العمر كعامل زمني جد مهم.
لكن هل انتهينا هنا؟ لا أظن، فاليوم حسم العلم معضلة الهوية في معطيات أخرى بدأت ببصمات أصابع اليد، إلى بصمة العين، ونتائج الـ DNA . هل ينسف هذا الأمر بما قدمته الفلسفة وعلم الاجتماع من مفاهيم للهوية؟ بالطبع لا، فكل هذه المعارف بدأت بفضول السائل، وانتهت بالإجابات، لكن بعد أن سلكت دربا طويلا نحوها. أمّا الخطورة فكانت حتما تكمن في قمع فضول السائل، فقد تطور وتحقق مفهوم الهوية لدى الشعوب المؤمنة بالحرية. أمّا في الشق المظلم من العالم فلا يزال الإنسان غير متأكد من هويته أقميص هو أم مجرّد شبح!
شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي